ما زالت ارتدادات زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى العاصمة السودانية الخرطوم مستمرة إلى اللحظة رغم مرور شهر كامل على الزيارة التي جاءت ضمن جولة إفريقية شملت كل من تشاد وتونس.
بالتزامن مع تفقد أردوغان لجزيرة سواكن على ساحل البحر الأحمر التي حصل على حق إدارتها، كان رئيس أركانه خلوصي أكار يجتمع مع نظيره السوداني عماد الدين عدوي والقطري غانم بن شاهين داخل مباني القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية في رسالة ذات دلالات قوية على ما يبدو.
اجتماع لرؤساء أركان تركيا والسودان وقطر في الخرطوم الشهر الماضي
هجوم إعلامي سعودي مصري إماراتي
منذ اللحظة الأولى التي هبطت فيها طائرة الرئيس أردوغان في الخرطوم، شنّت وسائل إعلام سعودية ومصرية وإماراتية هجومًا غير مسبوق على السودان وتركيا، نال من الرئيس البشير شخصيًا ومن الشعب السوداني ككل، وكان للرئيس التركي نصيب من الهجوم والإساءات، حيث رأى إعلاميون من تلك الدول أن الوجود التركي في البحر الأحمر يمكن أن يهدد أمن المنطقة واستقرارها.
كُتّاب سعوديون مقربون من الديوان الملكي منّوا على السودان حكومةً وشعبًا بمساهمة بلادهم في صدور قرار رفع العقوبات الأمريكية متناسين مشاركة الخرطوم الفعالة في حرب اليمن وتسرُّع حكومة البشير في قطع العلاقات مع طهران إرضاءً للرياض.
رواد مواقع التواصل الاجتماعي المقربين من الأجهزة الأمنية الإماراتية سارعوا إلى توجيه الانتقادات بل وصلت إلى توجيه إساءات عنصرية ضد البشير
وبطبيعة الحال، كانت الحملة الإعلامية ضد السودان بقيادة فضائيات نظام السيسي التي في حالة استعداد طبيعي للهجوم على الجار الجنوبي، فكانت الإساءات والشتائم جاهزة لتنال من الرئيسين البشير وأردوغان.
الإعلام الإماراتي الرسمي كان أكثر تحفظًا في الهجوم ربما بانتظار ما ستفسر عنه الأحداث، لكنّ رواد مواقع التواصل الاجتماعي المقربين من الأجهزة الأمنية الإماراتية سارعوا إلى توجيه الانتقادات بل وصلت إلى توجيه إساءات عنصرية ضد البشير.
ابن سلمان يرسل مساعده وابن زايد يبعث منصور
بيد أن الحملة الإعلامية لم تنجح في تغيير موقف السودان، لذلك، فور مغادرة الرئيس التركي، أرسل ولي عهد السعودية ووزير الدفاع “الحاكم الفعلي” الأمير محمد بن سلمان، مساعده الفريق طيار ركن محمد عبد الله العايش، إلى الخرطوم على رأس وفد عسكري، للقاء الفريق أول ركن عوض بن عوف وزير الدفاع، والفريق أول مهندس ركن عماد الدين مصطفى عدوي، رئيس الأركان المشتركة السوداني، بحضور السفير السعودي بالخرطوم علي بن حسن جعفر.
لم ترشح تفاصيل دقيقة عن اللقاء الذي ذكرت وكالة الأنباء السودانية أنه تناول مجمل الأوضاع العسكرية والأمنية الراهنة في المنطقة، ومناقشة التدابير المطلوبة للتعاطي مع الأحداث، غير أنه يمكن استنتاج أن زيارة المسؤول العسكري السعودي تأتي في إطار جهود المملكة لإقناع الخرطوم بالتخلي عن اتفاق جزيرة سواكن مع تركيا.
ويبدو أن رسالة ولي العهد للسودان التي بعثها مع مساعده لم تؤتِ أُكُلها، فقد استدعت الإمارات وزير الخارجية المصري ثم الرئيس الإريتري لمناقشة اتفاق سواكن وبالتزامن مع ذلك أكّدت الحكومة السودانية صحة الأنباء التي تفيد بوصول قوات مصرية إلى معسكر ساوا في إريتريا مطلع الشهر الحاليّ، وردَّت الخرطوم على ذلك التصعيد بإغلاق حدودها وحشد القوات مع الجارة الشرقية التي توتَّرت العلاقات معها بصورة مفاجئة.
التسريبات تشير إلى أن الرئيس البشير تلقّى خلال الزيارة عرضًا مغريًا مقابل التنازل عن اتفاقه مع أردوغان مع جزيرة سواكن
تتابعت الأحداث بعد ذلك، إذ تواترت أنباء عن زيارةٍ غير معلنة قام بها وزير شؤون الرئاسة الإماراتي الشيخ منصور بن زايد إلى الخرطوم ويقال إنه التقى بالرئيس البشير ووزير الخارجية إبراهيم غندور.
ويُعرف عن منصور علاقته الوثيقة بمدير مكتب البشير المقال طه عثمان ولديه علاقة جيدة مع البشير، فقد رعى الأخير ملتقى شبابيًا في الخرطوم خلال سبتمبر/أيلول من العام الماضي موّله الشيخ منصور وحضرته وزيرة الدولة الإماراتية للشباب شما المزروعي.
وفي تحليله لزيارة المسؤول الإماراتي في هذا التوقيت، رأى الكاتب السوداني إسحاق أحمد فضل الله أن الإمارات تتوسط لإنهاء الأزمة بين السودان من طرف ومصر وإريتريا من الطرف الآخر، لكن الأمر في تقديرنا يتجاوز ذلك بكثير، إذ إن التسريبات تشير إلى أن الرئيس البشير تلقّى خلال الزيارة عرضًا مغريًا مقابل التنازل عن اتفاقه مع أردوغان مع جزيرة سواكن.
وأكدت المصادر أن الرئيس السوداني برّر لمنصور بن زايد أن الخطوة التي وافق عليها في استضافة الجيش التركي ليست موجهة ضد أي بلد عربي وإنما لها علاقة بحماية السودان وتنويع خياراته، معتبرًا أن القوات السودانية التي شاركت في تحالف عاصفة الحزم قدَّمت تضحيات كبيرة لم يقدرها الجانب السعودي.
وبجانب ذلك، نلفت إلى أن منصور ربما أراد خلال زيارته الخرطوم الحصول على تطمينات بعدم سحب القوات السودانية من عاصفة الحزم بعد تفاقم الخسائر في صفوفها وزيادة السخط الشعبي جراء المشاركة في الحرب المستعرة من دون تحقيق أهداف ملموسة.
رسالة خطّية إماراتية إلى البشير
نقلت وكالة الأنباء الرسمية في الإمارات، أن الرئيس السوداني عمر البشير، تسلّم يوم الإثنين الماضي، رسالة خطية من ولي عهد أبوظبي، الشيخ محمد بن زايد، وأكد سفير الإمارات بالخرطوم حمد محمد الجنيبي، في تصريحات صحفية عقب تسليمه الرسالة للرئيس السوداني أن “علاقات البلدين في أفضل حالاتها، وتشهد تطورًا كبيرًا بفضل رعايتها من قيادة البلدين”.
نستنتج من الرسالة الخطية أن موقف البشير لا يزال متصلبًا ويقاوم الإغراءات الإماراتية، وإلا لما أحتاج إلى كل هذا الجهد من إرسال مبعوث خاص ثم تسليم رسالة مكتوبة، وقد يحمل الخطاب وعودًا جديدة بضخ استثمارات أو منح، وربما يتضمن دعوة لزيارة العاصمة الإماراتية أبوظبي.
هل يزور الملك سلمان أو ولي عهده السودان؟
قبل أن تهدأ أنباء العرض الإماراتي السخي روجّت أوساط إعلامية سودانية وسعودية إلى أن العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز أو ولي عهده الأمير محمد سيزور السودان لتطييب خاطر البشير الذي زار المملكة أكثر من 13 مرة خلال عامين ونصف، بينما شكّلت زيارة الملك خالد بن عبدالعزيز عام 1976 آخر ظهور لملك سعودي في أرض السودان رغم العلاقات الوثيقة بين البلدين.
السبب الأول الذي دفع الحكومة التركية للمطالبة بإدارة سواكن، هو ضمان سير السفن التجارية التركية بسلامٍ دون أن تتعرض لأي إعاقات سواء خلال مرورها بقناة السويس أو خليج عدن أو القناة الجديدة
إلا أننا نستبعد زيارة الملك لعدة أسباب من بينها أن العلاقات السياسية بين الخرطوم والرياض تمر بحالة واضحة من الفتور وعدم الثقة خصوصًا بعد التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية السوداني إبراهيم غندور التي هدد فيها بإمكانية لجوء السودان إلى المحكمة الدولية لمناهضة اتفاقية تيران وصنافير بدعوى نقضه لاتفاق الحدود البحرية مع السعودية الذي وُقّع في سبعينيات القرن الماضي، بالإضافة إلى وجود أسباب لوجيستية تتعلق بعدم وجود مجمعات فندقية جاهزة في الخرطوم لاستيعاب حاشية الملك التي ترافقه في الرحلات الخارجية التي تصل إلى مئات الأشخاص.
ويبقى كذلك، احتمال وصول العهد محمد بن سلمان إلى السودان ضعيفًا لأن الرجل لم يعتد على القيام بزياراتٍ خارجية إلا في نطاق ضيّق خصوصًا في ظل الأزمات الداخلية التي تشهدها المملكة حاليًّا.
هل تستغل الرياض وأبوظبي الأوضاع الاقتصادية في السودان؟
من المعلوم أن السودان يشهد أوضاعًا اقتصادية متردية منذ أعوامٍ، اشتدت خلال يناير/كانون الثاني الحاليّ بعد القرارات الأخيرة التي قضت بزيادة أسعار الخبز وسلع أساسية وتسببت في اندلاع مظاهرات حاشدة قابلتها السلطات بالعنف والقوة المفرطة، فربما تلجأ الرياض وأبوظبي إلى استغلال حاجة الحكومة والعزف على وتر المساعدات الاقتصادية والمِنَح من أجل إخضاع البشير وإغرائه للتخلي عن الاتفاق مع تركيا بل وربما الانضمام إليهم في المحور الذي يحاصر قطر بمزاعم دعمها للإرهاب والتطرف.
ومن غير المستبعد أيضًا، أن يكون محمد بن زايد أرسل أخاه منصور لتمهيد الطريق أمام شركة مواني دبي كي تفوز بعطاء تشغيل الميناء الجنوبي في بورتسودان الذي تقترب الخرطوم من تسليمه لقطر، فأبوظبي ترى أن فوز قطر بالميناء يشكل ضربة قاصمة لمشروعها التوسعي في القرن الإفريقي الذي يهدده كذلك النفوذ التركي المتوقع في شبه جزيرة سواكن جنوب بورتسودان على ساحل البحر الأحمر.
أهمية جزيرة سواكن لتركيا
بخلاف البُعد التاريخي لجزيرة سواكن السودانية ومكانتها للإمبراطورية العثمانية القديمة، فإن الكاتب التركي محمود حاكم يرى أن “السبب الأول الذي دفع الحكومة التركية للمطالبة بإدارة سواكن، هو ضمان سير السفن التجارية التركية بسلامٍ دون أن تتعرض لأي إعاقات سواء خلال مرورها بقناة السويس أو خليج عدن أو القناة الجديدة، بحيث إذا تم منع السفن التركية من عبور تلك القنوات البحرية ستقوم “تركيا” بالرد على ذلك بإغلاق الطريق على سفن تلك الدول في وسط البحر الأحمر، وبهذا تكون تركيا قادرة على الرد بالمثل تجاه هذه المؤمرات المحتملة تجاه تجارتها الدولية”.
ونُضيف إلى حديث حاكم بأن تركيا تريد أن تُقابل القاعدة الإماراتية التي يجري إنشاؤها في ميناء عصب بإريتريا بقاعدة مماثلة في جزيرة سواكن وربما تصل وحدات من القوات التركية إلى الجزيرة بصورة أسرع مما نتوقع تحت مسمى التأمين وحماية الآثار العثمانية لأن سواكن أصبحت تحت إدارة أنقرة بصورة فعلية، وقد وصلت في هذه الأثناء بعثة فريق تيكا الفني للبدء بعمل الدراسات الميدانية في الجزيرة من أعمال الحفر والهندسة المعمارية وتخطيط المدن والأعمال الجيولوجية والجيوفيزيائية.
وبالنسبة للسودان، تشكل القاعدة التركية المحتملة في سواكن فرصة ذهبية لمواجهة الوجود الإسرائيلي القوي في أرخبيل “دهلك” الإريتري الذي يعتقد أن الطائرات الإسرائيلية انطلقت منه لتنفذ هجماتها على أهداف عسكرية في بورتسودان بالإضافة إلى ضربة أخرى وجهها الكيان الصهيوني إلى مصنع اليرموك للأسلحة في العاصمة الخرطوم عام 2012.
فضلًا عن النتائج الاقتصادية والفرص الاستثمارية التي ينتظر أن تتحقق للسودان من ترميم واستصلاح لشبه جزيرة سواكن ومينائها، يتوقع أن تنشأ مدن صناعية ومرافق سياحية ضخمة قد تنعش الوضع الاقتصادي المتردي في البلاد.
هل يصمد اتفاق البشير ـ أردوغان في وجه الضغوط؟
صراحةً يصعب التنبؤ بالقرارات التي يتخذها الرئيس السوداني، لأن الرجل متقلب المواقف ويحاول أن يرضي جميع الأطراف، ولكن في هذه الحالة ربما يتذكر البشير أن وعود السعودية بمنحه مساعدات اقتصادية بمليارات الدولارات مقابل الاشتراك في حرب اليمن قد ذهبت أدراج الرياح، وربما يخطر بباله كذلك، سَعْي الإمارات للإطاحة بحكمه عبر المحاولة الانقلابية التي قادها مدير مكتبه السابق طه عثمان، بحسب ما أكَّده ياسين أقطاي رئيس لجنة العلاقات التركية القطرية في البرلمان التركي.
كما يتوقع أن يلفت مستشارو عمر البشير المقربين منه إلى تذكُّر الأدوار المشرفة لقطر في السودان التي قدمتها بلا مقابل في أوقات العسر والضيق وكيف أن أمير قطر هو الزعيم الخليجي الوحيد الذي زار السودان عدة مرات.
وقد يشير عليه وزير الخارجية إبراهيم غندور إلى ضرورة الثبات في وجه الضغوط والوفاء بالتعهدات كما فعل رفيق دربه رئيس الوزراء الإثيوبي هايلي مريام ديسالين الذي رفض عرضًا مصريًا بتجاوز السودان في مفاوضات سد النهضة، ورفض كذلك الانحياز لمعسكر حصار قطر عندما قال: “إثيوبيا تقف مع مبادئها وتقف مع دولة قطر في ترسيخ الأمن والاستقرار في منطقة الخليج وإفريقيا”.