تعتبر فيرجينيا وولف، التي احتفل العالم بالذكرى الـ136 لميلادها، واحدةً من أهم القامات في الأدب الإنجليزيّ و روّاده في حركة التحديث الروائيّ في بدايات القرن العشرين، ودائمًا ما تضم قوائم “أعظم الروايات في التاريخ” روايتين أو أكثر لها.
ولدت وولف، أو أديلين فيرجينيا ستيفن نسبةً إلى اسمها قبل الزواج، في لندن عام 1882، منتمية إلى أرفع شرائح الطبقة الأرستقراطية الإنجليزية المثقفة التي ضمت العديد من أكثر عائلات المملكة المتحدة نبوغًا ومهارةً في الأدب والفنّ والصحافة والشعر والاقتصاد وغيرها.
فوالدها هو الكاتب البريطاني ليزلي ستيفنس، محرر مجلة كورنهل وقاموس السير الوطنية والناقد وكاتب المقالات والسِيَر والمؤرخ، الذي يُعتبر من أدباء نهاية العصر الفكتوري النموذجيين، وقد جعل من بيته مزارًا للعديد من مشاهير الأدب، الأمر الذي ساعد في فتح عيون فيرجينيا على الأدب وروّاده.
ماضٍ عائليّ محفوف بالموت والتحرّش الجنسي
الحياة الأسرية لفرجينيا غريبة بعض الشيء، لديها من الأخوة الأشقاء ثلاثة، إضافة إلى أربعة آخرين من غير الأشقاء، فكلٌّ من والدها ووالدتها كانا متزوجين ولديهما أبناءً من الزواج السابق. ولو أردنا تناول حالتها النفسية والعقلية التي يعرفها الجميع، فلا بدّ من الحفر أو الغوص في تاريخ عائلتها منذ سنوات طفولتها الأولى وحتى بلوغها.
تعرّضت فيرجينيا لأول سلسلة من الانهيارات العصبية والنفسية بعد وفاة والدتها، إذ كانت آنذاك في عمر الثالثة عشر فقط، ولم تكن تعلم أنّ تلك الانهيارات ستستمرُّ معها لبقية حياتها، وتلازمها كاكتئاب يصفها الأطباء بالمزمن والحاد، لا سيّما بعد تعرّضها لاعتداء جنسيّ على يدّ أخيها غير الشقيق من جهة الأم جورج داكورث، الذي أبدى العديد من التصرّفات الجنسية غير السوية حيال أختيه، فرجينيا وسيلا، اللتين كانتا في عمرٍ أصغر من أنْ تعيا ما الذي يحدث لهما، أو كيف سيؤثر ذلك على بقية حياتهما وعلاقاتهما القادمة.
لم تستطع فيرجينيا أيًّا بمكان البوح عن تجربتها المؤلمة مع أخيها بحكم الطباع الصارمة والجافة في محيط عائلتها وأفرادها، لذلك تحوّل كبت مشاعرها وخوفها وشعورها بالعجز حيال ما يحدث لها إلى عواطف مكبوتة أثرت على نفسيتها واكتئابها المزمن الذي رافقها طوال حياتها.
انعكست تلك التجربة على الكثير من أعمالها مثل روايتها الأولى “نهاية الرحلة” والتي تشير فيها مباشرة إلى التحرش الجنسي الذي عانته قائلة: “عندما تحسسها البطل الذكري، كان رأسها يجاهد كي لا يبقى موجودًا هناك. كانت راتشيل تشعر بأن رأسها مفصولًا عن بقية جسدها، ويرقد بعيدًا في أعماق البحر. تعلَّمت أن تُخدّر مشاعرها وتطفئ ردود فعل جسدها أمام رغبة أي رجل. كانت تبقى مستلقية، باردة وجامدة كأنها ميتة”.
ومن الجدير بالذكر أيضًا أنّ إحدى أخواتها غير الشقيقات قد توفيت وهي في الخامسة عشرة، وفي عمر الثانية والعشرين فقدت أباها، وبعد عامين فقدت أخاها توبي، ثم أصيبت إحدى أخواتها غير الشقيقات بانهيار عصبيّ واحتجزت في مستشفى عقلي. وبذلك نستطيع أن نستشفّ الكمّ الهائل من التجارب الصعبة الممزوجة بالموت والذكريات السيئة التي رافقت فيرجينيا في طفولتها ومراهقتها، فقد حاولت فيرجينيا الانتحار لأول مرة عندما كانت في الثانية والعشرين من عمرها بالقفز من إحدى النوافذ.
لكن على الرغم من حالتها النفسية التي أخذت بالانهيار يومًا بعد يوم، إلا أنّ هذا لم يمنعها من إكمال تعليمها وتثقيف نفسها، فقد درست اللغات اللاتينية والفرنسية، إضافةً للموسيقى وعلوم الرياضيات والكلام وغيرها، حتى أصبحت صحفيةً ومن ثم روائية، إضافة إلى نشاطها المعروف في الجمعيات الأدبية والصحفية في المدينة.
بدأت فرجينيا وأختها فينيسا عام 1905 بترتيب اجتماعات ولقاءات أُطلق على روّادها “جماعة بلومزبري” أو” Bloomsbury Group” نسبةً لمقاطعة وسط لندن تغطيها حدائق تحيط بها منازل أنيقة. وقد ضمت تلك الجماعة نخبة من المفكرين الموهوبين والأدباء المتحرّرين والمعروفين في تلك الحقبة من الذين سطع اسمهم في سماء لندن والمملكة المتحدة ككلّ. وفي تلك المجموعة التقت فيرجينيا بليونارد وولف، الكاتب والصحفيّ أيضًا، والذي أصبح فيما بعد حبيبها ومن ثمّ زوجها الذي عاشت معه أكثر سني حياتها استقرارًا.
كما أدركت فيرجينيا أن حقبة جديدة تميزت بتطورات غير عادية في المَدنية والتكنولوجيا والحرب والاستهلاكية والحياة الأسرية تحتاج إلى أن يتم القبض عليها وتناولها كم خلال نوعٍ مختلف من الكتابة والأدب، لذلك دائمًا ما كانت تبحث عن أشكال أدبية جديدة من شأنها أنْ تصف تعقيدات الوعي الجديد لإنسان عصرها.
ولذلك، كانت وولف قادرةً بامتياز على استحضار كافة التفاصيل الواقعية والحسيّة من الحياة اليومية، وهي التي كتبت يومًا: “جرِّب أن تدخل وعي إنسان، أي إنسان، وسوف تجد نفسَك فورًا منقادًا إلى حيوات العشراتِ من البشر الآخرين الذين يكملون ويتقاطعون مع حياة هذا الإنسان، كلّ على نحوٍ مختلف”.
صداقة مع فرويد وتأثر بمدرسة التحليل النفسي
اشترت فرجينيا هي وزوجها ليونارد مطبعة صغيرة للطباعة اليدوية أطلقوا عليها اسم “هوغارث”، عملا عليها بداية في غرفة الجلوس في بيتهما، ثم تحوّلت بعد سنوات إلى مطبعة حقيقية وما تزال تقوم بالنشر حتى يومنا هذا.
وعن طريق تلك المطبعة الصغيرة، طبع الزوجان وولف أعمال فرجينيا ورواياتها الأصلية، ومقالاتٍ سياسية كانت تلقى رفضًا بالطباعة من دور النشر والطباعة الأخرى، كما أنها كانت المنتج الأول للطبعة إنجليزية الكاملة الأولى من أعمال عالم النفسي النمساوي سيغموند فرويد، والذي جمعته بفيرجينيا علاقة صداقة قوية بعد انتقاله للندن وعيشه فيها.
وفي مذكراتها تصف فيرجينيا لقاءها وزوجَها ليونارد بفرويد للمرة الأولى قائلة: ” “قدم لي الدكتور فرويد زهرة النرجس، كان يجلس في مكتبة كبيرة حوله تماثيل صغيرة مرتبة بدقة فوق طاولة كبيرة ولامعة. جلسنا على الكراسي كالمرضى، أمام رجل كبير بالسن منكمش وينظر بعينين رقيقتين، بالكاد تصدر منه حركات متشنجة ولكنه في وضعية تأهب دائمة. وحول هتلر قال بأنه لو عاش متأخرا بجيل سيكون للسم مفعوله. وعن شهرة كتبه؟ يقول: كنت سيء الصيت أكثر من كوني مشهورا، لم أجني ٥٠ جنيها من كتابي الأول. كان حوارا صعبا، ساعدتنا ابنته وابنه مارتن بإمكانيات جبارة كشعلة مضيئة. لدى مغادرتنا كان يحدثنا عن موقفنا وما نحن فاعلين؟ أمام الحرب الإنجليزية”.
تأثرت فيرجينيا كثيرًا بما قرأته من أعمال فرويد، ما انعكس على أعمالها ورواياتها، خذ على سبيل المثال رواية “إلى المنارة” التي صدرت عام 1927 وتناولت مواضيع نفسية عديدة مثل عواطف الطفولة وعلاقات الكبار والخسارة والذاتية ومشكلة الإدراك، كما صُنفت في المرتبة الخامسة عشر في قائمة أفضل مائة رواية باللغة الانجليزية في القرن العشرين.
وظفت وولف في سرد روايتها تلك اثنتين من من التقنيات التحليلية النفسية والتي جاء بها فرويد. واحدة منها هو التداعي الحر، أو التقنية التي تعتمد على ترك المجال للمريض للإفصاح عن الأفكار التي تتبادر لذهنه دون تدخل أو توجيه من قبل المستمع فور ورودها.
أما التقنية الثانية فهي ما يُعرف أيضًا في علم النفس واستلهمه الأدب فيما بعد بمصطلح “سيل الوعي” أو ” تداعي الذاكرة” أو ” Stream of Consciousness“، والتي تُشير إلى تدفق الأفكار في عقل الشخص بحيث يصبح واعيًا لها، وإلى اكتشاف نقطة اللاشعور التي تنتج عبر الصراع بين الفرد ومستويات الوعي لديه. أما في الأدب فتتمثل في المونولوج الداخلي والخارجي، إلى جانب مناجاة النفس مع افتراض وجود الآخر باستمرار.
استعانت فيرجينيا بهاتين التقنيتين في سرد روايتها بحيث تسمح للقارئ بفتح نوافذ إلى عوالم الأفكار والعواطف الداخلية للشخصية الرئيسية في الرواية والشخصيات الثانوية الأخرى.
انتحار بجيوب ملآى بالحجارة
وضعت فرجينيا حدًا لحياتها بعد كلّ تلك التجارب المؤلمة ونوبات الاكتئاب والانهيار العصبي التي كانت تغزو حياتها يومًا بعد يوم وقادتها إلى الانتحار في نهر “أوس” القريب من منزلها بعد أنْ ملأت جيوبها بالحجارة وكتبت رسالةَ موتها مودعةً زوجها فيها.
“إنني على يقين من أنني أرجع لجنوني من جديد. أشعر أننا لا يمكن أن نمر في فترة أخرى من هذه الفترات الرهيبة. وأنا لن أشفى هذه المرة. أبدأ بسماع أصوات، لا يمكنني التركيز. وسأفعل ما يبدو أن يكون أفضل شيء ليفعل. أعطيتني أكبر قدر ممكن من السعادة. وقد كنت أنت في كل شيء كل ما يمكن أن يكون أي شخص.”
“… ما أريد قوله هو أنني مدينة لك كل السعادة في حياتي.. فقد كنت معي صبورًا تماماً وجيدًا بشكل لا يصدق.. أود أن أقول ذلك.. والجميع يعرفه.. إذا كان من الممكن أن ينقذني أحد فسيكون أنت.. كل شيء ذهب مني إلا اليقين بالخير الذي فيك.. لا أستطيع أن إفساد حياتك أكثر بعد الآن..”
فيلم الساعات: تجسيد مؤلم لحياة فيرجينيا
استطاعت هوليوود من خلال فيلم “الساعات” أو “The Hours” بتجسيد شخصية فرجينيا وحياتها التي انتهت بالانتحار تجسيدًا مؤلمًا للغاية، إذ تتبع علاقتها بمرض الاكتئاب الانتحاري الذي رافقها خلال سني حياتها.
يستند الفيلم على رواية مايكل كانينغهام التي حملت نفس الاسم وتتبعت حياة ثلاث نساء في نفس اليوم من الشهر ولكن في سنوات تفصل بينها عقود، وترتبط حياتهنّ برواية “السيدة دالواي” التي كتبتها فيرجينيا وولف.
يبدأ الفيلم وينتهي بمشاهد فرجينيا وولف “نيكول كيدمان” أثناء سيرها باتجاه النهر محاولةً الانتحار، ولكنّ الجزء الأكبر من القصة يجري في أحد أيام عام 1923 عندما بدأت بكتابة “السيدة دالواي”، برفقةٍ خوفها الشديد من عودة الاكتئاب الانتحاري الذي سبّب لها انهيارات عصبية في السابق.