على مقربة من ميدان التحرير، يقف “ش. أ”، مسترجعًا ذكريات أيام صاخبة عاشها في هذا المكان منذ 7 سنوات، متأملاً مشاهد حشود جرفته بين ثناياها كأمواج البحر العاتية، واستحوذت عليه هيبتها وجلالها، فلا يتحرك عقله إلا على ضربات هتافاتها المدوية، ولا ينطق لسانه إلا بعبارة “عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية”.
يُحَدّث نفسه بأن الطريق إلى السجن بات أسهل من الوصول إلى الميدان، وربما قاده الميدان إلى السجن، ويقول لـ”نون بوست”: “كيف لهذه الأجساد الهزيلة التي أرهقها التفكير في لقمة العيش أن تقف هذه الأيام في وجه الدبابات التي تطوق الميدان قبل أيام من ذكرى الثورة”.
سنوات عجاف.. لا تظاهر ولا احتجاجات
في أجواء أكثر برودة مما كانت عليه أيام الاحتجاجات، تهب نسائم الذكرى السابعة لثورة يناير هذا العام، لكن لأسباب مجحفة، آثر المصريون البيات الشتوي وامتنعوا عن الخروج إلى الشارع إلا للسعي على لقمة عيشهم التي رأى أغلبهم، لا سيما النساء وكبار السن، أن دعوات الاحتجاج تستهدف النيل منها؛ لذلك تميل آراؤهم نحو الصمت في هذا اليوم، ليمر بلا احتفالات أو احتجاجات.
في المقابل، يميل بعضهم إلى الاحتفال “المنضبط” وفقًا لما يقره قانون التظاهر، وترفض أقلية – أغلبها من الشباب – تحويل التاريخ إلى مجرد ذكرى، ويذهب آخرون – على استحياء – إلى ضرورة الاحتجاج لاستعادة ثورتهم التي في رأي شريحة كبيرة منهم سرقها الجيش على مرأى ومسمع منهم.
وعلى عكس الرسالة التي يستقبلها المصريون من الانتشار الأمني المكثف قبل الاحتفال بذكرى ثورة 25 يناير، يمر اليوم بردًا وسلامًا على الشارع المصري الذي وجه رسالة لمن تصفهم الأجهزة الأمنية بالمحرضين على العنف مفادها أنه سئم الاحتجاجات.
7 سنوات استنفدت خلالها السلطات المصرية مخزونها من أساليب القضاء على كل ما يمت لثورة يناير بصلة
ومنذ فض اعتصامي رابعة والنهضة في أغسطس 2013، تكررت الدعوات للتظاهر مرات معدودة، انتهت معظمها بفعاليات محدودة جدًا، وكانت دائمًا ما تسبقها ضربات أمنية استباقية شديدة تتضمن اعتقالات وغيرها من الإجراءات الأمنية.
ومقارنة ذلك بعام من حكم محمد مرسي، استمر المصريون في التوحد على فعل واحد وهو الاحتجاج على السياسات الاقتصادية والاجتماعية للدولة المصرية، حتى أصبح الاحتجاج حدثًا شبه يومي، وشهد هذا العام احتجاجات ومظاهرات واعتصامات، يفندها تقرير المركز المصري للحقوق الاجتماعية والاقتصادية إلى 851 وقفة و561 قطع طرق و558 تظاهرة و514 إضرابًا و500 اعتصام و140 مسيرة و30 حالة احتجاز مسؤول بمكتبه.
التقرير فسر ذلك بفشل الحكومات المتتالية بعد الثورة – خصوصًا في عامها الثاني – فشلاً ذريعًا في التعامل مع مطالب المصريين واحتجاجاتهم، حيث زاد متوسط معدل الاحتجاجات الاجتماعية لأكثر من الضعف، فيما تفسر منظمات حقوقية الوضع الراهن الذي ندرت فيه الاحتجاجات في ظل الحكم العسكري بالتعسف واستخدام الأسلوب القمعي والانتهاكات السافرة لحقوق الإنسان.
الثورة.. سيناريو لن يتكرر
7 سنوات، استنفدت خلالها السلطات المصرية مخزونها من أساليب القضاء على كل ما يمت لثورة يناير بصلة، وانتهجت القتل الجماعي وإعادة رموز ومؤسسات النظام المخلوع، والشيطنة لما أنتج الحدث الأكثر نقاوة في تاريخ مصر الحديث.
البداية كانت مع إصدار قانون رقم 107 لسنة 2013، المعروف باسم “قانون التظاهر” الذي صادق على تعديله الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي العام الماضي، مؤكدًا أن القانون مستمد من القوانين الغربية، وأنه “ﻻ يمكن ترك ظاهرة التظاهر تتحول إلى أعمال عنف وتعطيل مسيرة الوطن وتخريب للمنشآت العامة والاعتداء على الممتلكات”.
ويزداد المشهد تعقيدًا بموافقة مجلس النواب المصري، منذ أيام قليلة، على تمديد حالة الطوارئ في عموم البلاد، في “كلاكيت ثالث مرة طوارئ”، ولمدة ثلاثة أشهر ابتداءً من 13 من يناير/كانون الثاني الحاليّ، وبينما تخشى منظمات حقوقية تعرّض حقوق الإنسان لانتهاكات خلال تطبيق حالة الطوارئ، تقول الحكومة إن هذا الإجراء مؤقت ويهدف إلى إضفاء فعالية على جهود مكافحة الإرهاب.
الذكرى السابعة للثورة تأتي في وقت تعاني فيه دول المحيط الإقليمي لمصر من خطر الإرهاب، الأمر الذي دفع المصريون إلى الخوف من انتقال عدوى هذه الحالة لمصر، بما يهدد استقرارها
وكعادته، قبل ساعات من حلول ذكرى يناير، يقتحم السيسي قلوب المصريين بخطابه الناعم وصورته المدنية، وهو يحمل أطفال شهداء الشرطة، في مشهد يزيل من نفوس المصريين صورة القسوة التي رسمتها صفحات التحريض على رجال الشرطة قبل ذكرى الثورة.
ولا تتعارض لغة القلوب التي خاطب بها الرئيس الشعب المصري، مع إظهار القوة في الوقت ذاته، وظهر ذلك في خطاباته وترجمته وزارة الداخلية على الأرض، باعتقال العشرات في ضربة استباقية صبيحة ذكرى يناير، والتهديد باستخدام الذخيرة الحية في حالة العنف، كما جاء على لسان متحدث سابق باسم وزارة الداخلية، هاني عبد اللطيف، الذي حذر المواطنين من القيام بأي تحركات ضد النظام القائم على غرار النظام السابق الذي أسقطته ثورة 25 يناير.
الذكرى السابعة للثورة تأتي في وقت تعاني فيه دول المحيط الإقليمي لمصر من خطر الإرهاب، الأمر الذي دفع المصريون إلى الخوف من انتقال عدوى هذه الحالة لمصر، بما يهدد استقرارها، ويجعلها أشبه بالنموذج السوري أو العراقي، كما تروج أذرع السيسي الإعلامية.
هذه العوامل دفعت الكثير من الناس إلى القنوط من حدوث أي تغيير، وقضت على الأمل عند فئة كبيرة من الشعب، ووجهت الثورة المضادة مكتملة الأركان خبرتها ودمويتها لإقناع الناس بأن التسلط والفساد والفقر قدر محتوم سيكون ثمن الخروج عنه السجن والقتل والنفي.
“البروفة” فشلت.. فكيف سينجح العرض؟
يمكن تشبيه المشهد المصري الحاليّ بكرة ضخمة من الثلج تتدحرج متجهة نحو شخص ما، فمن الطبيعي أن ينأى بنفسه عن طريقها، أو يتخذ إجراء ما يتجنب به ضررها، أما حين يصر على البقاء في وجه الخطر، فإنها سوف تجرفه في طريقها.
ذلك ما حدث تقريبًا في تظاهرات 11 من نوفمبر 2016، أو ما أُطلق عليها “ثورة الغلابة”، ففي الشهر السابق للدعوة، بدأت الأجهزة الأمنية ضربات استباقية، وشن إعلاميون موالون لها حملات عنيفة ضده الدعوة، وبدأت قوات الأمن حملات أمنية لضبط منظمي الدعوة، كما أعلنت انتشار الأكمنة في الشوارع الرئيسية لضبط المشتبه في مشاركتهم بالدعوة، وظهر هذا في انتشار مكثف للقوات الأمنية، في منطقة وسط البلد بالقاهرة بشكل خاص، وعودة حملات تفتيش للمنظات الحقوقية والمنازل.
كان المشهد في الشوارع والميادين أقرب إلى تدريبات يختبر فيها النظام قوة انتشار قواته (الجيش والشرطة) وإحكام أجهزته الأمنية على مؤسسات الدولة المهمة والتمركز أمامها، وفي نفس الوقت لقياس ردود فعل المصريين بعد فشل أي حراك مناهض لقرارات النظام وإن كانت تمس “لقمة العيش” للمصريين.
لم يتظاهر المصريون في “ثورة الغلابة”، لكن بعضهم تظاهر ضد اتفاقية تيران وصنافير، وضد قرار الرئيس الأمريكي باعتبار القدس عاصمة لـ”إسرائيل”
وعلى الرغم من ترقب كثيرين لما ستأتي به هذه التظاهرات، اتخذ النظام مجموعة من الإجراءات الاقتصادية الصعبة التي تزيد الاحتقان وترفع درجة الغضب الشعبي مثل قرار تعويم الجنيه ورفع أسعار الوقود التي تؤثر بالسلب على جميع قطاعات الشعب المصري تقريبًا، وكأنه بهذا يشجع على المشاركة في التظاهرات وتوسيع مداها.
وبعد انقضاء “شرارة الثورة” بدأت ملامح المشهد تتضح شيئًا فشيئًا، فما حدث يمكن وصفه بـ”البروفة الثورية” التي أثبت من خلالها “نظام السيسي” للعالم قوته، في إحكام قبضته الأمنية على الشارع المصري.
لكن الأهم أن النظام أثبت قدرته على التحكم في الشارع ومفاصل الدولة والسيطرة على ردود فعل المواطنين وقمع أي مظاهرات مناهضة له بل واستعراض قوته التي تكللت بالنجاح في نهاية اليوم بموافقة صندوق النقد الدولي رسميًّا على إقراض نظام السيسي 12 مليون دولار.
ماذا بعد أن تظاهرنا؟
لم يتظاهر المصريون في “ثورة الغلابة”، لكن بعضهم تظاهر ضد اتفاقية تيران وصنافير وضد قرار الرئيس الأمريكي باعتبار القدس عاصمة لـ”إسرائيل”، رغم عدم السماح لكل من أراد التعبير عن رأيه أن يخرج، فالبلد في حالة طوارئ والأمن في كل مكان والإرهاب تهمة لا يُستثنى منها أحد.
وبعد أن هدأت التظاهرات، شَكل الأمر مفاجأة عظيمة للكثيرين، وبعد مرور أسابيع أو شهور أو سنوات، وقف هؤلاء يتأملون الحصاد والنتائج، فيجدونها هزيلة جدًا ولا تتناسب بأي حال مع الطاقة الهائلة التي ظلت ترج الشوارع بقوة وعنف.
سئم المصريون على مدار سبع سنوات من الوقوف في وجه الدبابات بشكل لم يعهدوه من قبل
أمثلة كثيرة لتظاهرات حاشدة انتهت إلى لا شيء، أو إلى نتائج هزيلة جدًا، وتكاد تكون هذه هي النتيجة النهائية المنتظرة من أي تظاهرة يشهدها الحكم العسكري، على اختلاف أماكنها وبتنوع الأسباب التي تفجرت من أجلها والأحداث الساخنة التي رافقتها.
من هنا يأتي سؤال، لماذا؟ وكيف تنتهي هذه التظاهرات الحاشدة على ما تفيض به من حماسة ورغبة صادقة للتغيير إلى نتائج هزيلة جدًا؟ إحدى هذه الإجابات أتت من تجربة قام بها باحث من جامعة كوبنهاجن الدنماركية، عام 2009.
الباحث أسس صفحة على فيسبوك للاحتجاج على نية الحكومة لهدم نافورة تاريخية بأحد ميادين العاصمة الدانماركية، وخلال الأسبوع الأول من إطلاق صفحة فيسبوك، انضم للصفحة نحو عشرة آلاف شخص، ووصل العدد لنحو 27 ألف شخص بعد أسبوعين فقط.
توقفت التجربة عند هذا الحد، فلم يكن هناك خطة من الحكومة لهدم أي نافورة، ولم يكن أيضًا لدى الالآف نية للنزول إلى الشارع، كل ما أراد الباحث أن يثبته، هو مدى سهولة وسرعة حشد مجموعات كبيرة نسبيًا، من ناحية، وإثبات عجز المواطنينن في إحداث أي تغيير، من ناحية أخرى.
هذه التجربة تؤكد أن أي احتجاج يسعى إلى إحداث تغيير سيكون مصيره الفشل، لذلك سئم المصريون على مدار سبع سنوات من الوقوف في وجه الدبابات بشكل لم يعهدوه من قبل.