ترجمة وتحرير: نون بوست
لا تزال الكوابيس تراود مدير مكتب “العربي الجديد” في غزة ضياء الكحلوت بشأن اعتقاله فيما وصفه أنه “مثل غوانتانامو”. لا يزال هذا الصحفي الغزاوي يتذكر كيفية اعتقاله في سديه تيمان، وهي قاعدة عسكرية إسرائيلية تقع في النقب (جنوب “إسرائيل”) تم تحويل جزء منها إلى مركز اعتقال للأسرى في غزة.
بعد اعتقاله في السابع من كانون الأول/ ديسمبر 2023، أمضى ضياء هناك 33 يومًا مع حوالي 50 مدنيا آخرين في بيت لاهيا، شمال القطاع. إنها حلقة موثّقة بالفيديوهات نرى فيها رجالًا راكعين بملابسهم الداخلية، معصوبي الأعين. وقد تم إطلاق سراح ضياء في التاسع من كانون الثاني/ يناير.
قبل نقله إلى سديه تيمان، تعرض ضياء والسجناء الآخرون لاستجوابات عنيفة في قاعدة زيكيم العسكرية. يقول ضياء: “كان الجيش ومن ثم الشاباك (جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي) يستجوبوننا لمعرفة ما إذا كنا ننتمي إلى حماس. لقد سألوني أسئلة حول عملي، وحول اتصالاتي مع حماس. لقد ضربوني كثيرا، مستهدفين أنفي، لأنه يصبح أكثر إيلاما في الشتاء”.
ويروي ضياء في مكالمة هاتفية، قبل أن يصف ظروف اعتقاله المؤلمة، أن النقل إلى سديه تيمان يتم بواسطة شاحنة: “لقد تم وُضعنا في أقفاص مكدسين فوق بعضنا البعض، مثل الحيوانات. بقيت معصوب العينين ومقيد اليدين لمدة 33 يوما. لقد احتجزونا في أقفاص، ولم يُسمح لأحد بالتحدث. كان علينا الحصول على إذن من الجنود للذهاب إلى الحمام، وتناول الطعام، والنوم…”.
ويواصل ضياء قائلا: “لم يكن لدينا أسماء، بل أرقام فقط، ينطقها الجنود بالعبرية. كان رقمي 059889. كنا نتعرض للضرب بانتظام دون سبب، ونُجبَر على الوقوف وأيدينا مرفوعة، أحيانا لأكثر من ست ساعات. كان ذلك يسلّي الجنود كثيرا وكنا نسمع ضحكاتهم وتسجيلهم للفيديوهات على تيك توك. وعندما نطلب منهم القليل من الراحة، يصبحون أكثر وحشية”.
مقيدين إلى سرير من أيديهم وأقدامهم
تضاعفت شهادات السجناء السابقين مثل ضياء الكحلوت في الأشهر الأخيرة، مما نبه المنظمات غير الحكومية الإسرائيلية إلى جرائم الحرب المحتملة التي تحدث سرًا في مركز الاعتقال الغامض هذا، الذي تم إنشاؤه بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر بناء على أوامر من القيادة العسكرية. إلى جانب سديه تيمان، قام الجيش بتحويل قاعدتين عسكريتين أخرتين إلى مراكز احتجاز وهما قاعدة عناتوت وقاعدة عوفر في الضفة الغربية المحتلة.
يوضّح المدير التنفيذي للجنة العامة لمناهضة التعذيب في “إسرائيل”، تال شتاين: “يُقال إن ما يقارب 2000 شخص مسجونون هناك تحت وضع “مقاتل غير شرعي” وليس كأسرى حرب، مما يحرمهم من المحاكمة والمحامين لمدة 45 يوما بدلا من 36 ساعة، وذلك منذ تعديل قانون تم التصويت عليه في 18 كانون الأول/ ديسمبر 2023″. وأضاف: “لقد تم بالفعل إطلاق سراح حوالي 1500 آخرين”، مشيرا إلى الأرقام الرسمية الأولى التي قدمتها المدعية العام لإسرائيل في بداية شهر أيار/ مايو، بطلب من العديد من المنظمات غير الحكومية الإسرائيلية.
يضم مجمّع سديه تيمان العسكري أيضا مستشفى ميدانيا، إلى جانب خيام كبيرة من البلاستيك الأبيض حيث يُعالَج السجناء الجرحى. ووصف أحد أعضاء الطاقم الطبي تجربته لصحيفة “لاكروا”، شريطة عدم الكشف عن هويته، قائلا: “كان المرضى، حوالي عشرين، مقيدين إلى أسرتهم من أيديهم وأقدامهم. وكانوا جميعا معصوبي الأعين ويرتدون الحفاضات. كانوا عراة ولا يُغطّون إلا ببطانية بسيطة رغم برد الشتاء”.
يصف هذا الشخص المطلع على المجمّع كيف يعمل بقية طاقم التمريض في الخفاء، مرتدين سترات مضادة للرصاص وبقليل من المعدات: “سديه تيمان هو الحل الأبسط لعلاج جرحى غزة، لأنه لن يقبلهم أي مستشفى مدني. وعندما يصلون إلى المستشفيات الإسرائيلية، فإن ما يأمله الجيش أنهم سيكونون قادرين على تقديم معلومات استخباراتية لهم. إنهم يتلقون الرعاية أو العمليات التي تبقيهم على قيد الحياة ويتم إرسالهم مباشرة إلى مكان آخر. وهذا يتعارض مع أخلاقيات الطب”.
كما تحدث أيضا عن ممارسات “التعذيب النفسي” في المستشفى الميداني في سديه تيمان قائلا: “المرضى ضعفاء، ولا يفهمون شيئا عن ما يحدث لهم في هذه المرحلة، هذا تجريد من الإنسانية. هذا لا يحدث في أفغانستان، بل في بلادنا”.
“سياسة الانتقام”
قالت أونيغ بن درور، منسقة مشروع السجون ومراكز الاعتقال في منظمة أطباء لحقوق الإنسان في “إسرائيل”: “لقد أخبرنا مبلّغون آخرون عن حالات بتر دون تخدير، وكسور في العظام…نحن أمام سياسة انتقامية، كانت موجودة قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر في السجون الإسرائيلية، لكنها وصلت إلى حدها الأقصى منذ ذلك الحين. والقصص التي تخرج من هذه المراكز لا تختلف كثيرا عن تلك التي تُروَى عن سجون أبو غريب في العراق أو غوانتانامو في كوبا”. إنها بمثابة صناديق سوداء، التي لا يستطيع الصليب الأحمر ولا المنظمات غير الحكومية الإسرائيلية المعنية بحقوق الإنسان الوصول إليها.
وفي اتصال مع صحيفة ” لاكروا”، قال الجيش الإسرائيلي إنه يعمل “وفقا للقانون”. وأوضح المتحدث الرسمي أن “كل إجراء يتم توثيقه والإشراف عليه ويتم تنفيذه بأقصى عناية لاحترام كرامة المعتقلين الإنسانية وفقا لمبادئ القانون الإسرائيلي والدولي”، مشددًا على أن “تقييد المعتقلين يتم وفقا للإجراءات وحالتهم الصحية ومستوى الخطر الذي يمثلونه لضمان سلامة القوات والطاقم الطبي”.
أرقام على الظهر
يروي ضياء الكحلوت تفاصيل إطلاق سراحه في اليوم الـ33 من اعتقاله: “لقد أوصلونا بالحافلة إلى معبر كرم أبو سالم حيث قامت الأونروا بالاعتناء بنا”. كما تتواجد وكالة الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين هناك لإدارة عبور شاحنات المساعدات الإنسانية. وبحكم الظروف، بات موظفوها يستقبلون أيضا هؤلاء المعتقلين السابقين: ما يقارب 1700 بين كانون الأول/ ديسمبر 2023 وأيار/ مايو.
يقول أحد الموظفين الموجودين في معبر كرم أبو سالم خلال عدة عمليات إفراج: “خلال عملية التحرير الأولى، لم يفهم موظفو الأونروا من هم هؤلاء الأشخاص، حيث كان يبدو عليهم الجوع والصدمة والارتباك. لم يكن لديهم أي فكرة عن مكان وجودهم وما إذا كانت الحرب لا تزال مستمرة”.
ويشرح بالتفصيل: “كانوا يرتدون ملابس رياضية رمادية اللون، على ظهرها نقوش أو أرقام عبرية، وغالبًا ما تكون متسخة جدا. إلى جانب ذلك، ظهرت على معظم المعتقلين علامات الانتهاكات، بما في ذلك الندوب على مستوى المعصمين بسبب القيود الضيقة، والجروح الملتهبة، وعضات الكلاب، وأحيانا كسور العظام”.
حاويات مليئة بالجثث
حسب مصدر داخل هذه الهيئة، تشير الأونروا إلى أنها جمعت مئات الشهادات العفوية عن سوء المعاملة، بما في ذلك “الضرب، والتكبيل لفترات طويلة، ورفض أو تقييد الوصول إلى الغذاء والمياه والمراحيض، والحرمان من النوم، والإذلال، والعنف، وحالات التحرش الجنسي والتهديدات ضد أفراد الأسرة …”.
بالإضافة إلى عمليات الإفراج هذه، تلقت الأونروا ثلاث حاويات مليئة بالجثث ملفوفة بالبلاستيك الأزرق في معبر كرم سالم: حوالي مئة في كانون الأول/ ديسمبر 2023، و81 في كانون الثاني/ يناير و43 في آذار/ مارس، مع “كيس يحتوي على رفات من الجثث”، وذلك حسب ما توضحه وكالة الأمم المتحدة التي نسقت عملية النقل إلى وزارة الصحة في غزة دون أن تتوفر لديها تفاصيل عن ظروف هذه الوفيات
من الواضح أن عمليات نقل الجثث قد تكون مرتبطة باختبارات الحمض النووي التي يتم إجراؤها على الجثث التي تم انتشالها في غزة، وبالتالي لا ترتبط بالضرورة بمراكز الاحتجاز. وفي اتصال مع صحيفة “لاكروا”، رد الجيش الإسرائيلي بأنه “لا يستطيع التعليق على رقم محدد، وأن جيش الدفاع الإسرائيلي يقوم باحتجاز جثث العدو ويتبع التوجيهات السياسية فيما يتعلق بالتعامل مع هذه الجثث”.
نظرا للمخاوف المتعلقة بجرائم الحرب المحتملة في سديه تيمان، قدمت خمس منظمات غير حكومية إسرائيلية، بما في ذلك منظمة أطباء لحقوق الإنسان في “إسرائيل” ولجنة مناهضة التعذيب، التماسا أمام المحكمة العليا في 26 أيار/ مايو وأكدوا في بيان صحفي أن “الانتهاكات الخطيرة لحقوق المعتقلين تجعل احتجازهم في الموقع غير مبرر”. وستستمع المحكمة العليا إلى مرافعاتهم خلال جلسة استماع في القدس يوم الأربعاء 5 حزيران/ يونيو
ومن جانبه، سافر ضياء الكحلوت إلى مصر بداية شهر آذار/ مارس الماضي، وتبعته عائلته بعد فترة وجيزة. ويتحدث قائلا: “فقدت 45 كيلوغراما من وزني أثناء احتجازي. تدهور بصري بسبب الثلاثة والثلاثين يوما التي أمضيتها معصوب العينين. لكن في ذهني مازلت هناك، لم ينته شيء…”.
المصدر: لاكروا