لا شك أن علاقة المخرج الأمريكي دارن أرنوفسكيDarren Aronofsky باليهودية أكبر من الانتماء الثقافي الذي أكده، فالحضور اليهودي في أعماله كان دومًا هناك، إلى أن تحول في فيلم “نوح” إلى تجربة هرمنوطيقية، ولئن بدا فيلم “أم” mother امتدادًا لهذه التجربة، فإنه برأيي أقرب إلى مقولة فريدرش نيشه الشهيرة: “لا توجد حقائق، فقط تأويلات”.
لقد ضاعت الحقيقة وسط التهافت التأويلي الذي أبهر البعض، وأزعج الآخرين، فلم نخرج بالنهاية إلا بمشاعر متضاربة لعلها أهم ما قدم أكثر الأفلام جدلاً في السنة المنقضية.
لا يمكن الحديث عن فيلم أم mother! دون التورط في حرقه، فالامتناع عن الإخبار عن أحداثه لا ينقذ القارئ، لأن جزءًا من فهمها توفره أداة التأويل، والخيار الأسلم هو أن يشاهد الفيلم قبل القراءة عنه.
تجربتي الأولى معه كانت مربكة، محيرة وممتعة أيضًا، لم أستطع الخروج بصورة كاملة، فالمشهد أشبه بشظايا لعناصر هجينة، لم يكن معقدًا أن أرى بعض المشاهد التوراتية الواضحة، فمع دخول الأخوين إلى المنزل واقتتالهما حتى موت أحدهما، كان واضحًا أننا أمام تمثل لقصة قابيل وهابيل، مما يعني أن أباهما ليس سوى النبي آدم وزوجته الشقراء (ميشال فايفر Michelle Pfeifer) الفضولية المندفعة ليست سواء حواء.
ومن هنا، يتحول الأمر إلى تمرين تأويلي، قلبٌ للمشاهد والعناصر إلى رموز واستعارات، لقد جاء الرجل العجوز (إد هاريس Ed Harris) إلى منزل الشاعر (خبيير بارذم Javier Bardem) ليعبر عن عشقه لكلماته، ولقدرته الفريدة على الخلق، نستنتج من ذلك ما ترمز إليه شخصية الشاعر، الذي لا يعرف له اسم، ويشار إليه بـ”هو” Him بهاء كبيرة.
وتظهر الإشارة إلى حواء (ميشال فايفر) في البداية مع تلك الندبة التي برزت عند ظهر العجوز ليلة قدومها، كأن ضلعًا من ضلوعه قد اختفى! ويمعن أرونفسكي في توضيح العلاقة بين الزوجين والشاعر، حينما دفعت الزوجة/حواء زوجها إلى الدخول إلى الغرفة الممنوعة، فكسرا قطعة الكريستال، فطردهما الشاعر من الغرفة بإشارة بليغة بيده.
لم يكن تأويل المشاهد انطلاقًا من المدونة التوراتية معقدًا، خصوصًا مع مخرج مثل أرونفسكي
وبعد جريمة القتل، تواصلت المقاربة مع مشاهد سفر التكوين، فقد خلفت الجريمة بقعة من الدم حفرت عميقًا في أرضية المنزل ولم تضمحل، كإشارة إلى تأثيرها في مستقبل الإنسانية، ومن الحفرة، تسربت الدماء إلى باطن المنزل، وفتحت بابًا في الجدار، فخرجت من خلفه ضفدعة هي رمزٌ للشرور في الكتاب المقدس.
وجاءت الشرور مع الناس الذين تهافتوا على المنزل ليعبروا عن عشقهم لكلماته وإبداعه، فإذا هم يعيثون في بيته فسادًا، ولم ينتهوا عن ذلك إلا عندما كسروا حوض المطبخ وتسببوا فيما يشبه طوفان نوح، وبالفعل، كان الطوفان سببًا في إجلائهم عن المنزل، ثم إن أرنوفسكي انتقل إلى العهد الجديد، فها هو يحدثنا عن هذا الطفل المنتظر الذي بمجيئه، جاء الوحي مرة أخرى، وولد الكتاب/الإنجيل.
فعاد الناس، وعاد الفساد إلى حد مروع، وتحول المنزل إلى ساحة حرب حقيقية، وجن الناس والتهموا ابن شاعرهم حيًا واقتسموا لحمه ودمه، في إشارة إلى ضلوع البشر في قتل المسيح ـ حسب الرواية المسيحية.
لم يكن تأويل المشاهد انطلاقًا من المدونة التوراتية معقدًا، خصوصًا مع مخرج مثل أرونفسكي، مع ذلك، فنحن لم نظفر أكثر من ذلك سوى بحيرة مطلقة، ماذا يريد أرونوفسكي من هذه المقاربات؟ أين تصب هذه الرموز؟ والأهم من ذلك، إلى ماذا ترمز الأم التي جسدت دورها جنفر لورانس Jennifer Lawrence؟
تبدو “هي” عصيةً على التأويل من داخل المدونة التوراتية، فـ”هو” لا زوج له، وحتى رمزيًا لا يبدو أن الأمر يستقيم كثيرًا، ربما عدا فكرة أن ترمز إلى “الطبيعة الأم” Mother nature الدارجة في الثقافة الغربية، لكن سرعان ما يتداخل ذلك مع الأم كوالدة لما يبدو أنه المسيح، فينهار البناء التأويلي مرة أخرى.
لا يجب أن نغفل عن الحقيقة البديهية، التي مفادها أن الفيلم ليس عن آدم أو حواء أو عن هذا الزخم من البشر الوحشيين
إن طبيعة الأم ليست أمرًا عارضًا وسط البناء، بل محور المشهد، ومنطلقه، فنحن نرى الأحداث من وجهة نظرها، ونتفاعل بشكل مشابه تقريبًا لانفعالاتها، ربما نستغرب غالبًا طيبتها وصبرها المفرط، لكننا لا نستطيع أن نفهم تقريبًا ردود فعل الشخصيات الأخرى، إنها شخصيات غريبة ومثيرة لكل شيء سيئ تقريبًا، ولقد عمد المخرج إلى أن تتحرك القمرة مع تحرك الأم فتجعلنا نكتشف ما تكتشفه، ونرى ما تراه، وهو ما منح الفيلم طابع الإثارة والفزع.
ولأن الأم هي الشخصية المحورية فلم يكن هذا التناقض التأويلي بين العهد القديم والجديد منطقيًا، كان لا بد من البحث عن فكرة جديدة خارج المدونة الدينية، ولقد منح بناء الفيلم فضاءً خصبًا للبحث وإعادة التركيب.
لا يجب أن نغفل عن الحقيقة البديهية التي مفادها أن الفيلم ليس عن آدم أو حواء أو عن هذا الزخم من البشر الوحشيين، لقد اختارت القمرة رفيقها منذ البداية، فصاحبت الأم طيلة الرحلة الرهيبة منذ استيقاظها وحتى احتراقها، وعدا نقل مشاعرها تجاه المعتدين عليها، كانت أيضًا تنقل مشاعرها تجاه زوجها الذي كان أكثر سادية تجاهها بنرجسيته المفرطة، لا شك أن علاقة الزوجين، تأخذ في هذا الفيلم بُعدًا أكبر بكثير من مقاربة سخيفة بين الله والطبيعة.
قد لا نشكك في مشاعر الحب التي تجمع الزوجين، فـ”هو” يجد دائمًا الكلمة المناسبة ليعبر عن ذلك، وفي أسوأ الأوضاع، كان دومًا يجد طريقًا لإيجادها وإنقاذها، ثم إنه لم يمسها بسوء حتى النهاية (بشكل مباشر على الأقل).
أما “هي” فكان دومًا مصدر ثقتها الوحيد، تعود إليه كلما تقوض العالم من حولها، على أن العلاقة اتخذت لونًا لا يشبه كثيرًا لون الحب، إذ غلبت عليها صفة عمودية مبطنةٌ، أضمرتها طبيعة الزوج النرجسية، وطبيعة زوجته المؤْثرة، لا يشغل الرجل سوى إشكالية الخلق، سواء خلال أزمة الوحي التي استبدت به في الجزء الأول، أو خلال حفلة التمجيد وهستيريا الإجلال التي تقرب للعبادة في الجزء الثاني، تبلغ نرجسية الرجل حدًا لا يطاق، حدًا تتزامن به قدرته على الكتابة مع قدرته على الإنجاب، لذلك وهبهم في النهاية ولده، كأنما يهبهم شعره.
حسب أرنوفسكي ليس الفيلم سوى إعادة تشكيل لقصة الإنسان على الأرض من وجهة نظر الطبيعة الأم، واستنادًا إلى القصص التوراتي وعناصر مسيحية أخرى
وفي المقابل، تتصرف زوجته كامرأة معيارية، نموذجية طبقًا للصورة النمطية، أنوثتها طاغية، ولقد ركز المخرج كثيرًا على هذا الجانب، فرأينا جينفر لورانس كما لم نرها من قبل، خصوصًا في المشهد الأول حينما وقفت بثوب النوم الرقيق الذي تخللته أشعة شمس خجولة، أمام المنزل.
إيمانها بمؤسسة الزواج يقيني، حتى بدت كأنها جاهزة سلفًا لاستقبال جنين، ورغبتها في الإنجاب كانت عارمة إلى حد لم يخف على ضيفتها الثقيلة، وينعكس اهتمامها بالعائلة، على اهتمامها بالمنزل، وإشرافها المباشر على تهيئته، إذ لا تنفك تشكل معالمه وألوانه في إصرار وحب جديرين بربة بيت نموذجية.
نحن إذًا أمام صورة نمطية للزوجين، ربما كاريكاتورية أيضًا، وهي صورة لا تلقي بألوانها خجلاً على هامش المشهد، بل هي محوره، لذلك كان لزامًا أن نعيد النظر في مسألة التأويل القصصي المسيحي.
نشعر إزاء ما حدث في المنزل بانزعاج حقيقي، كما لو أننا الزوجة، لا نفهم سببًا للتخريب الذي يمارسه أناس تستضيفهم وتمنحهم كل شيء، لكننا لا نفهم أشياء أخرى كثيرة، ربما كان هؤلاء أغرابًا، أما الزوج فلا، ومع ذلك فهو يتصرف بشكل مزعج، ربما لا يوجد أمر أكثر إزعاجًا في الفيلم من نظراته البريئة الخاوية.
أحيانًا ننفصم عن الزوجة، فنشعر حيالها بذات الانزعاج، لأنها تحافظ على قدرتها على الخضوع والعطاء، في ظرف مستحيل، لقد بدت لي هذه العلاقة المرضية بين الزوجين أكثر إثارة من الغزو البربري للمنزل، حتى كأن الغزو تجسيد كابوسي لهذه العلاقة، هل كنت مخطئًا؟
أجل، فحسب أرنوفسكي ليس الفيلم سوى إعادة تشكيل لقصة الإنسان على الأرض من وجهة نظر الطبيعة الأم، واستنادًا إلى القصص التوراتي وعناصر مسيحية أخرى، يتلخص الفيلم إذا بحسب المخرج في تلك المقاربة التي تجعل الطبيعة امرأةً تمنح الناس كل شيء، فيواجهون عطاءها بجحودٍ سادي وبوحشية مخيفة، وهو تفسير محبط كثيرًا، كان على أرونوفسكي تجنب البوح به على الأقل، إذ أجده ينتقص من العمل أكثر بكثير مما يضيف إليه.
عدم استقامة المقاربة بين الزوجة والطبيعة، لا يقف عند تأويلية القصص الديني، ويجعله بلا فائدة تقريبا، بل يحدث شروخًا في رمزية العلاقة الزوجية أيضًا
يجعلني هذا التفسير أتساءل عن وظيفة القصص الديني في هذه المقاربة، حكاية الطبيعة مع الإنسان بدأت مع الإنسان الأول، وربما وجد أرنوفسكي الملحد أن قصة آدم استعارةٌ لطيفة لتلك اللحظة، وبالمثل، كانت الجريمة الأولى التي حدثت بسبب الميراث، استعارةً أخرى لفكرة بدء الصراع البشري/البشري لامتلاك الأرض، وهو الصراع الذي كان وراء كل المصائب التي تعرضت لها الطبيعة، لكننا مع مرور هذه الشذرات البلاغية، نوغل أكثر في ضباب عقيم، فما دلالة الطوفان مثلاً؟ لقد كان انفجار أنبوب المياه في المطبخ كارثيًا على الأم، لكن من قال إن الطوفان كان ضارًا بالطبيعة؟ وتنتهي لعبة الاستعارة مع الوليد، ذلك أن الأم نفسها تكف عن كونها تجسيدًا للطبيعة، وتتحول إلى شخصية دينية أخرى هي مريم، فما علاقة هذا التحول بالطبيعة؟ ولماذا بدا وكأن ميلاد المسيح، أشبه شيء بقيامته؟
لقد كانت مشاهد الحروب المروعة أقرب إلى عصرنا الحاليّ، وهو عصر خالٍ من الوحي والنبوة والمعجزات، بل ومن الإنجيل نفسه تقريبًا، فلماذا كان ميلاد الرضيع شارة بداية لهذا الخراب؟
ولو اختزلنا الاستعارة في طرافتها، فهو ليس أول من مارسها ولنا في الأدب أمثلة عديدة كجون ستاينبك في شرق عدن ونجيب محفوظ في أولاد حارتنا وكل ما قد تتميز به، هو قدرتها على انتهاك الحساسيات الدينية لبعض المشاهدين وهي قدرة محدودة لأنها غير مباشرة، ومقنعة.
عدم استقامة المقاربة بين الزوجة والطبيعة، لا يقف عند تأويلية القصص الديني، ويجعله بلا فائدة تقريبًا، بل يحدث شروخًا في رمزية العلاقة الزوجية أيضًا، ألا يفترض من الطبيعة أن تكون إحدى إبداعات الشاعر أيضًا؟ ربما كان ذلك ما حاول الشاعر تجسيده من خلال قطعة الكريستال، لكن ما دلالة هذا التزاوج بين الإلهي والطبيعي فيما يخص انتهاك البيئة؟ ربما هو اتهام ضمني لتواطؤ الدين وسلبيته تجاه ما وقع للطبيعة، ولكنه تأويل متكلف، لا يحتمل محورية شخصية الزوج، واهتمام المخرج المفرط به.
خلال الخلوة، لم يبد الزوج حضورًا نفسيًا حقيقيًا، وغالبًا ما كان حانقًا لغياب الوحي، ولم يعاوده الحماس إلا حين انقطاع الخلوة
وأخيرًا، هناك علاقة الزوجة بالمنزل، وهي أقل العلاقات تطورًا، رغم كونها الأكثر قيمة في المقاربة، فإذا كانت الزوجة تمثل الطبيعة، فالمنزل حتمًا يمثل كوكب الأرض، أو على الأقل، هو امتداد مكاني لذات الطبيعة التي جسدت.
لقد حاول أرنوفسكي تبيين هذه العلاقة العضوية في لقطتين، كانت فيهما الأم تسمع نبض المنزل، وتشعر بالحياة تدب فيها، وفي اللقطتين، تواصل الأم عملها الدؤوب الأبدي لتأثيثه وتطوير الحياة فيه، وتبدي كلما سنحت الفرصة فخرها بإنجازها، على أن الإنجاز الذي نقلته عينا الأم بدا متواضعًا، باهت الألوان، هشًا، خاليًا من كل زخرفة، وخاليًا من كل شكل تكنولوجي متطور.
يهمس أحدهم أن في ذلك إحالة إلى أبدية الفضاء وعدم ارتباطه بزمن ما، ولكن الأمر ليس كذلك فعلاً! تذكروا الهاتف في المطبخ، والعناصر المعاصرة في الصالون وفي الحمام، وفي تلك اللحظة التي خرجت فيها الأم وواجهت الخضرة الممتدة حول منزلها، بدا الفارق عظيمًا حتى التناقض بين المحيطين، وهي لحظة، أراد منها أرونوفسكي أن يخلق تواصلاً، فإذا هو يحدث قطيعة بصرية، لقد ولدت الطبيعة عظيمة، مشبعة الألوان، بهيجة، حية، أو هكذا عرفها الإنسان الأول على الأقل، لذلك، أعتقد أن أرنوفسكي فشل في أهم استعارات الفيلم.
منزل/أرض لا يغري كثيرًا بالحياة، وقصص ديني جانبي لا يخدم فكرة الفيلم التي يروج لها المخرج، وتأويل لا يرقى كثيرًا إلى الهرمنوطيقا (كممارسة تأويلية على النص المقدس واستخراج معانيه العميقة)، كل ذلك يدفعنا إلى تجاهل ما يقول المخرج، والعودة مرة أخرى إلى ما تقوله صورته، نرى مرة أخرى علاقة زوجية متقلبة، نراها بمنظور الزوجة، فهي النعيم كلما كانا وحيديْن ولا شيء يحول بينها وبينه، وهي الجحيم كلما اقتحم هذه الخلوة شخصٌ أو أشخاصٌ.
ولئن كنا لا نرى الأشياء من منظور الزوج، إلا أننا نستطيع أن نخمنه، فخلال الخلوة، لم يبد الزوج حضورًا نفسيًا حقيقيًا، وغالبًا ما كان حانقًا لغياب الوحي، ولم يعاوده الحماس إلا حين انقطاع الخلوة، ينشد الرجل سعادته خارج محيط الزوجية، وهو المكان الذي تبحث فيه الزوجة عن سعادتها.
ثنائيةٌ قديمة ومستهلكةٌ بالفعل، وجزء من صورة نمطية للرجل والمرأة: الرجل الكاتب، الخالق، سليل الحضارة، والمرأة/الطبيعية الخصبة، عماد العائلة، ربة البيت، القلقة دومًا، الخائفة أبدًا إن استعارة الرجل الشاعر وربة البيت للدلالة عن الله والطبيعة، ليست في الحقيقة سواء تقية عن عدم وجود استعارة! فالله الذي ـ بحسب المخرج ـ لا يؤمن بوجوده، لا يبدو متهمًا بالجرائم البيئية، ولو كان متهمًا، فالرسالة الموجهة لنا كبشر، تفقد كل معنى.
لا يتميز الفيلم بأفكارٍ جديدة، أو تساؤلات عميقة حقيقية، ولا يجعلنا مترددين أمام موقفين، إنما يكتفي بالوصف بعيون شخصياته ونفسياتهم
وجوده في المقاربة إذًا أقل قيمةً بكثير من حضوره الطاغي في الفيلم، والسبب أن الفيلم الذي يصور ظاهريًا جرائم الناس في حق الطبيعة، يصور في باطنه، جرائم هذا الكائن المبدع الخالق النرجسي تجاه زوجته المخلصة الوفية، أترانا نتحدث عن أرنوفسكي نفسه؟
شهد زمن إنجاز الفيلم علاقةً بين المخرج أرنوفسكي والبطلة جينفر لورنس، وامتدت إلى ما بعد العرض بشهور قليلة، وكشفت لورنس للصحافة عن هوس صديقها المفرط بفنه، فحالما انتهت جولتهما الترويجية، ظل الفيلم موضوعه المفضل، أما هي فكان كل همها آنذاك أن تنسى عملها وتفكر في أمر آخر مع صديقها.
لقد تميز الشاعر بنرجسية قوية، ولكنها نرجسية أصيلة، جديرة بفنان، ولا شك عندي أن أرونفسكي لم يشكل هذه الشخصية بعين الخيال، ومن ذات المصدر، جاء بشخصية الأم، لقد انتهت علاقته بجينفر لورنس التي أبدعت في فيلم mother! ومنحته كل ما عندها بالفعل، لتبدأ ربما علاقة لا نعرف عنها شيئًا، بدقة شبيهة بتلك التي وصفها في نهاية الفيلم.
إننا حيال بورتريه ذاتي كابوسي مقنع للمخرج، ومحاولة ربما للاعتراف بفضل المرأة في عملية الخلق، بل تراه ينسب إليها عملية الخلق الأجل والأعظم وهي خلق الحياة، فيوازي بين الوليد والقصيد.
فيلم أم! ليس كما يبدو في “باطنه” المقنع، بل هو أقرب شيء لظاهره الساذج، ولم تكن محاولات التقية والإلهاء بالقصص الديني والأفكار البيئية سوى مقاربات منقوصة وتفتقر للدقة، وأحيانًا للعلة (لا يوجد سبب مقنع لاستعمال القصص الديني في مقاربة عن الطبيعة).
لقد كان واضحًا أن الفيلم نتاج كتابة سريعة غير متأنية مثلما أكد المخرج نفسه (قال إنه كتب النص في ثلاثة أيام)، فمع التأني لا نكسب الدقة والمتانة فحسب، وإنما نخسر الكثير من ذلك الرابط الخفي الذي يجعل العمل الفني شخصيًا يكاد يحمل وجه صاحبه.
ولا يتميز الفيلم بأفكارٍ جديدة، أو تساؤلات عميقة حقيقية، ولا يجعلنا مترددين أمام موقفين، إنما يكتفي بالوصف بعيون شخصياته ونفسياتهم، ولكنه يمنحنا الكثير من الحيرة اللطيفة، ويجعل تجربة مشاهدته فريدة.
“أم” ليس تحفة فنية عظيمة كما حاول إيهامنا الكثير من المتحمسين، وليس أيضًا فيلمًا سيئًا كما أكد أغلب من لم يفهموه، ولكنه على قدر كبير من الإبداع، وعلى قدر أكبر من الإنسانية.