جاءت تصريحات رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، خلال مقابلة له مع قناة “خبر ترك” التركية يوم الجمعة الماضي، عن وساطة عراقية تبذَل حاليًا لتقريب وجهات النظر بين تركيا والنظام السوري لحلّ القضايا العالقة، وللوصول إلى مرحلة التطبيع الكامل بينهما، ما يمثل نقلة نوعية في سلوك حكومة السوداني، بعد أن نجحت في تحقيق توافق سياسي بين السعودية وإيران مطلع العام الماضي، وكادت أن تحقق الشيء ذاته بين إيران والأردن ومصر لولا تعثّر المحادثات بين البلدان الثلاثة.
ممّا لا شك فيه أن حكومة السوداني تدرك أهمية النجاح في تحقيق مثل هذا المسعى السياسي الإقليمي، خصوصًا أن السوداني يطمح لتحقيق ولاية ثانية العام المقبل، إذ إنه وعبر تقديم نفسه كصانع للسلام الإقليمي يُعطى دفعة قوية لتحقيق نوع من الدعم الخارجي له، في حال تعرض لضغوط داخلية من قبل القيادات السياسية الشيعية المنضوية ضمن الإطار التنسيقي، والتي قد تنافسه على رئاسة الوزراء في المرحلة المقبلة.
صحيح أن تركيا ونظام الأسد لا يمتلكان أرضية مشتركة كبيرة لتطبيع العلاقات بينهما، لكن مصالحهما تتوافق بما يكفي لتطبيق بعض المساومات والتسويات لحدودهما المشتركة
إن إعلان السوداني عن هذه الوساطة على قناة تركية مثّلت بشكل آخر رسالة غير مباشرة للداخل التركي، خصوصًا أن هناك تيارًا سياسيًا تركيًا، والحديث هنا عن قوى المعارضة التركية، أعلن في أكثر من مناسبة عن رغبته تطبيع العلاقات مع نظام بشار الأسد، وهو ما قد يشجّع على ممارسة ضغط أكبر على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للتفاعل مع مبادرة السوداني، من أجل إنهاء أزمة اللاجئين السوريين في تركيا، كما أعلنت عن ذلك في أكثر من مناسبة.
ومن جهة أخرى، يدرك السوداني أهمية سحب ورقة النظام السوري من جانبها الأمني إلى الجانب السياسي، عبر البدء بمسار سياسي يعيد إنتاج تصور جديد للنظام السوري، فالانفتاح السعودي وكذلك العربي على نظام بشار الأسد لن يكتسب دفعة أقوى إذا بقيت تركيا خارج معادلة الانفتاح، إذ إن استمرار التوتر بين تركيا والنظام السوري، وتحديدًا على مستوى الحل السياسي للأزمة السورية، قد يمثل عقدة سياسية تقف عائقًا أمام أي مبادرة سياسية للتوافق بين النظام السوري وتركيا والدول العربية.
تحديات كبيرة
إن أبرز تحدٍّ قد يقف بطريق السوداني في تحقيق مثل هذه الوساطة، يتمثل في حالة انعدام الثقة بين تركيا والنظام السوري، إذ ما زالت تركيا تنظر بخشية كبيرة إلى سلوكيات النظام السوري، وهي مخاوف عبّر عنها الرئيس أردوغان في أكثر من مناسبة، بل وعدّ هذه المخاوف أبرز عقدة تقف في طريق الانفتاح على نظام الأسد.
وفي مقابل ذلك، ما زال النظام السوري ينتقد طبيعة الدور التركي في الأزمة السورية، خصوصًا في سياق الدعم الذي تقدمه تركيا لقوى المعارضة السورية، وهي انتقادات حرص نظام الأسد التأكيد عليها في عدة مناسبات، وهذا الواقع سيفرض نفسه بشكل أو آخر على فرص نجاح الوساطة العراقية التي يقودها السوداني بالوقت الحالي.
وما يدلّل على مثل هذا الواقع، هو أن زيارة الرئيس أردوغان إلى بغداد منتصف مارس/ آذار الماضي، ومن ثم زيارة رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض إلى دمشق في منتصف أبريل/ نيسان الماضي، من أجل تقريب وجهات النظر بين الجانبَين، أكدتا على حجم التحدي الكبير، إذ حرص العراق على ترتيب لقاء بين مسؤولين أتراك وسوريين في بغداد، إلّا أن التحفظات المتبادلة وانعدام الثقة بينهما أفشلا هذه المبادرات حتى الوقت الحاضر.
إن انفتاح الساحة السورية على العديد من الأطراف الإقليمية والدولية سيجعل الوساطة العراقية تواجه تحديًا آخر، إذ إن لأدوار الولايات المتحدة وروسيا وإيران و”إسرائيل” أهدافًا ستفرض نفسها في سياق هذه الوساطة، إذ ينبغي على السوداني أن يراعي الحساسيات الإقليمية والدولية من أي تقارب يحدث بين تركيا والنظام السوري، خصوصًا أن مثل هذا التقارب سيؤدي إلى إعادة تشكيل التوزانات السياسية في الساحة السورية، وهو ما قد يثير حفيظة الكثيرين.
تقارب يحدث بين تركيا والنظام السوري سيمثل جائزة كبرى لإيران، وتحديدًا في الساحة السورية، إذ إن مثل هذا التقارب سيؤدي بشكل أو آخر إلى إعادة تهذيب الدور التركي، وبالشكل الذي يجعله أكثر توافقًا مع الدور الإيراني في الساحة السورية
إن النقطة المهمة التي تجدر الإشارة إليها، هي أنه رغم هذه التحديات فإن حكومة السوداني تحاول القفز على حقائق الجغرافيا المعقدة بين تركيا والنظام السوري، إذ إن التحفظ الذي توليه تركيا ونظام الأسد للورقة الكردية قد يمثل أرضية مشتركة للتوافق.
صحيح أن تركيا ونظام الأسد لا يمتلكان أرضية مشتركة كبيرة لتطبيع العلاقات بينهما، لكن مصالحهما تتوافق بما يكفي لتطبيق بعض المساومات والتسويات لحدودهما المشتركة، لا سيما في الجغرافيا الواقعة في شمال غرب البلاد.
والجدير بالذكر أن الاجتماعات بين المسؤولين الأتراك ومسؤولي النظام السوري متواصلة على قدم وساق قبل وساطة السوداني، لكن الحسابات معقدة للغاية، إذ إن هذه المناطق موضع التفاوض بين الجانبَين قد رسمت معالمها الحرب، أي تعدّ جميع العوامل الديموغرافية والأمنية والاقتصادية القائمة هناك تجسيدًا لتأثير الحرب، وقد نشهد تبلور سلسلة من التفاهمات الأمنية والاقتصادية حول أجزاء من جغرافيا في شمال غرب سوريا وليس كل الحدود، وذلك بسبب تواجد إيران وروسيا وفواعل مسلحة هناك.
إيران الرابح الأكبر
إن أي تقارب يحدث بين تركيا والنظام السوري سيمثل جائزة كبرى لإيران، وتحديدًا في الساحة السورية، إذ إن مثل هذا التقارب سيؤدي بشكل أو آخر إلى إعادة تهذيب الدور التركي، وبالشكل الذي يجعله أكثر توافقًا مع الدور الإيراني في الساحة السورية، ولعلّ انخراط رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض في سياق هذه الوساطة، وكذلك دعم قوى الإطار التنسيقي للسوداني، يمثلان بشكل آخر دعمًا إيرانيًا للوساطة العراقية، فما لم تحققه إيران من تركيا عبر مسار أستانة، قد تحققه عبر الوساطة العراقية.
إن نظرة بسيطة إلى طبيعة المكاسب التي قد تحققها إيران في الساحة السورية من أي تقارب بين تركيا والنظام السوري، سيجعلها أكبر الداعمين لمبادرة السوداني، إذ إن مثل هذا التوافق سيجعل دورها الإقليمي أكثر تأثيرًا، خصوصًا أنها تطمح إلى جعل هذه المبادرة بمثابة انطلاقة إقليمية للفوز في قطف المزيد من الاستحقاقات السياسية في سياق مبادرة الحل السياسي للحرب في غزة.
إذ إن التوافق مع السعودية، والحوارات غير المباشرة مع الجانب الأمريكي للعودة إلى الصفقة النووية، ومحاولة توظيف الوساطة العراقية بين أنقرة ودمشق، سيجعلها في وضع إقليمي مريح للغاية، خصوصًا أنها تمرّ اليوم بمرحلة انتقالية بعد مقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، ووزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان، إذ إن غياب عبد اللهيان سيجعل السياسة الخارجية الإيرانية تمرّ بفترة غير مستقرة، وهو ما يجعلها تتفاعل مع إي مبادرة إقليمية تحفظ مصالحها في المنطقة.
إن القبول الإيراني بقيام تركيا بعملية عسكرية تركية مرتقبة في شمال العراق الصيف المقبل، يأتي في سياق توظيف مثل هذه العملية في سياق الوساطة العراقية، إذ تدرك إيران أهمية ربط الاستحقاقات العسكرية التي تطمح تركيا إلى تحقيقها من هذه العملية، بالاستحقاقات السياسية التي قد تتمخض عن الوساطة العراقية.
وبذلك تكون طهران الرابح الأكبر من كل التحولات الاستراتيجية التي تجري في سياق العلاقات العراقية التركية السورية، وذلك من أجل التفرغ للاستحقاقات الكبرى التي ستنتج في مرحلة ما بعد الحرب على غزة، حيث سنكون أمام شرق أوسط جديد تطمح إيران إلى أن تحجز مكانة متميزة فيه.