عرفت بلاد المغرب، تعاقب العديد من الحضارات والدول والإمبراطوريات التي بزغ نجمها ووصل نفوذها إلى منطقة الصحراء الكبرى والضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسّط، حتى إنها سيطرت على كامل المنطقة، من ذلك دولة المرابطين التي تسمى أيضًا دولة الملثمين التي انبثقت من حركة دعوية إصلاحية إسلامية هناك، في القرن الخامس للهجري مع بداية الفتح الإسلامي، وامتدّ نفوذها إلى منطقة غرب إفريقيا.
المرابطون .. تأسيس الدولة
جاء إلى قبيلة “جُدالة” في جنوب موريتانيا، سنة 1040 ميلاديًا، الشيخ عبد الله بن ياسين، موفدًا من علماء القيروان بطلب من زعيمها يحيى بن إبراهيم الجُدالي، داعيًا إلى الله، فالشعب كله هناك في ضلال وعمى، وبعيد كل البعد عن الدين، فقد أدمنوا شُرب الخمر وألِفوا الزنى بشكل مريع، حتى إن الرجل ليزني بحليلة جاره ولا يعترض جاره، وكثر الزواج من أكثر من أربعة، ولا ينكر عليهم أحد ما يفعلونه، فالسلب والنهب هو العرف السائد، والقبائل مشتتة ومفرقة، والقوي يأكل الضعيف.
غير أن الشيخ عبد الله بن ياسين ما لبث أن طُرد من هناك، بعد أن ثار الخاصة والعامة عليه وقاموا بضربه، فالكل يريد أن يعيش في شهواته وملذاته دون قيد أو شرط، كيف لا وقد قال فيهم القاضي عياض في ترتيب المدارك وتقريب المسالك – (جـ 2 / ص 64) واصفًا حال هؤلاء القوم في ذلك الوقت: “كان الدين عندهم قليلاً، وأكثرهم جاهلية، ليس عند أكثرهم غير الشهادتين، ولا يعرف من وظائف الإسلام سواهما …”.
في إحدى جولاته بين القبائل، قتل الشيخ “عبد الله بن ياسين” سنة 451 هـجريًا الموافق 1059 ميلاديًا
فما كان عليه إلا أن توجّه جنوبًا وتعمّق في الصحراء في شمال السنغال، بعيدًا عن “جُدالة”، معتزلاً النّاس وجهلهم، فصنع خيمة بسيطة له وجلس فيها وحده، ثم بعث برسالة إلى أهل جُدالة يخبرهم فيها بمكانه، فمن يريد أن يتعلم العلم فليأتي في هذا المكان، فبدأت الوفود تتوافد عليه.
كانوا في البداية خمسة إلى جانب الشيخ عبد الله بن ياسين، علّمهم دين الإسلام الصحيح، بعيدًا عن الضلالة التي كانوا فيها، ثم أصبحوا عشرة، وازدادوا إلى عشرين، وحين ضاقت عليهم الخيمة أقاموا خيمة ثانية فثالثة فرابعة، وبدأ العدد في ازدياد مستمر، حتى بلغ بعد أربع سنوات من بداية دعوته ونزوله شمال السنغال إلى ألف شخص.
بدأت الدعوة من خيمة
انتشرت الجماعة الذين أصبح اسمهم “المرابطين” (يقال إن أصل كلمة الرباط هي ما تربط به الخيل كما يقال إن أصلها ملازمة الجهاد) في قبائل صنهاجة المنتشرة هناك، يدعونهم إلى اتباع الهدى ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر، يعلمون الناس الخير ويعرفونهم أمور دينهم، حتى انظمّ إليهم يحيى بن عمر اللمتوني زعيم قبيلة لمتونة وكامل أفراد قبيلته وسار على نهجه خلفه في زعامة القبيلة الشيخ “أبو بكر بن عمر اللمتوني”، فازدادت قوّة الجماعة ووصل نفوذها إلى جنوب موريتانيا حيث قبيلة “جُدالة”.
في إحدى جولاته بين القبائل، قتل الشيخ عبد الله بن ياسين سنة 451 هجريًا الموافق 1059 ميلاديًا، تاركًا وراءه 12 ألف مجاهد، تولى إمرتهم الشيخ “أبو بكر بن عمر اللمتوني”، وظهرت حينها ما يُعرف بدولة المرابطين.
15 دولة تحت سيطرتها
دولة سيطرت على رقعة جغرافية تمتد من المحيط الأطلسي غربًا وبلاد شنقيط (موريتانيا) وحوض نهر السنغال جنوبًا، وامتدّت شرقًا لتحاذي إمبراطورية كانم وتزاحمها على بحيرة تشاد في الصحراء الكبرى، وامتد هذا المجال في الشمال مخترقًا جبال الأطلس، وتجاوزت البحر المتوسط فشملت أجزاء من شبه الجزيرة الأيبيرية، وسيطرت على الأندلس.
امتداد دولة المرابطين
ضمّت هذه الدولة غينيا بيساو جنوب السنغال والسيراليون وساحل العاج ومالي وبوركينا فاسو والنيجر وغانا وتوجو ونيجريا والكاميرون وإفريقيا الوسطى والغابون، فضلاً عن تونس والجزائر والمغرب، فأكثر من 15 دولة إفريقية دخلها الإسلام في عهد “المرابطين” على يد الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني الذي توفي في إحدى فتوحاته في سنة 480 هجريًا الموافق 1087 ميلاديًا، والقائد يوسف بن تاشفين الذي عرفت الدولة في فترة حكمه ازدهارًا كبيرًا.
“الملثمون”
إضافة إلى اسم “المرابطين”، كان يطلق على الجماعة أيضًا لقب “الملثمين” فيُقال أمير الملثمين ودولة الملثمين، ويرجع سبب هذه التسمية كما يذكر ابن خلّكان في وفيات الأعيان إلى أنهم قوم يتلثمون ولا يكشفون وجوههم، فلذلك سموهم الملثمين، وذلك سنّة لهم يتوارثونها خلفًا عن سلف، واللثام (تاكلموست) هو غطاء يغطي به الرجال عند بلوغ أعمارهم سن الـ15، رأسهم ووجههم حتى أسفل أنفهم ويلفونه بإحكام حتى لا يظهر سوى العينين، ويرتدونه إلى حين وفاتهم ولا يرفعونه عن وجوههم.
يرجع آخرون سبب ملازمة اللثام لهم في الحل والترحال، إلى العامل البيئي الذي يلعب دورًا حاسمًا في غلبة اللثام على هذه الشعوب الصحراوية
ويرجع بعض المؤرخين، سبب ارتدائهم للثام الذي يبلغ طوله أحيانًا أربعة أو خمسة أمتار، وتمسكهم به، إلى الحياء الغالب على تلك الشعوب، فهم يعتبرون أن وضع اللثام داخل وخارج البيت شيئًا مقدسًا ولا يتسامحون مع أي رجل أزاله، فيما يرجع آخرون سبب ملازمة اللثام لهم في الحل والترحال، إلى العامل البيئي الذي يلعب دورًا حاسمًا في غلبة اللثام على هذه الشعوب الصحراوية، فالعواصف الرملية والحرارة المرتفعة في الصيف والبرد القارس في الشتاء تتطلب غطاءً يقي رأس الإنسان الصحراوي.
ويقال إن السبب أيضًا، أن قومًا من أعدائهم كانوا يقصدون غفلتهم إذا غابوا عن بيوتهم فيطرقون الحي فيأخذون المال والحريم، فأشار عليهم بعض مشايخهم أن يبعثوا النساء في زي الرجال إلى ناحية ويقعدوا هم في البيوت ملثمين في زي النساء، فإذا أتاهم العدو ظنّوهم النساء فيخرجون عليهم، ففعلوا ذلك وثاروا عليهم بالسيوف فقتلوهم، فلزموا اللثام تبركًا بما حصل لهم من الظفر بالعدو.