لم تكن هزيمة 67 مؤلمة في نتائجها فقط، دول كثيرة تعرضت لانهيار عسكري ومجتمعي شامل، واستطاعت العودة مرة أخرى، وليس هناك أفظع مما تعرضت له ألمانيا سواء في الحرب العالمية الأولى أو الثانية، ومع ذلك استطاعت تجاوز الهزيمة في المرتين.
الأسوأ من هزيمتنا العسكرية في يونيو 67 أن أسباب ومنظومة الهزيمة استمرت كما هي 50 عامًا بلا حساب، فأعادت إنتاج الهزيمة عشرات المرات، هزيمة عند الحرب وهزيمة عند التفاوض وهزيمة عند إعادة بناء النظام السياسي، وهزيمة في الاقتصاد، وهزيمة ثقافية، حتى أضحت حياتنا كلها هزائم بفضل تعتيم النظام على أسباب الفشل الحقيقية.
مؤسف أن يتكرر ذلك مع حراكنا الشعبي التاريخي في 25 يناير 2011، فنظل على مدار 7 سنوات نتلقى الصفعة تلو الأخرى، دون أن نقف مع أنفسنا ونحاول أن نفهم لماذا نخسر دائمًا معاركنا ضد السلطة القديمة، دون أن نعالج أخطاءنا التي كانت سببًا رئيسيًا فيما حدث، دون أن نراجع منظومة أفكارنا وقيمنا، دون أن ندرك شيئًا من مجتمع الـ18 يومًا الذي نتغنى به! دون أن نسأل أنفسنا: لماذا فشلنا!
هذه أبرز الأسئلة التي أرى أنه لا خروج لنا من مأزقنا إلا بإثارتها وحسم إجابتها، عن ماهية الصراع وطبيعة الدولة التي تحكمنا والتنظيم السياسي الذي نفتقده والديمقراطية الغائبة والمواطنة المنسحقة.
أسئلة الصراع
ماذا نريد؟ على ماذا نتصارع؟ كيف نُحكم؟ كيف نريد أن نُحكم؟ هل أدركنا أنه من المستحيل حسم الصراع من دون الإجابة عن مثل هذه الأسئلة التأسيسية؟ هل أدركنا أن الحكم أو السلطة وسيلة الثورة لتحقيق أهدافها وأن الزهد فيها خيبة؟ هل أدركنا أن سياسة الإصلاح وقت الثورة لن تجلب إلا السجون؟
هل أدركنا أن مبادئ وأسس الديمقراطية لا يمكن اختزالها في صندوق انتخابات؟ ودونها تظل جميع الصناديق معرضة للسرقة؟
هل أدركنا أن الثورة ليست هتافًا فقط، وأن تمسك الناس بها يتطلب انتقالها من الميدان إلى منازلهم، وأن مكاسب المدى القصير تقوي من هذه الرابطة؟ هل أدركنا أن الإعلام أخطر من أن يُترك في أيدي الجهلاء حتى ولو كنت تضمن ولاءهم، وأن سياسة رد الفعل لن تبني وعيًا حقيقيًا؟ هل أدركنا أن الاكتفاء بالفرجة على صراع الظالمين لن يخرجنا من بينهم سالمين؟
أسئلة الدولة
هل أدركنا أن الدولة قبل أن تكون ليبرالية أو اشتراكية أو إسلامية يجب أن تكون دولة أولًا، وأن صراع “أدلجة” شيء غير موجود محض هلاوس؟ هل أدركنا أن التمسك الحرفي بمرجعية فشلت على مدار 15 قرنًا في بناء نظام سياسي رشيد هو استسلام أرعن للماضي؟
هل أدركنا أنه لا يمكننا رفع علم نظام نهتف ضده؟ هل أدركنا أن عداء التنظير بحجة التفرغ للواقع هو محض جهل؟ هل أدركنا أن الله لن يولي من يصلح لأنه ترك لنا أمر أنفسنا وطالبنا بتحكيم عقولنا وعدم الاعتماد على الدجل والشعوذة؟!
أسئلة التنظيم
هل أدركنا أن الوزن السياسي لا يُبنى في فراغ، وأنه انعكاس بالأساس لقوة العلاقة بالشارع وكفاءة التنظيم وتحالفاته ورؤيته الإستراتيجية؟ هل أدركنا أن مرجعية التنظيم أو الحزب شيء، ومرجعية الدولة ودستورها وقواعدها شيء آخر، وأن فرض الأولى على الثانية في ظل مجتمع تعددي سينتهي بالعنف؟ هل أدركنا أن المقولات الجاهزة مثل “الثورة الحق لا قائد لها”، “الثائر الحق هو من يفعل كذا” مجرد فخ، وأن لكل تجربة ظروفها؟
هل أدركنا أن السعي لتغيير النظام من دون مشروع بديل حقيقي سيعيده أشرس مما كان؟ هل أدركنا أن استبدال رأس المنظومة لا يعني تغييرها بأي حال من الأحوال؟
هل أدركنا أن المواطنة فعل وممارسة وليست كلمة في الدستور؟
أسئلة الديمقراطية
هل أدركنا أن مبادئ وأسس الديمقراطية لا يمكن اختزالها في صندوق انتخابات ودونها تظل جميع الصناديق معرضة للسرقة؟ هل أدركنا أن مبادئ وأحكام الدستور تُبنى على الأرض وفي نفوس الناس، وأن الصراع على إضافة أو حذف كلمة لن يمنع الانقلاب عليه؟ هل أدركنا أن الخطأ لم يكن في أن الزعيم لم يستجب لدعوات “افرم يا ريس”، وأن الحرية حق لا يجب أن نشكر الحاكم عليه؟
هل أدركنا أن الحكم على الشعب بأنه “عظيم” أو “عبيد” لمجرد انحيازه إلى تفضيلات بعينها هو محض سذاجة وفرط نفاق؟ هل أدركنا أن حكم الفرد الواحد من مخلفات الزمن القديم؟ هل أدركنا أن العبرة ليست بعشرات الائتلافات الشبابية وأن التنظيم السياسي لا يكتسب وزنه من عدد جُمع التظاهر؟ هل أدركنا أن حكم الأغلبية يتناقض مع الديمقراطية إذا حاولت تلك الأغلبية مخالفة مبدأ أو قاعدة من قواعد الديمقراطية؟
أسئلة المواطنة
هل أدركنا أن المواطنة فعل وممارسة وليست كلمة في الدستور؟ هل أدركنا أن الدفاع عن حقوق المثليين والملحدين والبهائيين وكل من تعتبرهم آفات يجب التخلص منها، أمر لا مفر منه إذا أردنا العيش بلا قهر؟ هل أدركت الأقليات المضطهدة أن خلاصها ليس في دعم ديكتاتور يحرص دائمًا على إحاطتها بالخطر حتى تتذكر أهمية وجوده؟ هل أدركنا أن مواجهة الإرهاب لا تحتاج لتفويض وأنه من المستحيل سحب تفويض الدم من قاتل محترف؟ هل أدركنا أن تقديس رجال الدين لن يخصم إلا من الدين ذاته؟
هل أدركنا أن سياسة تركيع الآخرين تحت شعار “اللي يقدر على التاني” لن تؤدي إلا إلى العنف والحرب؟ هل أدركنا أن في بلد مثل بلدنا، يعتبر الفشل في الاتفاق على حد أدنى مشترك للعيش معًا مقدمة لالتهام كل تيار على حدة؟ هل أدركنا أن الحرية المطلقة للإنسان هي سبيلنا الوحيد للخروج من أزمتنا التاريخية؟
وأخيرًا، هل أدركنا أن فشلنا في إدراك أسباب الفشل هو ما يجعلنا نتحسر كل عام في ذكرى 25 يناير؟!