بعد محاولات متكررة للقاء لم يتحقق، اجتمع في لندن يوم الجمعة 14 مارس/آذار وزيرا الخارجية: الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف لبحث الأزمة الأوكرانية وجهًا لوجه، بعد أن فشلا في التوصل لمخرج خلال عدد لا يُحصى من الاتصالات الهاتفية. ولم تقتصر الاتصالات على كيري ولافروف وحسب، بل شملت أيضًا الرئيسين: الأميركي باراك أوباما والروسي فلاديمير بوتين. الحقيقة، أنه لا يكاد يوجد زعيم أوروبي واحد لم يحاول الضغط على الرئيس الروسي، ولكن النتيجة كانت أن الأزمة، بدلاً من أن تفتح حلاً دبلوماسيًا، ازدادت تعقيدًا.
ما كان يسعى إليه كيري من لقاء لندن ليس التوصل إلى حل، بل مجرد شراء بعض الوقت عن طريق إقناع لافروف بتأجيل الاستفتاء -المزمع عقده في شبه جزيرة القرم، يوم الأحد 16 مارس/آذار- حول استقلال الجمهورية التي تتمتع بحكم ذاتي عن أوكرانيا، والذي يمهد الطرق لانضمامها للاتحاد الروسي. في نهاية ست ساعات طويلة من المباحثات، خرج لافروف في مؤتمر صحافي منفرد، ليقول: “إن الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية ليس لهما رؤية مشتركة للوضع في أوكرانيا”، مؤكدًا على أن استفتاء القرم سيمضي بالفعل. ولكنه قال أيضًا إن روسيا ليس لديها خطط لاجتياح جنوب شرق أوكرانيا؛ حيث تعيش أقلية روسية ملموسة، في تلميح إلى أن هدف روسيا هو شبه جزيرة القرم وحسب، على الأقل في الظرف الراهن.
الخلاف الغربي-الروسي حول القرم لم ينشأ في القرم، بل هو وليد أزمة وخلاف أكبر: الأزمة الأوكرانية، التي تُرى الآن باعتبارها أكبر وأعقد أزمة جيوسياسية تواجه أوروبا منذ نهاية الحرب الباردة. ما الذي حدث في أوكرانيا؟ ولماذا؟ وما هي الدوافع التي جعلت روسيا تتخذ مثل هذه الخطوة في القرم؟ وفي حال ضمت شبه الجزيرة لروسيا، فهل تفجر الخطوة الروسية حربًا باردة جديدة؟
ثورة أم انقلاب غير شرعي؟
تولى الرئيس فيكتور يانكوفيتش حكم أوكرانيا بعد انتخابات صحيحة بلا شك، ولكن يانكوفيتش، ابن البيروقراطية الشيوعية التي قبضت على مقاليد البلاد بعد استقلالها عن الاتحاد السوفيتي في صيف 1991، لم يكن مؤهلاً سياسيًا لقيادة أوكرانيا خارج انقسامها البالغ، ولا أخلاقيًا لبناء نظام حكم شفاف وغير فاسد. كان هدف ثورة أوكرانيا “البرتقالية” في 2004 -التي اندلعت بعد تزييف يانكوفيتش (كان آنذاك رئيسًا للوزراء) الانتخابات وتأمين فوزه بالرئاسة- تحرير البلاد من سيطرة البيروقراطية السوفيتية، الفاسدة والموالية لموسكو، وبناء نظام ديمقراطي. وبالرغم من أن الثورة أنتجت دستورًا جديدًا، وأعطت المعارضة رئاستي الجمهورية والحكومة، إلا أن الانقسامات بين الحكام الجدد أعادت يانكوفيتش رئيسًا للحكومة لفترة قصيرة.
حققت زعيمة المعارضة يوليا تايموشنكو فوزًا متوقعًا في انتخابات 2007 البرلمانية، ولكنها أخفقت في تحقيق فوز آخر في انتخابات فبراير/شباط 2010 الرئاسية، التي أعادت يانكوفيتش رئيسًا للجمهورية. الضغوط والتدخلات الروسية، من جهة، وسوء إدارة تايموشنكو لشؤون البلاد والعلاقة مع روسيا، أفسحت المجال لعودة رجال البيروقراطية الشيوعية للحكم في ردة سافرة على دستور وآمال ثورة 2004. ولكن يانكوفيتش لم يتعلم الدرس؛ فخلال السنوات الأربعة الماضية، تراجعت مقدرات أوكرانيا الاقتصادية، الهشة أصلاً، بصورة فادحة، وبرزت عائلة الرئيس باعتبارها مركز الثقل المالي والسياسي في البلاد.
في الظاهر، كانت العلاقة مع الاتحاد الأوروبي هي من أطلق شرارة الانتفاضة الأوكرانية الثانية في أقل من عشر سنوات. ولكن الحقيقة أن هذه العلاقة ليست سوى تجسيد رمزي لجملة الإشكاليات الاستراتيجية، السياسية، والاقتصادية، التي تعيشها أوكرانيا منذ بروزها كدولة مستقلة قبل أقل من خمسة وعشرين عامًا.
كون أوكرانيا مهددة بالفشل الاقتصادي وما سيشكّله مثل هذا الفشل من مخاطر على الاتحاد الأوروبي، والصلة الوثيقة بين استقرار أوكرانيا وأمن إمدادات الطاقة لأوروبا، دفع الاتحاد الأوروبي لبدء مباحثات حول اتفاق شراكة مميز بين أوروبا وأوكرانيا. وانتهت هذه المباحثات بالعرض الذي قدمه الاتحاد للرئيس الأوكراني في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، واعتبره يانكوفيتش قاسيًا وغير كاف لتلبية حاجات بلاده المالية الملحة.
ولكن، وحتى قبل أن ينتهي اللقاء بين الطرفين، كان الأوكرانيون يحتشدون في ميدان الاستقلال في العاصمة كييف، بهدف الضغط على الرئيس لقبول اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي. في النهاية، رجحت الضغوط الروسية على يانكوفيتش -الذي اعتُبر دائمًا حليف موسكو- على الضغط الشعبي، وخلال أيام قليلة، وبعد رفض العرض الأوروبي، قدّم الرئيس بوتين لأوكرانيا عرض مساعدات بقيمة 15 مليار دولار، وتسهيلات في أسعار الغاز؛ وهو ما تصوره بوتين كافيًا للحفاظ على أوكرانيا خارج النفوذ الأوروبي، وتصوره يانكوفيتش كافيًا لوضع حد لحركة الاحتجاج.
بيد أن الأوكرانيين لم يبتلعوا الطعم؛ فخلال يناير/كانون الثاني، وتحديدًا بعد إعلان الحكومة تبني قانون منع الاحتجاج في 16 يناير/كانون الثاني، اتسع نطاق الحركة الشعبية المناهضة ليانكوفيتش، سيما في المقاطعات الغربية، مهد القومية الأوكرانية، ونشرت حكومة يانكوفيتش قوات الأمن الخاصة في كييف ومدن الاحتجاج الرئيسة الأخرى، بينما بدأت قوات الشرطة في المقاطعات الغربية في التحلل ورفض تنفيذ أوامر وزير الداخلية. في الجانب الآخر، توجهت مجموعات من المحتجين، مشكّلة من أطياف مختلفة من اليمين القومي، وحزب الوطن المعارض، والليبراليين، وعموم المواطنين الأوكرانيين، لاحتلال مقار مؤسسات الدولة في عدد من المدن، بل ومواجهة قوات الأمن بالسلاح.
طالبت موسكو كييف بحسم الموقف، وذكرت تقارير أن وزير الخارجية الروسي لافروف قال للرئيس الأوكراني إن عليه أن يقرر ما إذا كان سيصبح “ممسحة” للأوروبيين! حاول يانكوفيتش المناورة مع حركة الاحتجاج بوعود إقالة الحكومة وتشكيل حكومة وحدة وطنية؛ ولكن هدفه الرئيس كان القضاء على حركة الاحتجاج؛ وهو ما بدأ بالفعل في 18 فبراير/شباط؛ حيث سقط خلال اثنتين وسبعين ساعة التالية العشرات برصاص قوات الأمن الخاصة، أغلبهم في العاصمة كييف، وجُرح وأُصيب المئات.
دافع المحتجون في ميدان الاستقلال عن اعتصامهم بقوة، وأخذت أعداد متزايدة بالانضمام إليهم. ومنذ مساء 18 فبرير/شباط، كانت شوارع كييف المركزية قد تحولت إلى ساحة حرب حقيقية. ولم يكن المشهد مختلفًا في العديد من مدن مقاطعات الوسط وغرب البلاد. والخشية من انحدار البلاد إلى حرب أهلية طاحنة، جاء بوفد الاتحاد الأوروبي المكون من وزراء خارجية ألمانيا وبولندا وفرنسا، إلى كييف، حيث انطلقت مفاوضات ماراثونية مع الرئيس يانوكوفيتش، بحضور مبعوث روسي في بعض مراحل التفاوض. انتهت المفاوضات في 21 فبراير/شباط إلى اتفاق وقّع عليه وفد المعارضة، يقضي بتوقف الحملة الأمنية ضد الانتفاضة الشعبية، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة قبل نهاية العام، ولكن مزاج الشارع لم يكن في وارد القبول ببقاء يانكوفيتش ولو لعدة شهور أخرى.
في الأيام الثلاثة التالية، بدأ البرلمان الأوكراني الذي شهد انشقاق العديد من الحزب الحاكم وانضمامهم للمعارضة، إجراءات تنفيذ الاتفاق ومحاولة الاستجابة لمطالب الشارع، في محاولة لمحاصرة مؤشرات الانحدار للحرب الأهلية؛ فأُقيلت حكومة يانكوفيتش، بمن في ذلك وزير الداخلية المتهم بإصدار أوامر إطلاق النار على المحتجين؛ وأعاد البرلمان دستور 2004، الذي يحدد سلطات الرئيس ويعزز سلطات البرلمان ورئاسة الحكومة؛ وأسقط قانون منع التظاهر؛ وأصدر قانونًا بالإفراج عن يوليا تايموشنكو التي وضعتها محكمة موالية للرئيس في السجن منذ 30 شهرًا بتهمة استغلال المنصب؛ ثم صوّت البرلمان بأغلبية كبيرة على عزل الرئيس.
كان يانكوفيتش، على أية حال، قد رأى اتجاه الريح؛ وبعد محاولة فاشلة لمغادرة البلاد على متن طائرة خاصة، غادر إلى معقل حزبه في شرق البلاد. في 22 فبراير/شباط، وبالرغم من رفض يانكوفيتش قرار البرلمان بإقالته، صوّتت الأغلبية على قيام رئيس البرلمان بمهام رئيس الجمهورية. ما تبقى هو امتحان عملية التغيير الأكبر والأكثر خطورة.
بصورة من الصور، تعبّر “الانتفاضة الأوكرانية” عن رد الأوكرانيين على حقبة الثورة المضادة، التي أطاحت بمكتسبات ثورة 2004، وعن رغبة أغلبية الأوكرانيين في التخلص من طبقة الحكم الفاسدة، وإقامة علاقات أوثق مع أوروبا، والحد من تدخل روسيا في شؤونهم. ولكن المشكلة، أن موقع أوكرانيا يجعل من الصعب على روسيا التخلي عنها للغرب بسهولة؛ كما أن المحتجين والأغلبية البرلمانية لم تلتزم باتفاق 21 فبراير/شباط، الذي تضمّن مساقًا دستوريًا وقانونيًا لانتقال السلطة. وهذا ما يجادل به الروس في رفضهم لجملة التطورات اللاحقة للاتفاق؛ بل ويتهمون الأوروبيين، وسطاء الاتفاق، بأنهم شجّعوا المحتجين على تجاهل الاتفاق الذي وقّعه وفدهم.
لعنة الجغرافيا والتاريخ معًا
أحد المعاني التي تُعزى لاسم أوكرانيا: الحافّة، أو التخوم؛ ذلك أن هذه البلاد الممتدة على سهل فسيح، تصل مساحتها إلى أكثر من 600 ألف كيلومتر مربع، اعتُبرت دائمًا حافة الشرق الأوروبي ونهاية غرب القارة. وقد ازدادت الأهمية الاستراتيجية لأوكرانيا بعد انهيار الكتلة الشرقية، حلف وارسو، ومن ثم الاتحاد السوفيتي، في سلسلة الأحداث الكبرى من 1989-1991، التي وضعت نهاية للحرب الباردة. عندما أعلنت أوكرانيا استقلالها في 1991، لم تكن روسيا في وضع يسمح لها بتحدي هذا الاستقلال، بأية صورة من الصور، ولكن أوكرانيا تعني الكثير لروسيا، بل وللقومية الروسية؛ كييف ومحيطها، وليس موسكو، هي أول موطن للروس، وأوكرانيا القرن العاشر الميلادي هي المهد الأول للأرثوذكسية الروسية.
قرب ميناء سيفاستوبول في شبه جزيرة القرم، تقول الأسطورة الروسية، تم تعميد الأمير فلاديمير في 988، في أولى خطوات دخول المسيحية لهذه البلاد. وبالرغم من أن شبه جزيرة القرم كانت منطقة إسلامية عثمانية طوال خمسة قرون، فإن استيلاء الروس عليها في 1773 مثّل انتقالة كبيرة في مصير روسيا، التي أصبح لها للمرة الأولى ميناء في المياه الدافئة وأسطول قرب المتوسط. في حرب القرم 1853-1856، التي وقفت فيها بريطانيا وفرنسا إلى جانب العثمانيين وانتهت بهزيمة فادحة للروس، صمد الجنود الروس 11 شهرًا، محاصرين في سيفاستوبول، في حادثة خلّدها دستوفسكي في إحدى رواياته وما لبثت أن احتلت موقعًا بارزًا في الذاكرة القومية الروسية.
وبالرغم من أن سياسة القوميات السوفيتية جعلت أوكرانيا إحدى الوحدات الفيدرالية للاتحاد السوفيتي، إلا أن فترات استقلال أوكرانيا عبر التاريخ كانت قصيرة وعابرة. في أغلب تاريخها، انقسمت هذه البلاد التي تُعرف اليوم بأوكرانيا بين الإمبراطوريات: الروسية، النمساوية-الهنغارية، والبولندية-الليتوانية. وإن كان لروسيا ثلاث بوابات رئيسة: وسط آسيا، والقوقاز، وأوكرانيا، فإن الأخيرة هي أخطرها على الإطلاق. عبر السهل الأوكراني، مرّت الجيوش الأوروبية الغازية لروسيا في حربين فادحتين وبالغتي الأثر على رؤية الروس القومية لذاتهم وعلى رؤيتهم لشروط بلادهم الجيوسياسية: الحرب النابليونية والحرب الألمانية النازية.
خسارة أوكرانيا، باختصار، ليست خسارة جيوسياسية وحسب، بل خسارة لجزء من التاريخ والذاكرة ومكونات الهوية الروسية.
ولا تقلّ أوكرانيا أهمية، من وجهة نظر الكتلة الغربية والاتحاد الأوروبي؛ فأوكرانيا، مساحة وسكانًا، هي أكبر دولة أوروبية خارج الاتحاد الأوروبي، الذي يسعى لأن يكون الإطار المستقبلي للقارة، ثقافيًا واقتصاديًا وسياسيًا، وخارج حلف الناتو، الإطار الأمني للكتلة الغربية. وتُعتبر أوكرانيا الممر الرئيس، حتى الآن، لأنابيب النفط والغاز الروسي إلى أوروبا الغربية. لو كانت أوكرانيا دولة مستقرة ومزدهرة اقتصاديًا، ودولة مستقلة بالفعل، كما النمسا وسويسرا، مثلاً، لما بلغ الاهتمام الغربي-الأوروبي بها ما بلغه خلال السنوات الأخيرة.
من جهة ثالثة، لا تتعلق مشكلة أوكرانيا بوجودها في هذا الجوار الحرج وحسب، بل أيضًا في تكوينها كدولة قومية حديثة بخلاف دول مثل ألمانيا وإيرلندا؛ حيث تعبّر الدولة عن هوية إثنية متجانسة، يُعتبر وجود الدولة نفسها هو الضامن لهوية أوكرانيا الموحدة، التي يتشكّل شعبها من أغلبية أوكرانية، وأقلية روسية معتبرة، لا تقل عن 18 بالمائة من السكان، تمثل أقلية معتبرة بين سكان المقاطعات الثماني الشرقية من مقاطعات البلاد الأربع والعشرين؛ والأغلبية في جمهورية شبه جزيرة القرم ذات الحكم الذاتي.
في المقاطعات الشرقية والقرم، على وجه الخصوص، لا تتحدث أغلبية السكان اللغة الروسية وحسب، ولكن صلات السكان التجارية، الصناعية، والعائلية بروسيا عبر الحدود تمتد إلى عقود طويلة، وربما قرون. وتحرص روسيا منذ استقلال أوكرانيا في 1991، إثر انفراط عقد الاتحاد السوفيتي، على تعزيز هذا النفوذ، وعلى إعادة بناء علاقة سياسية مستقرة ودائمة بأوكرانيا، سواء على مستوى العلاقات الثنائية، أو ضمن إطار الاتحاد الأورو-آسيوي، الذي تصور الرئيس بوتين أن أوكرانيا ستكون حجر زاويته. بدون أوكرانيا، في الحقيقة، يفقد الاتحاد الأورو-آسيوي معناه كلية.
هذه البنية الهشة للأمة، والروابط التاريخية المعقدة بين أوكرانيا وروسيا، ستكون موضع امتحان بالغ الصعوبة خلال الأسابيع والشهور من تصاعد التدافع على مستقبل أوكرانيا وشعبها بين الروس والكتلة الغربية.
الرد الروسي
منذ السبت، 1 مارس/آذار، على الأقل، لم يعد ثمة شك في أن القوات الروسية تنشط في شبه جزيرة القرم، وأن هذه القوات، معززة بدعم من أهالي شبه الجزيرة الروس، الذين يمثلون أغلبية السكان، سيطرت على المطارات الرئيسية. تحركت هذه القوات حتى قبل أن يصدر البرلمان الروسي والمجلس الفيدرالي لروسيا الاتحادية تفويضًا للرئيس بوتين باستخدام القوة في أوكرانيا، “إن تطلبت الأوضاع ذلك”. في الوقت نفسه، قامت قوات موالية لروسيا باحتلال برلمان شبه الجزيرة، وسارع البرلمان إلى الإطاحة بالحكومة المحلية، وتشكيل حكومة جديدة موالية لموسكو؛ كما أعلن سيطرته على كافة المؤسسات والقوات الأمنية في القرم. وفي خطوة بالغة الدلالة، دعا برلمان القرم لاستفتاء حول مصير شبه الجزيرة في 16 مارس/آذار.
مشكلة بوتين أنه فوجيء بالتسارع الكبير في الحدث الأوكراني، بعد أن اعتقد في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي أنه نجح بالفعل، بالدعم المالي الهائل الذي قدمه للرئيس الرئيس الأوكراني السابق، في إيقاف عجلة الشراكة الأوكرانية مع الاتحاد الأوروبي. وحتى بعد أن تصاعدت وتيرة الثورة وقبلت روسيا على مضض بتوقيع يانكوفيتش اتفاق التسوية مع ممثلي المعارضة بوساطة أوروبية، في 21 فبراير/شباط، لم يتوقع بوتين أن يرفض المعارضون الأوكرانيون الاتفاق، وأن يدفعوا باتجاه الإطاحة بالرئيس يانكوفيتش وإدارته؛ ولا توقع هروب يانكوفيتش من المواجهة بالطريقة التي هرب بها من عاصمته. يرى الرئيس الروسي أن الثورة الأوكرانية هذه المرة أكثر جدية، وأصعب على الاحتواء، وأن روسيا تواجه وضعًا لم تتصوره من قبل: خسارة أوكرانيا لصالح الغرب.
وتوضح نظرة واحدة إلى الخارطة الأوروبية حجم هذه الخسارة ودلالاتها لأمن روسيا؛ ففي جوار البحر الأسود، تقدم الغرب إلى بلغاريا ورومانيا، إضافة إلى وجود تركيا أصلاً ضمن حلف الناتو؛ بمعنى أن روسيا، حتى وإن سيطرت على القرم، ستواجه في البحر الأسود جوارًا كل دوله من أعضاء الناتو أو الصديقة للغرب. في الشمال الغربي للقارة الأوروبية، تقدم الغرب في عملية احتواء استراتيجية غير مسبوقة، ليضم دول البلطيق السوفيتية السابقة الثلاث (إستونيا-لاتفيا-ليتوانيا)، إضافة لبولندا. المتوقع، في حال وقّع نظام كييف الجديد اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، أن تسارع جورجيا ومولدوفيا لتوقيع اتفاقيات مشابهة؛ وبالرغم من التحالف الوثيق بين روسيا وبيلاروسيا، فإن بوتين لا يثق كثيرًا في قدرة الرئيس البيلاروسي على الصمود. الثورة الأوكرانية، باختصار، تهدد الاستراتيجية الروسية في أوروبا، وأمن الأسطول الروسي في البحر الأسود، كما لم يحدث من قبل منذ نهاية القرن الثامن عشر.
بيد أن خيارات بوتين محدودة؛ فغزو أوكرانيا واحتلالها، وإعادة الرئيس الهارب بالقوة، لم يعد ممكنًا. ليس فقط لاعتبارات دولية ودبلوماسية، ولكن أصلاً لحجم العداء لروسيا بين ملايين الأغلبية الأوكرانية في وسط وغرب البلاد. في الوقت نفسه، فإن القبول بما حدث لا يعني هزيمة استراتيجية وحسب، بل ويحمل مخاطر التأثير على الداخل الروسي نفسه؛ وهذا ما دفع موسكو للتحرك العسكري في شبه جزيرة القرم، وعلى الحدود مع مقاطعات شرق أوكرانيا. تحرُّك موسكو للسيطرة على القرم؛ حيث يتمتع السكان الروس بأغلبية متواضعة في مقابل التتار المسلمين من سكان شبه الجزيرة الأصليين والأوكرانيين، هو محاولة رد محدودة على خسارة جيوسياسة كبرى، وتقليل حجم هذه الخسارة.
وليست خيارات بوتين فقط، ولكن خيارات القوى الغربية هي الأخرى محدودة؛ فقد كان الأوروبيون هم وسطاء اتفاق 21 فبراير/شباط، ولكنهم لم يستطيعوا الحفاظ عليه، وقبلوا تجاوزه خلال ساعات فقط من توقيعه. وبالرغم من جدول زيارات وزراء خارجية دول أوروبا الرئيسة ووزير الخارجية الأميركي لكييف، فليس من المتوقع أن يدفع حلف الناتو، الذي يواجه امتحانًا بالغ التعقيد، بقوات عسكرية إلى أوكرانيا، أو يلجأ إلى مواجهة عسكرية مع روسيا في شبه جزيرة القرم. وبوجود روسيا والصين في مجلس الأمن الدولي، فمن المستحيل أن تستطيع الدول الغربية الحصول على قرار أممي ضد روسيا، وحتى استخدام سلاح العقوبات يبدو محفوفًا بالمخاطر؛ ليس فقط لأن روسيا تستطيع الرد على أية عقوبات مالية بمثلها، ولكن أيضًا لحاجة عدد من الدول الغربية، بما في ذلك ألمانيا، لإمدادات الغاز الروسي.
في إحدى وجوهها، تمثل الأزمة الأوكرانية حالة غير مسبوقة في تاريخ أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؛ حيث تستخدم دولة القوة وسلاح الانتماء القومي لضم أراضي دولة أخرى. ومن جهة أخرى، تواجه روسيا للمرة الأولى في التاريخ الحديث احتمال أن ترى النفوذ الغربي على حدودها الغربية والجنوبية معًا.
نتائج
كانت الكتلة الغربية، منذ مطلع التسعينات، هي التي أقرت سياسة تقسيم الدول على أساس قومي، ليس فقط في القرن الإفريقي والعراق والسودان، ولكن أيضًا، وهذا هو الأهم، في يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا. أما سجل الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين في “التدخل بالقوة” في دول أخرى فسجل طويل. أقصى ما تستطيعه الدول الغربية هو معاقبة روسيا دبلوماسيًا -مثل تعطيل منتدى الثمانية الكبار- واقتصاديًا وماليًا. وبالرغم من أن القدرات الغربية على العقاب في المجالين المالي والاقتصادي يمكن أن توقع أذى كبيرًا بروسيا؛ فإن عواقب مثل هذه العقوبات على أوروبا، الشريك المالي والاقتصادي وشريك الطاقة مع روسيا ستكون كبيرة. وحتى إن ذهبت أوروبا لخيار العقوبات، فالواضح أن موسكو ترى حجم التحدي الذي تواجهه في أوكرانيا أكبر من أي عبء مالي واقتصادي محتمل.
ما يحاوله بوتين في خطوة ضم شبه جزيرة القرم هو تخفيف وقع الهزيمة الأوكرانية؛ سيما أن شبه الجزيرة كان جزءًا من روسيا السوفيتية حتى 1954، عندما منحها الزعيم السوفيتي خورتشوف لأوكرانيا في لحظة “خمر ثقيلة”، كما يقول البعض، أو لأنه كان أوكرانيًّا، كما يقول آخرون. ولا يبدو، حتى الآن على الأقل، أن موسكو ستتحرك للسيطرة على أو ضم مقاطعات الشرق والجنوب الشرقي الأوكراني، نظرًا لعدم وجود أغلبية روسية قاطعة، ولما تمثله مثل هذه الخطوة من تصعيد للأزمة.
حتى منتصف هذا الشهر، مارس/آذار، كان ثمة احتمال بنجاح الجهود الدبلوماسية في إيجاد حل ما، يعيد أوكرانيا، حتى بدون يانكوفيتش، إلى روح اتفاق 21 فبراير/شباط، الذي يوفر انتقالاً دستوريًا للسلطة مع نهاية العام؛ مما سيعطي متنفسًا لتأسيس شرعية جديدة في كييف، وبروز قيادة أوكرانية سياسية تجد طريقة للموازنة بين الضروريات الاستراتيجية الروسية والتقارب مع الاتحاد الأوروبي في الوقت نفسه. مثل هذا الحل أصبح أقل احتمالاً بعد استفتاء القرم، وإن كان لا يجب استبعاده في المدى المتوسط. والواضح أن أوروبا والكتلة الغربية ستصب خلال الشهور القليلة المقبلة من المساعدات لأوكرانيا ما يعمل على عودة الاستقرار، وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية سريعة، وتنصح القادة الأوكرانيين الجدد بالتعايش مع فقدان القرم، بدون الاعتراف بشرعية الاستفتاء أو ضم شبه الجزيرة لروسيا، انتظارًا لجولة تفاوض أخرى، تصل إلى توافق حول المستقبل الجيوسياسي لأوكرانيا. وهذا بالتأكيد دلالة قرار البرلمان الأوكراني، السبت 15 مارس/آذار، قبل يوم واحد من الاستفتاء، بحل برلمان شبه جزيرة القرم؛ بمعنى أنه أصبح كيانًا غير شرعي من وجهة نظر كييف، وكل ما يصدر عنه من قرارات هي بالتالي غير شرعية.
أخيرًا، ومهما كان الاتجاه الذي ستأخذه، فالواضح أن الازمة الأوكرانية، وبصورة مفاجئة وسريعة وغير متوقعة، لن تنتهي قبل أن تترك أثرًا بالغًا على روسيا وجوارها الإقليمي والأوروبي. لم تكن موسكو بعيدة عن الصواب عندما قدرت منذ نهاية التسعينات أن مشكلتها الكبرى هي في الخارج القريب، وليست أية قضية أخرى في العالم. محاولات روسيا تأمين جوارها السوفيتي السابق، وُوجِهت بتقدم استراتيجي غربي حثيث، حُمل في أغلب الحالات على موجة تحول ديمقراطي وأحلام الانضواء في مجتمع الرفاه الأوروبي. ما تشير إليه الأزمة الأوكرانية أن تصعيد الروح القومية الروسية سيصبح الأساس الذي ترتكز إليه سياسة مقاومة هذا التقدم الغربي، وأساس الردود العسكرية الروسية المحدودة، وأساس الطبيعة التحكمية المحافظة لنظام الحكم الروسي. ولكن العالم ليس بصدد حرب باردة أخرى؛ فروسيا أضعف بكثير من تحمل أعباء مثل هذه المواجهة المديدة مع الكتلة الغربية، والخطوات التي اتخذتها في شمالي جورجيا والقرم ليست أكثر من ردود محدودة على تحولات كبرى في الجوار، لم تعد قادرة على التحكم بها.
من جهة أخرى، وبصورة لم يخطط لها أحد، تعيد الأزمة الأوكرانية الأهمية الجيوستراتيجية لتركيا، كما لم تُستَعَدْ منذ نهاية الحرب الباردة. ينصب اهتمام تركيا في الوقت الراهن على حقوق ربع المليون تتاري من سكان القرم، وهذا ما جعل الموقف التركي من الأزمة أقل حدة نسبيًا في التعامل مع موسكو. ولكن الصورة الأكبر للأزمة هي الأهم في النهاية، سيما أن لتركيا صلة مباشرة بكل مواقع التوتر في الجوار الروسي القريب، سواء في أوكرانيا أو شمالي القوقاز. وبالرغم من أن الكتلة الغربية لا تجد الآن وسيلة لانتزاع القرم من روسيا، فليس من المستبعد أن تجد وسيلة أخرى لمعاقبة الرئيس الروسي على محاولاته إفساد عرس الذهاب الأوكراني غربًا.
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات