ما أشبه الليلة بالبارحة، فها هي الأحداث تعيد نفسها بصورة ملفتة للنظر، وكأن التاريخ قد عقم الجديد فبات يكرر نفسه، حتى إن اختلفت الأسماء والأشخاص والأماكن، لكن الوقائع والأساليب والأهداف كما هي، في إشارة تحمل معها دلالات قد تعيد النظر في تقييم الأمور من جديد، وترسم خريطة المشهد برمته بأنامل وخيوط مختلفة.
سبع سنوات مضت على ثورة الـ25 من يناير/كانون الثاني 2011، تخللتها أحداث جسام، أعادت تشكيل الكثير من ملامح التكوين السياسي والمجتمعي والفكري المصري، غير أن الأجواء الحاليّة بتفاصيلها كافة تعيد الجميع إلى إرهاصات ما قبل يناير.. فهل يعيد التاريخ نفسه؟
انتهاكات حقوقية: ما أشبه الليلة بالبارحة
العامل الأكثر بروزًا في قائمة أوجه التشابه بين المناخ العام لما قبل ثورة يناير وفي ذكراها السابعة يتمثل في الملف الحقوقي، وما يتعرض له المصريون من انتهاكات غير مسبوقة على أيدي السلطات الحاكمة.
ففي عهد مبارك وقبيل اشتعال فتيل الثورة، كانت الأجواء الحقوقية ملتهبة بصورة كبيرة، خاصة بعد سياسة البطش والتنكيل التي كان يعتمد عليها وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي، ضد المعارضين، لا سيما الإسلاميين منهم، في ظل قانون طوارئ يطبق على أنفاس الجميع دون استثناء.
العادلي كان يستند في سياساته التنكيلية إلى فزاعة الأمن القومي وتهديد استقراره، وتقريبًا هي ذاتها المستخدمة في الوقت الراهن، حيث تم اعتقال وسجن شخصيات سياسية ومدنية دون محاكمات، هذا بخلاف العشرات من مراكز الاحتجاز مجهولة المصدر والمكان وغير الموثقة قانونيًا التي كان يمارس فيها كل أنواع التعذيب.
ورغم الإدانات الدولية حينها لهذا الملف في مصر فإن الأوضاع الحاليّة تجاوزت ما كان بمراحل ومسافات طويلة، حتى بات القتل العمد والتصفية داخل المنازل وفي الشوارع والميادين أمرًا عاديًا لا يحرك ساكنًا، سواء لجهة قضائية أو حتى حقوقية داخلية.
ورغم عدم وجود إحصاء موثق بشأن عدد المعتقلين في مصر في الوقت الراهن، غير أن العديد من المؤشرات تذهب إلى تراوح أعدادهم ما بين 40 إلى 50 ألف معتقل، بينما في 2017 فقط بلغ عدد الذين تعرضوا للاعتقال التعسفي قرابة 2998 شخصًا، بينهم 80 قاصرًا و50 امرأةً، كما صدرت أحكام قضائية في 419 قضية معارضة للسلطات أمام دوائر جنح وجنايات مدنية وعسكرية، حيث تم الحكم في 354 قضية مدنية، بينما تم الحكم في 65 قضية عسكرية، بحسب تقرير رصدي للمنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا خلال الفترة من الأول من يناير/كانون الثاني وحتى آخر ديسمبر/كانون الأول 2017.
التقرير كشف عن بلوغ عدد الأشخاص الذين شملتهم تلك المحاكمات 7010 شخصًا، منهم 36 قاصرًا، تم تبرئة 1802 من هؤلاء المحكومين، أي 25.7% من إجمالي عددهم الكلي، منهم 221 تم تبرئتهم من قضايا عسكرية، بينما حُكم على 5208 بأحكام إدانة مختلفة، أي بنسبة 74.3%، منهم 1621 حوكموا بأحكام إدانة مختلفة أمام دوائر عسكرية، كما تم الحكم بالسجن المؤبد على 1634 شخصًا، بالإضافة إلى التصديق على الحكم بإعدام 170 شخصًا من أصل 961 شخصًا تم تصديق حكم الإعدام عليهم على خلفية اتهامهم في قضايا سياسية.
أما الوضع في سيناء فله خصوصية مغايرة، فقد بلغ عدد القتلى من المدنيين 522، منهم 482 شخصًا قتلوا نتيجة مواجهات أمنية، والبقية قتلوا بصورة عشوائية، فيما بلغ عدد المعتقلين 755 شخصًا، هذا غير التهجير القسري، هذا بخلاف قانون الطوارئ المفروض في سيناء منذ 3 أعوام وأكثر وفي عموم البلاد قرابة العام.
في 2017 فقط بلغ عدد الذين تعرضوا للاعتقال التعسفي قرابة 2998 شخصًا، بينهم 80 قاصرًا و50 امرأةً
2998 حالة اعتقال تعسفي في 2017 بينهم 50 امرأةً
تدني الأوضاع المعيشية
لم يختلف الواقع المعيشي للمصريين قبل 2011 عن الوضع الحاليّ بعد مرور سبع سنوات، حيث كانت السمة المشتركة لكلا الوضعين مزيد من تفاقم الأوضاع وزيادة معدلات الفقر وتردي الأوضاع الحياتية بصورة كبيرة.
فقبل 2011 وصلت معدلات الفقر بين المصريين إلى 40% ممن يقل دخلهم اليومي عن دولار واحد فقط، متصدرة قائمة الدول الأكثر فقرًا في المنطقة خلال هذه الفترة، كان من الممكن أن تتضاعف هذه النسبة حال اعتمادها على ما دون 1.9 دولار كدخل يومي بحسب خط الفقر العالمي المحدد من البنك الدولي.
وفي 2018 الأمر لم يختلف كثيرًا، إن لم تتفاقم الأوضاع نحو مزيد من التردي حيث تجاوز عدد الفقراء حاجز الـ30 مليون مصري ممن تقل دخولهم اليومية عن حد خط الفقر العالمي 1.9 دولار (36 جنيهًا)، غير أن هذا الرقم مرشح للزيادة بصورة كبيرة خلال الأيام القادمة، ومع قدوم عام 2022 وهو العام المتوقع فيه رفع الدعم بصورة كاملة ربما يصل عدد الفقراء إلى ما يزيد على نصف المصريين وهو ما قد يدخل المجتمع في آتون الصراعات الأهلية من أجل توفير لقمة العيش.
تزوير إرادة المصريين
إجهاض إرادة المصريين في اختيار من يمثلهم، سواء كان نوابًا أو حكامًا، باتت السمة الأبرز للمجتمع المصري خلال العقود الأخيرة على وجه الخصوص.
فما قبل 2011 عانى المصريون كثيرًا من تزوير إرادة الناخب طيلة حكم الرئيس الأسبق مبارك، وآخرها انتخابات مجلس الشعب التي نظمت في نهاية عام 2010، قبل شهرين من ثورة يناير/كانون الثاني، التي حصل فيها الحزب الوطني الحاكم (المنحل) على 97% من مقاعد المجلس النيابي محققًا نسبة مطلقة تقصي المعارضة تمامًا، الأمر الذي أصاب الشعب بالإحباط، ودعم لديه الانطباع بتراجع الأوضاع السياسية وعدم قدرة النظام الحاكم على تلبية مطالبه.
أما الآن وبعد مرور 7 سنوات على هذا المناخ الملبد بغيوم التزوير فإن الأمور تسير بنفس الوتيرة إن لم تكن فجة بصورة أكثر، ولعل ما حدث مع كل من يفكر في خوض الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة أكبر دليل على ذلك، حيث تم إقصاء 6 مرشحين حتى الآن، إما بالترهيب والتخويف وإما بالاعتقال، آخرهم الفريق سامي عنان رئيس أركان حرب الجيش المصري الأسبق.
في 2010 احتلت مصر المركز 98 من 176 دولة على مستوى العالم في مؤشر الفساد مقارنة بـ108 عام 2017
بل ربما المناخ إبان فترة مبارك – خاصة فيما يتعلق بالانتخابات الرئاسية – كان أكثر مرونة مقارنة بما يحدث الآن، حيث فتح الباب لكل من يسعى لخوض الانتخابات دون عرقلة لذلك، ورغم أن المشاركة كانت صورية وقتها، إلا أن توجيه اتهامات لبعض المرشحين كما حدث مع أيمن نور، رئيس حزب الغد حينها، جاء بعد الانتهاء من العملية الانتخابية وليس قبلها كما يمارس الآن.
خنق الحريات الإعلامية
المناخ الإعلامي قبيل 2011 كان يتسم بتشديد الرقابة والمتابعة من السلطات الأمنية، بلغ في بعض الأحيان إلى حد الاحتكار، إذ خلت الساحة الإعلامية من الصحف المعارضة اللهم إلا بعض الصحف الحزبية وما لا يزيد على 5 صحف مستقلة، كان سقفها لا يتجاوز الوزراء أو رئيس الحكومة، هذا في الوقت الذي كانت ثورة الاتصالات في إرهاصاتها الأولى.
لكن الوضع تغير الآن بصورة كبيرة، حيث انتشرت مئات المواقع الإلكترونية والصحف والقنوات الفضائية، إلا أن الهيمنة على المناخ ظلت سمة مشتركة ما بين 2018 وما قبل 2011، حيث هرول النظام الحاليّ إلى فرض سيطرته على وسائل الإعلام الموجودة كافة، سواء كان ذلك عبر شرائها أو التحكم في إدارتها، كذلك إنشاء مجموعات إعلامية مملوكة له تنفذ أجنداته الداخلية والخارجية وتدعم ترسيخ أركانه.
جاء هذا في مقابل فرض المزيد من تضييق الخناق على كل من يغرد خارج السرب، سواء كانوا إعلاميين أو وسائل إعلامية، فزج بعشرات الصحفيين خلف القضبان، فضلاً عن غلق ما يقرب من 424 موقعًا إلكترونيًا من مايو الماضي وحتى نهاية 2017.
30 مليون مصري تحت خط الفقر
قطار الفساد الذي لا يتوقف
يسير قطار الفساد في مصر بخطى ثابتة منذ عهد مبارك حتى كتابة هذه السطور، ورغم ادعاء محاربة الفساد من نظام السيسي الذي طالما عزف عليه مرارًا غير أن التقارير الدولية تفند هذه الادعاءات التي لا تخرج عن كونها أحد أوجه الدعاية المستخدمة في الآونة الأخيرة، وهو نفس ما كان يعزف عليه مبارك أيضًا.
في نهاية 2010 أي قبل ثورة يناير بأشهر قليلة كشفت منظمة الشفافية الدولية في بيان لها تفشي أنواع الفساد في مصر، سياسيًا واقتصاديًا وإداريًا، حيث احتلت وقتها المركز 98 من 176 دولة على مستوى العالم.
في 2017 وفي آخر تقرير صادر عن ذات المنظمة فقد تراجع ترتيب مصر في مؤشر الفساد بصورة كبيرة، حيث وصل إلى 108 مقارنة بـ88 في العام الذي يسبقه، مما يعني أن المنحنى يتصاعد بقفزات كبيرة ما بين عام وآخر.
العامل الأكثر بروزًا في قائمة أوجه التشابه بين المناخ العام لما قبل ثورة يناير وفي ذكراها السابعة يتمثل في الملف الحقوقي
عوامل مساعدة
بعيدًا عن الأوضاع الداخلية التي أشعلت فتيل الثورة في مصر إلا أن هناك عوامل مساعدة أخرى كان لها دور محوري في تأجيج الزخم الثوري، منها اندلاع الثورة التونسية في 18 من ديسمبر/كانون الأول 2011 قبل الثورة المصرية بـ38 يومًا ما كان دافعًا قويًا للمصريين بالتحرك.
علاوة على ذلك فقد ساعدت تكنولوجيا الاتصال وقتها من خلال مواقع التواصل الاجتماعي في تيسير عملية التنسيق والتواصل بين الشباب ونشر أفكارهم ورؤاهم السياسية والتخطيط لتوحيد الصف، وهو ما دفع السلطات حينها إلى قطع الاتصالات لكن بعد أن نجح المصريون في تعبئة وجدانهم بروح الثورة.
الظروف الإقليمية والدولية تتشابه بصورة كبيرة مع ما كانت عليه قبيل أجواء ثورة يناير/كانون الثاني، ومن تونس أيضًا، حيث الاحتجاجات المتواصلة للقضاء على الفساد واسترداد روح الثورة والتخلص من الفاسدين، كذلك ما يحدث في عدد من البلدان المجاورة الأخرى، التي ربما تعيد الأمل في إحياء قدرة الشارع مرة أخرى بعد سنوات من السبات الإجباري إثر تضييق الخناق الذي فرض مناخا تشاؤميًا محبطًا على الغالبية العظمى.