كان آخر بايات تونس الحسينيين المولدين قبل انتصاب الحماية الفرنسية بالبلاد، لقب بـ”حبيب الشعب”، فهو الشمعة المضيئة في تاريخ بايات تونس المظلم، عرف بمواقفه الوطنية ووقوفه إلى جانب الشعب في وجه المستعمر الفرنسي ومساندته لزعماء الحركة الوطنية؛ مما أدى إلى خلعه من الحكم ونفيه خارج البلاد، إنه “المنصف باي”.
ولادة “حبيب الشعب”
ولد محمد المنصف بن محمد الناصر بن المشير الثاني محمد باي، في الـ4 من مارس/شباط 1881، قبل شهر من انتصاب الحماية الفرنسية بتونس، تلقى تعليمه في المعهد الصادقي الذي أسسه المصلح التونسي خير الدين باشا سنة 1875.
خلال فترة دراسته بالصادقية، استرعى المنصف باي انتباه أساتذته وأقرانه لحسنُ سلوكه وإقباله على طلب العلم، فرغم كونه ابن البايات عرف في المعهد بتواضعه وعدم تكبره والتصاقه بأبناء الشعب الذين يدرسون هناك.
فضلاً عن هذه الدروس النظامية التي يتلقاها بالمدرسة الصادقية، كان الأمير يتلقى بالقصر في أيام الراحة دروسًا خصوصية في اللغة الفرنسية على يد الأستاذ خير الله بن مصطفى وفي اللغة العربية والعلوم الشرعية على أيدي الشيوخ محمود بيرم والطاهر جعفر والصادق الشاهد ومحمد جعيط؛ الأمر الذي مكنه من اكتساب علوم كثيرة.
الانضمام إلى الحركة الوطنية
سنة 1906 عين الناصر باي، المنصف باي وهو في عامه الـ25 مستشارًا خاصًا له وأمين سره بصفته أكبر أبنائه، وذلك بعد اعتلائه العرش، وفي تلك الفترة أصبح المنصف يمثل والده في المواكب والحفلات الرسمية التي تقام في قصر المرسى (أصبح اليوم مقرًا لإقامة السفير الفرنسي).
اشتهر المنصف باي قبل توليه عرش تونس، بالدور السياسي المهم الذي كان يؤديه، فقد عرف عنه مساندته لأعضاء الحزب الحر الدستوري منذ تأسيسه في مارس/شباط سنة 1920، على يد الشيخ عبد العزيز الثعالبي.
مناصرة “المنصف باي” للحزب الحر الدستوري من قصر المرسى لم تدم طويلاً، فقد اعتزل السياسة مباشرة عقب وفاة والده الناصر باي
مساندته للحزب، دفعت والده الناصر باي إلى فتح باب القصر الملكي بالمرسى في وجه وفد الأربعين الذي زار الباي يوم 18 من يونيو 1920 برئاسة الشيخ الصادق النيفر، حيث قدم الوفد إلى الباي عريضة تطالب بضرورة إقرار دستور للبلاد.
بداية اتصال المنصف باي بزعماء الحركة الوطنية في تونس وخاصة حركة الشباب التونسي، كانت بوساطة بعض أفراد حاشية أبيه، على رأسهم خير الله بن مصطفى الذي كان يحظى برعاية زوجة الناصر باي الأميرة قمر، وقد عينه الباي سنة 1919 مديرًا للتشريفات خلفًا للجنرال محمد ابن الخوجة المعروف بولائه لحكومة الحماية.
فضلاً عن خير الله، كان المنصف باي على اتصال مع الشاب الشاذلي حيدر، وهو من أبناء المماليك تبنته الأميرة قمر، وعرف حيدر بتبنيه أفكارًا مناهضة لنظام الحماية، مثل عمه رشيد حيدر الضابط في الحرس الملكي وصديقيه حسن قلاتي والصادق الزمرلي.
مناصرة المنصف باي للحزب الحر الدستوري من قصر المرسى لم تدم طويلاً، فقد اعتزل السياسة مباشرة عقب وفاة والده الناصر باي في 10 من يوليو/ تموز1922، حيث فضل أن يبقى بعيدًا طوال فترة حكم الحبيب باي الذي كان أداة طيعة بين يدي المقيم العام لوسيان سان، مجافيًا لتطلعات الشعب ونشطاء الحركة الوطنية، والأمير أحمد باي الذي لم يسمح له تكوينه التعليمي المحدود من الصمود في وجه السلطات الفرنسية.
معارضة سلطات الحماية
مباشرة عقب اعتلائه العرش الحسيني يوم 19 من يونيو/حزيران 1942 خلفًا لابن عمه أحمد باي، عاد المنصف باي إلى دعم الحركة الوطنية فقام بإبعاد العديد من الشخصيات المعروفة بعلاقتها الوطيدة مع سلطات الاحتلال عن مراكز القرار، قبل أن يشكل حكومة جديدة من ناشطي الحركة الوطنية بداية يناير 1943 دون الحصول على موافقة المقيم العام، وهو ما اعتبره الفرنسيون شكلاً من أشكال التمرد.
في ديسمبر 1942 استغل المنصف باي لقاء السفير الألماني بتونس وطلب منه التدخل للإعفاء عن زعماء الحزب الدستوري الجديد القابعين بالسجن وعلى رأسهم الزعيم الحبيب بورقيبة، ثم استقبلهم رسميًا بعد الإفراج عنهم.
ما زاد من خشية الفرنسيين له، التصاقه بالشعب على خلاف سابقيه من البايات، سعيًا منه لإحياء الشخصية التونسية كما كان يقول
في الـ8 من أغسطس/آب، وجه الباي مذكرة للحكومة الفرنسية تتضمن 16 نقطة من أهمها تكوين مجلس تشريعي تونسي، وتمكين نواب الشعب التونسي من المشاركة في المجالس البلدية، وقبول التونسيين في كل الوظائف والمساواة في المرتبات بينهم وبين الموظفين الفرنسيين، وإقرار إجبارية التعليم ونشر اللغة العربية في جميع معاهد التعليم وإلغاء الأمر المؤرخ في 1898 والمتعلق بالتفويت في أراضي الأوقاف لفائدة المعمرين، إلى جانب، تأميم جميع المؤسسات ذات المصلحة العامة، كما طالب بإطلاق سراح كل المساجين السياسيين التونسيين، سواء المعتقلين بتونس أم المعتقلين بفرنسا والجزائر.
هذه المطالب لفتت أنظار المستعمر الفرنسي، وأكدت له أن هذا الباي ليس على خطى سابقيه وأنه حامل لمشروع وطني إصلاحي، وما زاد من خشية الفرنسيين له، التصاقه بالشعب على خلاف سابقيه من البايات، سعيًا منه لإحياء الشخصية التونسية كما كان يقول.
فضلاً عن هذه المطالب والقرارات السياسية، ألغى المنصف باي عادة تقبيل اليد، واستقبل الشخصيات الوطنية، وعمل على الاحتكاك أكثر بالشعب، وكثف زياراته للأسواق والمدارس والجوامع والمقامات، وأبدى نية بزيارة أماكن داخل البلاد في سابقة بالنظر لأسلافه، وإن حالت الظروف دون ذلك.
خلع الباي
خلال فترة حكمه التي لم تتجاوز السنة، استعاد الحزب الدستوري الجديد نشاطه بقيادة الحبيب ثامر، وأصدر جريدة يومية ناطقة باسمه هي “إفريقيا الفتاة”، وتعددت نشاطات الجمعيات الوطنية مثل الشبيبة الدستورية وجمعية الهلال الأحمر والجمعية الخيرية وجمعيات الكشافة والشباب والرياضة؛ الأمر الذي عجل بخلعه من الحكم.
ففي 14 من مايو/أيار سنة 1943، خُلع المنصف باي بمقتضى قرار صادر عن الجنرال جيرو القائد الأعلى للجيوش الفرنسية لشمال إفريقيا وعوض بولي عهده محمد الأمين باي، ونقل في ذلك اليوم إلى مدينة الأغواط بالجنوب الجزائري حيث فرضت عليه الإقامة الجبرية.
تميز المنصف باي بدوره الوطني
وفي 6 من يوليو/حزيران 1943 أجبر تحت الضغط على إمضاء وثيقة التنازل عن العرش ونُقل إلى مدينة تنس الواقعة على الساحل الجزائري، وإثر تحرير البلاد الفرنسية من القوات الألمانية سنة 1945، نقل إلى مدينة “بو” بالجنوب الفرنسي، فبقي هناك في الإقامة الجبرية إلى حين وفاته بداية شهر سبتمبر/أيلول 1948.
مثلت فترة حكم المنصف باي، رغم الظروف التي جاءت فيها، أفضل فترات حكم البايات الحسينيين تحت الاستعمار الفرنسي، فقد كان معظمهم تحت يد المستعمر، أداة طيعة له ينفذون ما يريدون، إلا “حبيب الشعب” المنصف باي.