اجتمعت نخبة العالم الاقتصادية وزعماء التجارة الدولية على مدار الثلاثة أيام الماضية في “دافوس” بسويسرا، في المنتدى الاقتصادي العالمي، لمناقشة أهم التحديات التي تواجه الاقتصاد العالمي في الأيام الحاليّة، وعلى الرغم من أن المنتدى كان لمناقشة المشاكل الاقتصادية المؤثرة على التجارة الدولية، كان هناك نجم واحد استطاع سرقة الأضواء من المنتدى كله، ألا وهو دونالد ترامب.
وصل دونالد ترامب في اليوم الثاني للمنتدى في ظهور أول للإدارة الأمريكية في المنتدى الاقتصادي الدولي، إلا أنه لم يظهر لحل التحديات الاقتصادية، بل ليعلن حربًا من نوع آخر على الإعلام الذي انتقد سياسته المتعلقة بالتجارة الدولية التي تدعو إلى مزيدٍ من الحماية الاقتصادية، أي تقليل الإيرادات الخارجية، وتقليل الضرائب للنصف على المنتجات الأمريكية، في دعوة منه لدعم القومية الأمريكية في الصناعة.
بدأ دونالد ترامب خطابه في مؤتمر الاقتصاد الدولي قائلًا: “أمريكا جاهزة للتجارة”، في إشارة ساخرة للإعلام الأمريكي وغيره من زعماء الدول الذين أنذروا بأن سياسة ترامب حيال التجارة الخارجية تهدد ما حققته العولمة بالنسبة الاقتصاد الدولي، إلا أنه جاء ليستغل “دافوس” ليسرق الأضواء عن كل ما جاءت النخبة الاقتصادية لتحققه، حيث جاء ليخبر العالم أن يتوجهوا باستثماراتهم للولايات المتحدة الأمريكية.
“حينما تنمو الولايات المتحدة، ينمو العالم معها” هكذا وصف ترامب سياسة “أمريكا أولًا” في خطابه بالمنتدى الاقتصاد العالمي
سيطر حلم “أمريكا أولًا” على خطاب الرئيس الأمريكي، حيث أشار إلى أن الصناعة الأمريكية عادت لتقود المنافسة التجارية من جديد، مشجعًا الصناعة القومية بعدما انخفضت نسبة الضرائب إلى النصف على العمال من الطبقة المتوسطة من المجتمع الأمريكي، جاعلًا الطبقة المتوسطة تحصل على عائد شهري فائض يصل إلى ما بين ثلاثة وأربعة آلاف دولار في العائد الشهري.
ليس هذا فحسب، بل إن انخفاض نسبة الضرائب ستدعو، بحسب رأي الرئيس الأمريكي، كبرى شركات التكنولوجيا مثل شركة آبل إلى سحب ما يقرب من 45 مليار دولار أمريكي من استثمارتها الخارجية لتعود بها إلى أرض الوطن.
ما الذي تعنيه السياسة الأمريكية التي أعلنها ترامب في دافوس؟
لن يقوم ترامب بتخفيض نسبة الضرائب فحسب، بل سيقوم برفع التعريفة إلى ما يقرب من 50% على الواردات الخارجية، وبالأخص من دول مثل الصين وكوريا الجنوبية، وهو ما أشار إليه زعماء العالم إلى أنها خطوة تحاول هدم كل ما وصلت إليه العولمة إلى الآن في محاولة لفرض مزيد من الحماية الاقتصادية (protectionism) لفرض حماية كاملة للشركات الأمريكية أولًا.
“حينما تنمو الولايات المتحدة، ينمو العالم معها” هكذا وصف ترامب سياسة “أمريكا أولًا” في خطابه بمنتدى الاقتصاد العالمي، الذي لم يشأ إلا أن يسرق الأضواء في المنتدى ليكون حديث الساعة ومصب تركيز زعماء العالم الذين حاولوا الاعتراض والنقد وأحيانًا السخرية منه، إلا أنه حاول كسب الدعم الدولي لأجندته، محاولًا إقناع الحضور أن العالم سيشهد عودة أمريكا قوية ومزدهرة.
وصل دونالد ترامب في اليوم الثاني للمنتدى في ظهور أول للإدارة الأمريكية في المنتدى الاقتصادي الدولي، إلا أنه لم يظهر لحل التحديات الاقتصادية، بل ليعلن حربًا من نوع آخر على الإعلام الذي انتقد سياسته المتعلقة بالتجارة الدولية
لم يظل ترامب يدعو لسياسة “أمريكا أولًا” طويلًا، بل تحول إلى “موظف للمبيعات” يعمل على الحديث المستمر من رئيس تنفيذي لآخر في حضور الرؤساء التنفيذيين لأكبر 500 شركة في العالم، حيث بدأ الرئيس الأمريكي في عقد صفقة تلو الأخرى، ليعود إلى بلاده اليوم ومعه ملايين الاستثمارات الجديدة.
غياب مقلق لإيران
وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في منتدى دافوس السابق
في حضور لكثير من ممثلي دول الاقتصادات المنبثقة من جديد إلى عالم دول الاقتصاد المتطور، مثل حضور الهند لأول مرة إلى منتدى دافوس، وحضور جنوب إفريقيا، كان هناك غياب مقلق لإيران، فعلى الرغم من أن هناك أقوالاً تشير إلى إلغاء وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف رحلته إلى دافوس، ففي الواقع لم ينو حضور المؤتمر من الأساس بحسب كلام متحدث الخارجية الإيرانية.
لم يكن غياب إيران لمنتدى مثل هذا منطقيًا لكثير من الصحف الإيرانية، التي لم تجد مبررًا لغياب وزير الخارجية، حتى ولو كان بسبب التغييرات الوزارية كما يدعي المتحدث الرسمي باسم الخارجية الإيرانية، ففرصة كفرصة منتدى الاقتصاد الدولي لا يمكنها أن تفوت ومن الممكن بحسب رأي الصحافة الإيرانية أن يوجد التمثيل الإيراني بشخص دبلوماسي آخر وليس فقط وزير الخارجية، لا سيما أن إيران كانت حاضرًا مستمرًا لمنتدى الاقتصاد الدولي.
عهد جديد لاقتصاد جنوب إفريقيا
وعد نائب رئيس جنوب إفريقيا “سيريل راموفاسا” والرئيس الجديد للحزب الوطني الحاكم، الحضور في منتدى دافوس، أن جنوب إفريقيا ستدخل عهدًا جديدًا في مسيرتها الاقتصادية، يضمن مزيدًا من الإصلاحات التجارية ومحاكمة الفاسدين، وهي الرسالة التي رحب بها المستثمرون من الحضور في المنتدى.
حيث أكد راموفاسا أن جنوب إفريقيا عانت طويلًا من الفساد الذي أثر على مسيرتها الاقتصادية وقد آن الآوان لاتخاذ خطوات حاسمة لمحاكمة الفاسدين من أجل مصلحة الإصلاحات في البلاد ووضعها على خريطة البلاد ذات الاقتصادات المتطورة الناشئة.
من المتوقع أن يحل سيرسل راموفاسا الذي احتل منصب نائب الرئيس منذ عام 2004، محل رئيس البلاد جاكوب زوما بعد زيادة الضغوطات عليه للتنحي، بسبب تراجع الثقة فيه وفي الحزب الحاكم بسبب الفضائح المرتبطة بالفساد وضعف الاقتصاد وارتفاع نسبة البطالة في عهده.
على الرغم من غياب إيران عن المؤتمر، فإن العاهل الأردني استغل الفرصة في إحدى جلسات منتدى الاقتصاد العالمي ليُحذر من مخاطر أي مواجهة عسكرية مع إيران لحل المشاكل التي تواجه المجتمع الدولي
الملك عبد الله من دافوس: السعودية ترسم خطوطًا حمراء
اتخذ الملك الأردني الملك عبد الله الثاني منتدى دافوس الاقتصادي فرصة ليحذر من خطر السلوك الإيراني بدعم مليشيات مسلحة وإقحام الدين في الخلاف السياسي، قائلاً إن هذه العوامل كانت وراء تحذيره من “الهلال الشيعي”، كما رأى أن السعودية تنتهج سياسة مبادرة في المنطقة بهدف رسم “خطوط حمراء” أمام طهران، وطالب بخطة سلام تنصف الجميع لحل موضوع مدينة القدس التي قال إنها تمثل فرصة لجمع الناس كما تمثل فرصة لتفرقتهم.
على الرغم من غياب إيران عن المؤتمر، فإن العاهل الأردني استغل الفرصة في إحدى جلسات منتدى الاقتصاد العالمي ليُحذر من مخاطر أي مواجهة عسكرية مع إيران لحل المشاكل التي تواجه المجتمع الدولي معها في ملفها النووي، ولكنه شدد على ضرورة التنبيه لتصرفات إيران الخطيرة في المنطقة ودعمها للمليشيات في دول مثل سوريا والعراق، وكذلك القلق الموجود في المنطقة على مستقبل لبنان.
كان العاهل الأردني من أحد الممثلين العرب القلة في المنتدى الذي لفت الانتباه إلى خيبة أمل الشعب الفلسطيني بعد اعتراف الرئيس الأمريكي بالقدس عاصمة لـ”إسرائيل”، حيث تحدث الملك عن ترقب الفلسطينيين والعالم لما ستحمله خطة السلام المنتظرة التي قال إن البعض يصفها بأنها “صارمة”، في حين أن السؤال الأهم يجب أن ينصب على مدى فاعليتها، معربًا عن ثقته بضرورة وجود أمريكا في عملية السلام.
تيريزا ماي: حان الوقت لشركاء جديدين
في خطابها في منتدى الاقتصاد الدولي، أكدت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي تطلع بريطانيا لشراكة اقتصادية جديدة في عهد اقتصاد البلاد بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، فبعد خروج المملكة المتحدة، ستظل البلاد تدافع عن الحق في التجارة الحرة، حيث سترحب المملكة بشراكات اقتصادية جديدة حول العالم وليس فقط من داخل الاتحاد الأوروبي.
رغم التوتر الموجود بين واشنطن والإدارة البريطانية، فإن اجتماعات مغلقة بين ترامب وتيريزا ماي أسفرت عن زيارة مرتقبة للرئيس الأمريكي لبريطانيا في وقت لاحق من هذا العام
أكدت تيريزا ماي أن بريطانيا ستكون من أفضل الوجهات التي يقصدها المستثمرون في العالم لإقامة أعمالهم التجارية فيها، كما أكدت أهمية التكنولوجيا المالية والذكاء الاصطناعي وتأثيره على الاقتصاد الدولي، إلا أنها في الوقت ذاته أكدت أن استخدام التكنولوجيا يجب أن يكون في صالح الناس وليس استغلالًا لثقتهم فيها، حيث أشارت في خطابها أن شركات التكنولوجيا لا تزال بحاجة لبذل مزيد من الجهود للنهوض بمسؤولياتها في التعامل مع الأنشطة الإلكترونية المضرة وغير المشروعة.
رغم التوتر الموجود بين واشنطن والإدارة البريطانية، فإن اجتماعات مغلقة بين ترامب وتيريزا ماي أسفرت عن زيارة مرتقبة للرئيس الأمريكي لبريطانيا في وقت لاحق من هذا العام، حيث أكد ترامب أنه صاحب علاقة طيبة مع الإدارة البريطانية ولا يود أن يقع في فخ الأخبار الكاذبة والإشاعات عن توتر العلاقات بين البلدين بعدما ألغى الأخير زيارته إلى بريطانيا في مطلع العام الجديد بعدما ألقى اللوم على إدارة أوباما السابقة في بيع السفارة الأمريكية في لندن ببضعة بنسات فقط لبناء واحدة جديدة مقابل 1.2 مليار دولار في الضواحي بحسب تغريدته على حسابه الرسمي على تويتر.
“هناك حقيقة يحاول العالم تجاهلها، ألا وهي الحرب النووية مع كوريا الشمالية” جورج سوروس، ملياردير أمريكي في دافوس 2018
لقد ناقش دافوس هذا العام الكثير من الأمور بشكل غامض ووضع لها نهاية مفتوحة تحتمل العديد من الافتراضات، حيث وجه الرئيس الأمريكي اهتمامه إلى القومية الأمريكية والأنانية الوطنية على حساب التجارة الدولية، وهاجم بشكل واضح كوريا الشمالية بشكل جعل الكثير من رواد التجارة الأمريكيين يحذرون من خوض الولايات المتحدة حرب نووية مع كوريا الشمالية في المستقبل القريب
وسط توتر بين الإدارة الأمريكية وكوريا الشمالية حيال مستقبل الطاقة النووية، وغياب مقلق للإدارة الإيرانية، وقلق أوروبي من الشعبوية والأنانية الوطنية وزيادة الحماية الاقتصادية لتشجيع القومية، يبدو أن منتدى دافوس الاقتصادي انتهى بالعديد من علامات الاستفهام حيال المصالح الدولية والتحديات الاقتصادية والأجندة العالمية، ونجح رجل واحد في فرض أجندته القومية التي سرقت الأضواء، ترامب، الذي جاء ليضع مزيدًا من الحواجز بدلًا من أن يكسرها في منتدى الاقتصاد الدولي.