فرضت جبهة الجنوب اللبناني نفسها مجددًا على مسرح الأحداث في ضوء تصاعد العمليات العسكرية بين “حزب الله” وجيش الاحتلال على طول الحدود، في تطور يعيد الأجواء إلى بداية حرب غزة أكتوبر/تشرين الأول 2023، فيما ذهب البعض بعيدًا إلى مرحلة ما قبل عام 2000.
وتشير التقديرات إلى ارتفاع عدد الهجمات التي شنها “حزب الله” على شمال الأراضي الفلسطينية المحتلة، بنسبة 36% خلال مايو/أيار الماضي، في حين نفذ جيش الاحتلال قرابة 325 عملية في الداخل اللبناني، وفق ما أشارت إليه القناة الـ12 الإسرائيلية، الأمر الذي يعكس تحولًا نوعيًا واضحًا في التصعيد المتبادل على تلك الجبهة، التي تتأرجح درجة سخونتها منذ بداية الحرب وفقًا لعدد من الحسابات والمقاربات.
التصعيد الراهن على تلك الجبهة الذي يتزامن مع تصعيد مواز على الجبهتين اليمنية والعراقية، يثير الكثير من التساؤلات عن الرسائل والأهداف التي يسعى محور المقاومة إلى إرسالها للداخل الإسرائيلي على وجه الخصوص، وللمنطقة بصفة عامة، في وقت تعاني فيه الساحة الغزية ارتباكًا جراء عملية رفح ومسار المفاوضات المتعثرة، فضلًا عن تطورات المشهد الإيراني الذي يحاول ترميم الشروخ الناجمة عن حادثة مصرع الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته في 19 من مايو/أيار الماضي.
عمليات نوعية.. تصعيد من نوع مختلف
شهد الأسبوع الأخير تحديدًا عمليات نوعية من طراز مختلف، شنها “حزب الله” ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي في الشمال المحتل، حيث نفذ عشرات العمليات في الجليل والجولان، مستخدمًا في ذلك تكتيكات عسكرية متنوعة، ما بين صواريخ مضادة للطائرات ومسيّرات حديثة وقصف دقيق، أسفرت عن تكبيد الاحتلال خسائر كبيرة بحسب بيانات الحزب اللبناني، وهي الخسائر التي أكدها جيش الاحتلال وإن لم تكن بالشكل الوارد في الرواية اللبنانية.
فعلى مدار الأيام الـ3 الأخيرة فقط شن الحزب هجومًا بالمسيّرات على جنوب منطقة ليمان، واستهدف مرابض المدفعية الإسرائيلية بمنطقة الزاعورة، وقصف موقع المطلة، والتجهيزات التجسسية في المالكية، بجانب قصفه لتجمع من جنود الاحتلال في موقع خلة وردة، وآلية عسكرية في جبل عداثر، واستهداف مبنيين يتمركز فيهما جنود الجيش الإسرائيلي في منطقة شلومي وحرش عداثر شمالًا بالأسلحة الصاروخية.
كما أسقط مسيرة إسرائيلية من طراز “هرمز 900” بالصواريخ المضادة للطائرات، بجانب قصف قاعدة “برنيت” بصواريخ بركان المدمرة، فيما تحولت معظم المراكز الإسرائيلية المنتشرة في المناطق الحدودية من الناقورة إلى مزارع شبعا، إلى أهدافًا في مرمى نيران الحزب في تحول لافت على مدار الأيام الـ3 الأخيرة.
وفي سياق التصعيد أُطلق أكثر من 30 صاروخًا من جنوب لبنان باتجاه الجولان السوري المحتل، كما اُستهدف موقع الرادار الإسرائيلي في مزارع شبعا، فيما أسفرت تلك الصواريخ عن اندلاع النيران في المناطق الشمالية في كريان شمونة في الجليل الأعلى والجولان، ما أسفر عن سقوط عدد من المستوطنين وجنود الاحتلال جراء استنشاق الدخان الناجم عن تلك الحرائق.
وعلى الجانب الآخر، كثف جيش الاحتلال من علمياته في الداخل اللبناني، حيث نفذ أكثر من 325 عملية عسكرية هناك، أسفرت عن سقوط العديد من القتلى في صفوف “حزب الله”، فضلًا عن حجم التدمير الكبير الذي لحق بعدد من القرى وبعض مقدرات الحزب ومرتكزاته العسكرية، وفق ما أكدته وسائل إعلام عبرية.
تصعيد مواز على الجبهة اليمنية والعراقية
على صعيد متصل، شهدت الساعات الماضية تصعيدًا موازيًا على الجبهة اليمنية، حيث أعلنت جماعة الحوثي اليمنية، أمس الإثنين 3 يونيو/حزيران أنها استهدفت موقعًا عسكريًا إسرائيليًا في إيلات بصاروخ تكشف عنه للمرة الأولى، حسبما جاء على لسان المتحدث العسكري باسم الجماعة يحيى سريع، الذي أكد أن العملية حققت هدفها بنجاح.
وقبلها بيومين، أعلنت الجماعة، مساء السبت الأول من الشهر الحاليّ تنفيذ 6 عمليات عسكرية ضد حاملة طائرات ومدمرة أمريكيتين وسفن، قالت إنها “انتهكت” حظر الوصول إلى موانئ “إسرائيل”، وفي الوقت ذاته كانت هيئة التجارة البحرية البريطانية قد أعلنت عن حادث آخر جنوب غرب الحديدة.
السخونة ذاتها على الجبهة العراقية، ففي 28 من الشهر الماضي، قالت “المقاومة الإسلامية في العراق” إنها قصف بـ3 مسيرات أهدافًا عسكرية في مدينة إيلات، مؤكدة أنها مستمرة في “دك معاقل الأعداء”، وكانت منصات إسرائيلية على تليغرام قد بثت مشاهد تظهر محاولة الدفاعات الجوية الإسرائيلية اعتراض مسيرات في سماء إيلات، لتكون المرة الثانية التي تستهدف فيها المقاومة الإسلامية في العراق أهدافًا إسرائيلية في أقل من أسبوعين، بعدما استهدفت المدينة ذاتها في 15 من مايو/أيار الماضي.
رسائل الردع
تعرض “حزب الله” خلال الأسابيع الأخيرة لعمليات إسرائيلية دقيقة، كان لها تأثيرها على سمعة الحزب، ما وضعه في مأزق كبير على المستويين، الداخلي والإقليمي، لا سيما مع مخطط جيش الاحتلال تغيير قواعد الاشتباك على تلك الجبهة واختراق سيادة الحزب عليها بشكل أثار حفيظته وحلفاءه في المنطقة.
وعليه يحاول الحزب من خلال هذا التصعيد العملياتي النوعي إعادة قواعد الاشتباك إلى ما كانت عليه قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وتوجيه رسائل ردع قوية للكيان الإسرائيلي بأنه رغم الخسائر التي تعرض لها لكنه لم يرفع الراية البيضاء بعد، وأنه قادر على مناطحة جيش الاحتلال والتعامل معه بشكل ندي.
وفي هذا السياق يرى منسق الحكومة اللبنانية السابق لدى قوات الطوارئ الدولية العميد منير شحادة، أن العمليات التي نفذها “حزب الله” خلال الآونة الأخيرة في الشمال الإسرائيلي، تبعث برسالة واضحة مفادها أن الحزب جاهز للعودة إلى فترة ما قبل عام 2000، حيث اقتحام المراكز العسكرية الإسرائيلية في الشريط الحدودي مع الجنوب اللبناني.
ويشير شحادة إلى أن التطور الواضح في العمليات التي تقوم بها المقاومة في الجنوب اللبناني يحمل رسائل ذات حدين لدولة الاحتلال، الأولى أن المقاومة ظهرت على بعد أمتار من الجنود الإسرائيليين رغم حديث وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت المتكرر عن إبعادها عن الحدود، أما الثانية فتتعلق بقدرة المقاومة على إعادة أمجادها في السابق حين كانت تستهدف المراكز الإسرائيلية، لافتًا إلى أن التصعيد الأخير هدفه ردعي في المقام الأول والضغط على “إسرائيل”، بحسب تصريحاته لـ”الجزيرة”.
ماذا عن الجبهة الإيرانية؟
بعد الغموض الذي أحاط بمصرع الرئيس الإيراني ووزير خارجيته وعدد من مرافقيهما إثر سقوط الطائرة الرئاسية في 19 مايو/أيار الماضي، والتكهنات عن تورط إسرائيلي أمريكي في تلك العملية، رغم عدم تأكيد ذلك بشكل رسمي من قبل أي طرف، ذهبت بعض التقديرات إلى تأثير محتمل لتلك الحادثة على سياسة طهران الإقليمية، وقدرتها على مجابهة الكيان الإسرائيلي الذي كبدها الكثير من الخسائر على مستوى قيادات الصف الأول، سياسيًا وعسكريًا.
ورغم انشغال السلطات الإيرانية بترتيب البيت الداخلي من جديد، والإعداد للانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في 28 يونيو/حزيران الحاليّ لملء الشغور الرئاسي الناجم عن الغياب المفاجئ لرئيسي، فإن ذلك لم يمنع من أن ترسل طهران، عبر أذرعها وميليشياتها في المنطقة، برسائل خارجية لـ”إسرائيل” وغيرها، تؤكد من خلالها أنها قادرة على المواجهة والإبقاء على قواعد الاشتباك الراهنة التي شهدت العديد من التغيرات خلال الشهرين الماضيين.
وعليه جاء التصعيد على الجبهات الـ3، اللبنانية واليمنية والعراقية، رغم التحديات التي تمر بها إيران، وهو ما تعكسه كلمة المرشد الإيراني الأعلى، على خامنئي، الإثنين 3 يونيو/حزيران الحاليّ، بمناسبة الذكرى الـ35 لرحيل مؤسس الجمهورية الإسلامية الإمام الخميني، حيث استهل كلمته بالحديث عن حرب غزة وعملية الطوفان التي قال إنها جاءت في اللحظة المناسبة، ثم عرج على مصرع رئيسي وفريقه، مختتمًا بالانتخابات الرئاسية المبكرة.
وتعكس كلمة خامنئي وترتيب الملفات بها، أهمية جبهة غزة في قائمة أولويات الدولة، كأحد الجبهات الرئيسية التي تستند عليها طهران في تعزيز نفوذها الإقليمي، ومن ثم كان الإبقاء على الحضور الإيراني على تلك الجبهة هدفًا رئيسيًا لنسف رهان البعض على انشغال الإيرانيين بهمومهم الداخلية بعد حادثة الطائرة الرئاسية.
وتبرهن التطورات التي شهدتها الساحة السورية اليومين الماضيين هذا المسار بشكل كبير، فلأول مرة تشن قوات الاحتلال غارة عنيفة على ريف حلب الشمالي، حين استهدفت معملًا لصنع السجاد في بلدة حيان التي تستولي عليها الميليشيات الإيرانية، ما أسفر عن سقوط عدد من القتلى من بينهم مستشار لدى الحرس الثوري الإيراني يدعى سعيد أبيار، ما يرسخ سياسة “القط والفأر” التي تهيمن على العلاقة بين تل أبيب وطهران.
المشهد الغزي.. التأثيرات المحتملة
يتزامن هذا التصعيد مع ارتباك المشهد في غزة عقب شن الاحتلال عمليته البرية في رفح، وتوتير الأجواء مع الجانب المصري، والحديث عن مفاوضات بشأن اتفاق لتبادل الأسرى ووقف إطلاق النار، والضغوط التي يتعرض لها الكيان المحتل داخليًا وخارجيًا لإنهاء الحرب الأطول منذ أن وطأ بأقدامه التراب الفلسطيني.
ومن ثم فإن تعدد الجبهات القتالية مع الاحتلال، لبنان واليمن والعراق، من شأنه أن يُربك ويشتت الحسابات ويبعثر أوراق نتنياهو وحكومة الحرب المشكلة، وهو ما يصب بطبيعة الحال في صالح المقاومة الفلسطينية وتخفيف الضغط عليها في الجنوب والوسط.
على كل حال، يشكل هذا التعدد والتصعيد عبر الجبهات المختلفة، أيًا كانت أهدافه ورسائله، ضغطًا عسكريًا جديدًا على الحكومة الإسرائيلية، قد يرتقي إلى ضغط سياسي وشعبي، خاصة بعد نجاح المقاومة الفلسطينية في استعادة نشاطها مرة أخرى وتكثيف عملياتها النوعية وتكبيدها خسائر فادحة لجيش الاحتلال، في مشهد يعيد الأجواء إلى الأيام الأولى للحرب، بما قد يدفع نهاية المطاف نحو التهدئة وإجبار نتنياهو ومتطرفيه على الرضوخ للضغوط وإنهاء حالة الحرب.