في العاشر من محرم الماضي، سافر إلى سوريا حجاج شيعة من إيران والعراق ولبنان وغيرها من أجل إحياء ذكرى عاشوراء، وبشكل جماعي سارت مجموعات من هؤلاء الشباب إلى الساحات الواسعة والأزقة الضيقة في المدن والبلدات السورية، وهم يرتدون الملابس السوداء ورؤوسهم معصبة بأوشحة خضراء، وحتى النساء شاركن أيضًا وهنّ يبكين ويلطمن على صدورهن، وعلى وقع قرع الطبول لطم الجميع أنفسهم بشدة وصرخوا في انسجام تام “يا حسين”.
مزاج مشحون للغاية بالتاريخ الدامي والسياسة والدين، ومن خلال استحضار ملحمة الحسين والقصص المرتبطة بها، لا يظهرون فقط التكفير الجماعي وجلد الذات، بل يذهبون إلى ما هو أبعد من المعتقد والطقوس، إنهم يعلنون معركتهم اليوم مع السنّة ومن قلب بلد سنّي في صميمه حتى العظم، فكيف تمدد النفوذ الشيعي من كل مكان إلى إحدى أهم العواصم السنّية.
الصحوة الشيعية :
في كتابه “صحوة الشيعة: الصراعات داخل الإسلام وكيف سترسم مستقبل الشرق الأوسط”، يقدم ولي نصر، البروفيسور الأمريكي من أصل إيراني والمستشار السابق في الإدارة الأمريكية، تحليلًا مفصلًا لما أسماه “الصحوة الشيعية”، ويشرح الأسباب والقوى التي أدّت إلى هيمنة الشيعة على أجزاء من المنطقة العربية في العقود الأخيرة.
تأتي أهمية ولي نصر من كونه قدّم المشورة فيما يخص الشيعة لكبار صناع القرار الأمريكيين وقادة العالم، بما في ذلك الرئيسان جورج بوش وباراك أوباما، ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون وكبار أعضاء الكونغرس، وفي فترة أوباما الأولى عمل نصر مستشارًا للمبعوث الأمريكي الخاص لأفغانستان وباكستان ريتشارد هولبروك، ولا يزال نصر عضوًا في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، وأيضًا من خلال كتاباته يلاحَظ أن دائرة علاقاته تشمل ضباطًا باكستانيين وجنرالات حرب عراقيين مرتبطين بوزارة الدفاع الأمريكية.
أيضًا يعتبَر نصر أستاذًا مخضرمًا لتدريس الشؤون الدولية ودراسات الشرق الأوسط، وقد سبق أن درس في أعرق الجامعات مثل جامعة جونز هوبكنز، وكلية فليتشر بجامعة تافتس، والأكاديمية البحرية الأمريكية للدراسات العليا، وجامعة ستانفورد، وجامعة كاليفورنيا، وجامعة سان دييغو.
وبالنظر إلى أن نصر كتب كتابه “صحوة الشيعة” في منعطف هام وقت احتلال العراق، إذ أصدره باللغة الإنجليزية عام 2006 في الوقت الذي كان لديه اهتمام ودور كبير بتعميق الدور الأمريكي في العراق، إلا أن الكتاب لم يفقد قيمته بعد ما مرّت عليه 18 عامًا، ولا يزال يوفر صورة قوية لفهم الواقع السنّي الشيعي بالمنطقة.
وجدير بالذكر أن كتاب نصر تحول إلى منهج أكاديمي في العلوم السياسية لتدريس الشيعة وأوضاعهم في الشرق الأوسط في العديد من الجامعات الأمريكية. وقبل تناول الكتاب، من المهم الإشارة إلى أن كتاب نصر لا يتسم بالحيادية والموضوعية، ومعيب جدًّا من الناحية العلمية، ونصر نفسه لم يحاول إخفاء تحيزه، ويكفى أنه تكلم عن الإسلام السنّي ولم يستند على مرجع واحد أصيل عند السنّة رغم أن محور الكتاب عن السنّة، ونعرض أهم انتقاداتنا على الكتاب في آخر هذا التقرير.
وإنما ترجع أهمية الكتاب الأساسية في تبني الإدارة الأمريكية وبعض الدول الغربية لتوصيات نصر وتطبيقها على أرض الواقع، ولذا فإن تركيز المؤلف في الكتاب على المصالح الأمريكية هو انعكاس لطبيعة دوره.
أعباء الماضي
في مقدمته، يؤكد نصر على أن معرفة الانقسام السنّي الشيعي الذي يعود تاريخه إلى قرون مضت، أمر بالغ الأهمية لفهم المواجهة الجارية اليوم، وهو يضع التوترات الحالية في سياق 14 قرنًا.
ومن منظور شيعي اثني عشري، يرسم نصر صورة لبدء ظهور الانقسام بين الطائفتين السنّة والشيعة، ويعرض موجزًا للمبادئ والممارسات الدينية الشيعية واختلافها عن المذهب السنّي اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا، وهو يرى أن التأثير التاريخي للاختلافات بين السنّة والشيعة شبيه بما مرَّ به الكاثوليك والبروتستانت.
وبالعودة إلى التاريخ، فإن الانقسام بين السنّة والشيعة يعود إلى الجدل حول الخليفة الشرعي للنبي محمد عليه الصلاة والسلام. باختصار شديد، يعتقد السنّة أن النبيﷺ لم يسمِّ خليفة له وأنه ترك الخيار لأصحابه، وبالفعل بعد وفاة النبي ﷺ اختار غالبية المجتمع أبا بكر خلفًا سياسيًا له، وخلف أبو بكر عمر وعثمان وأخيرًا علي.
لكن مقتل الخليفة الرابع واندلاع فترة من الفوضى والقلاقل وتحول الخلافة لنظام ملكي، دفع أقلية من المسلمين والذين سيعرَفون باسم الشيعة إلى رفض ليس فقط شرعية الأمويين، وإنما شرعية الخلفاء الثلاثة الأوائل، واعتبروا أن جذور المشكلة تعود إلى اختيار الخليفة الأول، وأن المسلمين أخطأوا في اختيار قادتهم.
لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، إذ أصرَّ هذا الفريق على أن النبي عيّن ابن عمه وصهره علي خلفًا له، وأن قيادة المجتمع الإسلامي تقتصر على نسل علي وأبنائه، ووصل الأمر إلى الاعتقاد بأن خليفة النبي يتمتع بصفات روحية استثنائية ومعصومًا من الزلل، لأن الله لم يعهد بدينه إلى بشر عاديين يختارهم المجتمع، ومن هذا المنطلق عائلة النبي محمد المشهورة بآل البيت هم القادة الوحيدين للمجتمع المسلم، وهذا الرأي سيصبح أساسيًا للمذهب الشيعي.
ويذهب نصر إلى أن معركة كربلاء بجنوب العراق، والتي استشهد فيها الحسين حفيد النبيﷺ ومن معه على يد الجيش الأموي عام 680م، شكّلت نقطة تحول رئيسية في التاريخ الإسلامي، فعلى إثرها بدأ المذهب الشيعي في التشكُّل، كما زعم علماء الشيعة في الآونة الأخيرة أن كربلاء كانت معروفة لجميع الأنبياء، ولعلي كذلك.
وبعد كربلاء، قبلَ الشيعة حكم أئمتهم فقط، واستمروا في الإصرار على أن نسل علي يجب أن يحكم المسلمين، ثم سرعان ما بدأوا يختلفون حول أي من نسله يمتلك هذا الحق، وقد انقسم بعض الشيعة إلى أبعد من ذلك، وشكّلوا طوائف شيعية مثل الزيدية والعلويين.
في أعقاب هذا التمزق، تطور المذهب الشيعي في سياقات مختلفة، وامتدت الخلافات مع السنّة إلى ما هو أبعد من مسألة الخلافة، وعلى مرّ السنين سيتبنى الفريقان تفسيرات ورؤى مختلفة، وسيصل الخلاف إلى حدّ اللباس والألقاب وطريقة الصلاة.
وحسب الاعتقاد الراسخ عند الشيعة، فقد كان خط الأئمة متواصلًا بلا انقطاع حتى القرن العاشر الميلادي. اثنا عشر إمامًا حكموا المجتمع الشيعي حتى اختبأ آخرهم عام 939م بأمر من الله ودون أن يترك وريثًا، وفي وقت ما في المستقبل أو بنهاية الزمان، سيعود بصفته المهدي ليغزو العالم ويحقق العدالة في كل مكان. ومع ذلك إن اختفاء الإمام الأخير خلف معضلة خطيرة بين الشيعة.
التشيُّع الأحمر: الزواج بين إيران والشيعة
رغم أن الحسين تزوج من ابنة آخر ملوك الساسانيين التي أصبحت والدة الإمام الشيعي الرابع حسب ما يعتقد الشيعة، ومع ذلك لم يصبح المذهب الشيعي قوة مهيمنة في إيران حتى القرن السادس عشر، عندما صعدت سلالة فارسية واستولت على السلطة باسم بلاد فارس، لكنها تطلعت إلى الهيمنة الإقليمية وأرادت الاحتماء خلف غطاء ديني، لذا فرضت التشيُّع على السكان بالقوة وربطته بالقومية الفارسية، وكان هذا تطورًا جديدًا.
في الواقع، غيّر إسماعيل الصفوي مسار الجغرافيا السياسية في غرب آسيا بشكل كبير، عبر إرساء جذور شيعية عميقة أصبحت الآن راسخة بقوة في إيران، وقد بذل الصفويون كل ما في وسعهم لتكريس التشيع بالقوة في التربة الإيرانية. كما تبنى إسماعيل الصفوي معتقدات متطرفة، لدرجة أنه جعل جنده المعروفين بـ”القزلباش” يعبدونه باعتباره نصف إله.
ثم في العام 1501م، هزم إسماعيل المغول هزيمة قاصمة، واتسعت رقعة ونفوذ السلالة الصفوية، وسيطروا على العراق الجناح الشرقي للعالم العربي، لكن لم يترك الصفويون المناطق التي حكموها على مذهبها السنّي، وفي الواقع أضحى التوسع الفارسي مقرونًا بفرض المذهب الشيعي.
بجانب ذلك، دخل الصفويون في صراع وسلسلة من الحروب مع العثمانيين السنّة، وانتهى الأمر بالخط الفاصل بين الدولتَين، وهي نفس الحدود القائمة حاليًا بين إيران في الشرق والعراق وتركيا في الغرب.
في الحقيقة، مثلت السلالة الصفوية نوعًا جديدًا من الطموح الشيعي، فحتى مجيء الصفويين إلى السلطة كان الشيعة غير آملين بقيام نظام حكم شيعي، خاصة بعد دخول الإمام الثاني عشر في الغيبة. لكن حين فرض الصفويون المذهب الشيعي على كل البلاد التي حكموها، وصار علماء الشيعة جزءًا من الأرستقراطية الصفوية، يوضح نصر كيف ابتدع علماء الشيعة نظرية جديدة، وبمقتضاها سيبارك علماء الشيعة الحكم الصفوي، على أن يقوم الشاهات بحماية الشيعة ونشر مذهبهم ترقبًا لمجيء الإمام الثاني عشر.
وعلى الفور استقدم الصفويون علماء شيعة من لبنان والجزيرة العربية، وبنوا عددًا كبيرًا من الحوزات والمكتبات والمساجد لإقامة مراكز جديدة للتعليم الشيعي، واعتبر علماء الشيعة أنفسهم أولياء على الدين، وخلفاء الإمام الثاني عشر في إدارة شؤون الشيعة لحين عودته.
وقد أنتج علماء الشيعة الذين شملهم الصفويون بالرعاية عددًا وفيرًا من المؤلفات، وكما أوضح نصر، فقد أرسى هؤلاء العلماء الأساس لهوية وعقيدة سياسيتَين شيعيتَين جديدتَين، ما خدم المصالح السياسية الصفوية، لكن الأهم أن التشيُّع أضحى مقترنًا اقترانًا وثيقًا بالبُعد القومي الفارسي.
ومنذ أيام الصفويين والمؤسسة الشيعية الدينية على ارتباط وثيق بإيران، وظل علماء الشيعة يقرّون بشرعية النظام الملكي طالما ظل مدافعًا عن المذهب الشيعي، وبوقت مبكر من عهد أسرة قاجار (1795-1925) كان الشيعة هم الأغلبية المطلقة في البلاد.
ثم مع نقض الشاهات للاتفاق القديم مع آيات الله مطلع القرن العشرين، بدأ الافتراق يحدث بين الملكية ورجال الدين، لكن تمكّن رجال الدين الشيعة من إقناع ضابط في الجيش الإيراني يدعى رضا خان بتدبير انقلاب عسكري وتنصيب نفسه ملكًا.
لكن رجال الدين فوجئوا بما لم يكن في الحسبان، فأُسرة بهلوي التي أسّسها رضا خان لم تعد تهتم بالدفاع عن التشيُّع، بل لم تتصور أن هذا واجب عليها، وحسب نصر فقد نظروا إلى التشيع على أنه عقبة في طريق تحديث إيران.
وبالفعل عمدت أسرة بهلوي إلى علمنة البلد وقللوا من التشديد على هوية إيران الشيعية، والأهم أنهم همّشوا علماء الدين وبوحشية في بعض الأحيان، فقاوم رجال الدين تلاشي نفوذهم، وشهدت الستينيات والسبعينيات تباعُدًا أكثر ما بين الشاة والآيات الشيعية.
في المجمل، دام تحالف آيات الله الشيعة مع شاهات إيران قرابة 5 قرون، وظل علماء الدين الشيعة يلعبون دورًا محوريًا في إيران، بما في ذلك المشاركة في حركات التمرد المختلفة خلال القرنين الأخيرين، كحركة الاحتجاج على التبغ عام 1890-1891، والثورة الدستورية فترة 1905-1911، وأزمة تأميم النفط فترة 1951-1953، والانتفاضة التي أعقبت اعتقال الخميني عام 1963، وفي نهاية المطاف الثورة الإسلامية عام 1979.
الحداثة السنّية وأثرها على الشيعة
منذ القرن التاسع عشر ومع بداية احتلال الأوروبيين الأقطار العربية والإسلامية، بدأت في الظهور حركة سنّية تجديدية، حاولت البحث عن مخرج للتحرر من الاحتلال الأجنبي، ومعرفة أسباب ضعف المسلمين.
ويذهب نصر في كتابه -بكل بساطة ودون أدلة- إلى أن علماء ومفكري السنّة في ذلك الوقت حمّلوا الشيعة نتائج ما حلَّ بالعالم الإسلامي، وهو ما عبّر عنه نصر بقوله: “استخدم السنّة تهجمات ابن تيمية وخليطًا من المقولات الفقهية والحجج التاريخية لإثبات وجهة نظرهم”. والحقيقة أن هذه الصحوة لم تقم إطلاقًا على دحض التشيُّع وتفنيد مقولاته، رغم أن جزءًا منها انصبَّ على نقد سلوكيات التصوف المغالية.
الإسلاميون | الرواد الإصلاحيون
لكن مع ذلك، يروي نصر أنه كانت هناك استجابة في العالم الشيعي للصحوة السنّية خاصة من طبقة المتعلمين، وآخرون سعوا إلى تكرار أفكار الحداثة السنّية في تشيعهم من خلال إصلاح جوانب من الفكر الشيعي، فعلى سبيل المثال في الهند كان الشيعة متقبّلين لأفكار الإصلاح السنّي، واللافت أنهم نظروا إلى السلطان العثماني عبد الحميد الثاني كخليفة للمسلمين.
أما في إيران، فحين قامت عائلة بهلوي بتقليد سياسة أتاتورك، ومثلت سياسة العلمانية التي انتهجتها سلالة بهلوي تحديًا صارخًا للمعتقدات الشيعية، سعى مثقفون من أمثال شريعت سنكلجي ومهدي بازركان وشريعتي إلى إدخال إصلاحات على التشيُّع ونقد المعتقدات الشيعية المغالية.
وهنا يرى نصر أن النزعة التحديثية الشيعية في ذلك الوقت تشبه نظيرتها السنّية، فالتحديثيون الشيعة انضموا إلى السنة في مهاجمة الممارسات الشيعية الشعبية ونقد الذات، لكنهم واصلوا الدفاع عن النظرة الشيعية إلى علي والأئمة، ويرى نصر أن هذه المقاربة كانت “تسنينًا” للمذهب الشيعي.
والواقع أن العديد من الشيعة والسنّة في ذلك الوقت تضافرت جهودهم معًا في ضوء الواقع المؤلم الذي خلقه الاستعمار، ففي الهند أعلن زعماء الشيعة دعمهم لحركة الخلافة التي اكتسحت شبه القارة الهندية. كما ذهبت مرجعيات دينية شيعية إلى مؤتمر القدس عام 1931 الذي دعا إليه أمين الحسيني، وكان المؤتمر قد انعقد لتحديد ما ينبغي عمله بشأن الخلافة.
وبحسب نصر، فقد كانت وجهة نظر الشيعة في ذلك الوقت هي أن الخلافة السنّية ليست شكلًا مشروعًا للحكم الإسلامي، لكنهم اعتبروا أن زوالها سيشكّل تهديدًا عليهم، وبالتالي كان بناء قضية مشتركة مع السنّة والوقوف معًا في وجه التحدي الأوروبي يخدم مصلحة الشيعة أيضًا، وبالفعل أفضت روح التعاون هذه إلى بدء حقبة من التآلف والوئام بين الطائفتين.
القومية: صياغة هوية جديدة
عندما انتشرت الأفكار القومية في الشرق الأوسط وبلغت ذروتها في الخمسينيات والستينيات مع استقلال الدول، أقبل عموم الشيعة بحماسة على القومية، وتبنى علماء الشيعة في لبنان والعراق فكر الحركات القومية، ما أدى إلى حدوث تقارب كبير بين المؤسسات الدينية السنّية والشيعية.
وكما يوضح نصر، فقد شكّل صعود الدول المستقلة حديثًا تحولًا كبيرًا في بنية المجتمع الشيعي، وأدّى التحديث على النمط الأوروبي إلى الاتجاه بشكل متسارع نحو العلمنة، خاصة بين أبناء الطبقتين الوسطى والعليا من الطائفة الشيعية في لبنان والعراق وإيران وباكستان.
وبعد أن كان التعليم السائد بين الشيعة هو التعليم الديني، اتجه الشيعة من الطبقتَين الوسطى والعليا إلى المدارس والجامعات العلمانية، سواء في بلادهم أو في الغرب، وصار البعض منهم علمانيًا في نمط معيشته، كما أدخلت الدولة الحديثة عدة تحولات على علاقة الشيعة مع زعماء العشائر التقليديون، فقوانين الإصلاح الزراعي التي طُبّقت في أواخر عقد الخمسينيات من القرن الماضي حررت الفلاحين الشيعة من سطوة الوجهاء.
وعلى غرار ما حدث لبيروت، تضخّمت مدينتا بغداد والبصرة وغيرهما، واندفع الآلاف من الشيعة إلى خارج المزارع وحتى من القرى نفسها، ولم يعودوا مقيدين بالأعراف الصارمة، كما باتوا يتطلعون بإلحاح إلى المشاركة في الحياة السياسية.
لكن مع ذلك، يعتبر نصر أن الدولة القومية العلمانية التي وصفها بأنها “مطية السنّة للحكم” لم تحتضن الشيعة، بل يذهب إلى حدّ أن تلك الدول القومية قامت بتقوية مفاصل الحكم السنّي وتسنين المناخ الحياتي، ما أدّى -بحسبه- إلى زيادة تهميش الشيعة وإعطاء قوة دافعة للصحوة الشيعية، ولا أدري كيف غاب عن نصر حزب البعث السوري وقمعه بوحشية بالغة الحركة السنّية منذ أواخر السبعينيات من القرن العشرين.
هل كان نظام صدام حسين بالعراق طائفيًا؟
كذلك في عام 1959، أجازت جامعة الأزهر في القاهرة، وهي أقوى مركز سنّي على الإطلاق، تدريس الفقه الشيعي كجزء من مناهجها الرسمية. بل يوجد فتوى أصدرها شيخ الأزهر محمود شلتوت، اعترف فيها بالفقه الشيعي مذهبًا خامسًا من المذاهب الإسلامية.
لكن حسب ما يرويه نصر، فقد يأسَ الشيعة في العالم العربي من القومية العربية، ونظروا إليها على أنها “حصان طروادة سنّي” و”تسنين” للمفهوم ليس إلا، وتخلوا عن المنظمات اليسارية والقومية من أجل الانضمام إلى صفوف الحركات الدينية، ويقول نصر: “في العالم العربي تعلم الشيعة الدرس القاسي، وهو أن الأنظمة والأيديولوجيات العلمانية قد تأتي وتذهب، لكن أشكال التحيز والافتئات السنية لا تحول ولا تزول” (صـ 86).
والحقيقة أن الدول القومية العربية لم تؤسَّس على أساس طائفي، فسياسات التهميش التي تحدث نصر عنها لم تطل الشيعة فقط، إنما طالت الجميع ولم تكن نابعة من أساس طائفي. وبالتالي من الممكن القول إن الشيعة في ذلك الوقت مثل السنّة، نظرتهم تطورت من معرض التحولات التي مرّت بها المنطقة، فنفضوا عن أنفسهم الأيديولوجيات التي أطلقتها الدول ولم تفِ بوعودها، خاصة مع حالة عدم الاستقرار المتزايدة في عموم المنطقة، وليس حقيقة مثلما يزعم نصر أن فشل القومية السنّية هو ما سيُلهب الصراع الطائفي.
ومثلما لعبت الحركات الإسلامية السنّية دورًا بارزًا في مرحلة الصحوة الإسلامية من بداية السبعينيات، كذلك لعبت الزعامات الدينية الشيعية دورًا بارزًا في التعبئة الاجتماعية، وقدمت التشيع إلى الشباب بوصفه فكرًا يضاهي الفكر القومي والغربي.
الخميني: عرش الفقيه
نتيجة عدة عوامل ساهمت في انفجار الثورة الإيرانية عام 1979، وجد رجال الدين الشيعة في الحركة الشعبية فرصة لسحب البساط من تحت أقدام أسرة بهلوي العاصية، واعتقد آيات الله بضرورة أن يضطلع التشيُّع بدور قيادي في النضالات الاجتماعية والسياسية المحتدمة آنذاك، وبالفعل شكّلوا كتلة فاعلة ضمن معارضة الشاه.
ثم بعد نجاح الثورة، تعارك الجميع حول النموذج الجديد للحكم، ومن سيحفظ الدين ويصون العالم الشيعي، لكن كان لدي الخميني (المولود عام 1900) الإجابة، إذ صاغ وفرض نظريته الجديدة المسمّاة “ولاية الفقيه”، وقال ساعتها: “ليس هناك من هو أخبر بالدين من العلماء الذين تمرسوا في تعقيداته، وحملوا تفويض الإمام الثاني عشر”.
وبالتالي تمّت إحالة الخميني ليكون نائبًا للإمام الثاني عشر، وتولى جميع الواجبات التي كان الأئمة المعصومون يقومون بها حسب اعتقاد الشيعة. وبعد قرون من عمل ملوك فارس والآيات الشيعية معًا، كان رجال الدين هذه المرة هم من ورث عباءة الشاه.
ويعتبر نصر أن الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 كانت مرحلة مفصلية للشيعة في جميع أنحاء العالم، ويولي كذلك اهتمامًا كبيرًا بآية الله الخميني، وحقيقة قام بعمل ممتاز في تحليل شخصية الخميني ودوره المركزي في الصحوة الشيعية.
ويرى نصر أن الخميني كان نمطًا جديدًا ومختلفًا عن الزعامات الشيعية التقليدية، ففي مقتبل عمره تأثر بالفلسفة السياسية الشيعية، وتخصّص في تعليم المنطق الأرسطي، إضافة إلى اشتغاله على نطاق ضيّق بالصوفية، ولم تكن آراؤه السياسية والدينية تعكس الكثير من تاريخ الشيعة، بقدر ما كانت تعكس الطموح السلطوي الذي يريده لنفسه.
وقد صعد نجم الخميني كزعيم شيعي لأنه حسب نصر احتكم إلى الأساطير والمعتقدات الشعبية الشيعية من أجل بسط سيطرته على شيعة العالم، فهو لم يجلس مكتوف اليدَين في انتظار الإمام الثاني عشر المحتجب لأكثر من 1000 سنة خلت، لكنه أراد التعجيل بعودته وإخراج الشيعة من العزلة، ومن الواضح أن الخميني كان قادرًا على تأجيج المشاعر، خاصة مع استمراره في مقارنة سياسته بمواقف الإمام الحسين.
كما طمح لتصدير أفكاره إلى دول أخرى مثل العراق والبحرين والسعودية ولبنان والهند وباكستان، واتخذ لنفسه لقب الإمام ليس لجعل نفسه فوق سائر زملائه آيات الله الآخرين فحسب، بل لمساواته بالأولياء والقديسين كذلك، ويوضح نصر أن لقب الإمام بالنسبة إلى الشيعة مثير للذكريات والعواطف، ويستحضر في الذهن صورة علي وذريته.
كتب نصر: “أمكن للخميني وبطانته أن يديروا الجماهير عن طريق تغليف نظام حكمهم بالرموز الشيعية واستحضار الملاحم الشيعية الكبرى، وقد تلاعبوا بشكل حاذق بالمعتقدات الشعبية لتغذية الولاء للخميني وإحاطته بهالة قدسية، وكذلك لحمل الناس على التضحية بأرواحهم من أجل الثورة، وقد تجلى هذا الاتجاه واضحًا إبّان الحرب الإيرانية العراقية الطاحنة (…) ذهب الخميني وأتباعه في نسجهم الأساطير والخرافات إلى حد الزعم بأن الثورة الإيرانية حدث يساوي من حيث الأهمية لتاريخ الشيعة والتدين الشيعي وواقعة كربلاء نفسها (…) وعندما توفي الخميني، شيّد له خلفاؤه ضريحًا على طراز مقام الإمام الرضا في مشهد، وشجّعوا فعليًا زواره على أداء طقوس عادة ما تقدم لدى زيارة قبر أحد الأئمة” (صـ 132-133).
وحسب نصر، فقد بدأ الشيعة ينظرون إلي الخميني كشخصية تعادل الأئمة، لكن لم يقع كل الشيعة في سحر الخميني رغم أنهم في كل مكان قبلوه كزعيم سياسي، ويوضح نصر أن العديد من علماء الشيعة رأوا في نموذج الحكم الذي طرحه الخميني عن ولاية الفقيه انتهاكًا للتراث التاريخي الشيعي.
فعلى سبيل المثال، صُعق عالم الدين الشيعي حائري عندما ادّعى الخميني ارتباطه المباشر بالأئمة وقارن نفسه ضمنيًا بالعلي القدير، لدرجة أن الخميني انتهى إلى رؤية نفسه يتصرف كمشرّع سماوي. أما آية الله العظمى وأبو القاسم الخوئي غريم الخميني القديم منذ أيام النجف، فقد رفض الثنائي نظرية الخميني عن ولاية الفقيه، واعتبراها انحرافًا عن التشيُّع وبدعة لا سند لها.
لكن رغم حرص الخميني على التعتيم على صورته الشيعية في العالم السنّي، وتقديم الثورة الإيرانية على أنها طليعة الثورة الإسلامية العالمية، إلا أنه وجد صعوبة بالغة في فرض نفسه زعيمًا في العالم السنّي، ويوضح نصر أن مشروع الخميني من حيث الجوهر كان تحديًا شيعيًا لزعامة العالم السنّي.
وتبدو هذه الحجّة معقولة إلى حد كبير، فحين ذهب الإسلاميون السوريون السنّة إلى الخميني، من أجل إقناعه بعدالة ثورتهم ضد نظام الأسد الطائفي والقمعي، رفض الخميني دعم السنّة واصطف مع الحليف الشيعي رغم انتحاله الظهور بمظهر الزعيم لكل المسلمين.
صحوة الشيعة: اختراق العالم السنّي
يقضي نصر جزءًا كبيرًا من الفصول الأخيرة في الكتاب للحديث عن صعود إيران والدور المركزي الذي لعبته في الصحوة الشيعية، وينظر إلى الصحوة الشيعية في العالم على أنها حركة تحررية بكل ما تنطوي عليه حركات الحرية والتنوير.
لقد أثار الخميني أعصاب المنطقة، ولا شك أن انتصار الثورة الاسلامية في إيران أثّر على السياسة في البلدان المجاورة من الشرق الأوسط إلى جنوب آسيا، حيث لم تؤدِّ الثورة في إيران إلى إقامة علاقات طيبة بين الشيعة والسنّة في مختلف أنحاء المنطقة، بل تزايدت التوترات والمشاحنات.
يوضح نصر كيف أن العالم الشيعي استقبل الثورة الإيرانية بقدر عظيم من الزهو والثقة بالنفس، على حد تعبير نصر: “كانت الثورة الإسلامية في إيران بمثابة صرخة حاشدة للمجتمعات الشيعية”، وأعطت الهوية والأمل للكثيرين في تحدي الأنظمة والمطالبة بالحكم بشكل أكثر جرأة، مطمئنين إلى أن الخميني يساندهم في تحدي الأنظمة السنّية.
وقد حشدت جاذبية ثورة الخميني الشيعة في لبنان والعراق والكويت والبحرين واليمن وسوريا وأفغانستان وباكستان وحتى السعودية، واستفاد النظام الإيراني من العلاقات التي ربطت آيات الله ببعضهم في جميع أنحاء العالم العربي.
فهناك رجال دين درسوا مع الخميني في النجف خلال الستينيات والسبعينيات أثناء وجوده في المنفى، وكان من أهمهم مؤسسي حزب الدعوة العراقي آية الله محسن الحكيم ومحمد باقر الصدر، والزعيم الروحي لـ”حزب الله” اللبناني محمد حسين فضل الله.
وخلال الأشهر التي تلت الثورة الإيرانية، شجّعت إيران بشكل مباشر الجماعات الشيعية على القيام بنزاعات مسلحة واحتجاجات مثل حزب الدعوة في العراق، والحركة الجعفرية في باكستان، و”حزب الله” في السعودية. كما أنفقت طهران المال وأشكال المساعدة بغية إنشاء ميليشيات شيعية تنادي بالثورة الإسلامية، ولطالما اعتبرت إيران مختلف الجماعات الشيعية في العالم بمثابة أداة للهيمنة على المنطقة.
بل إن الخميني نفسه وصلت به الجرأة إلى إرسال رسالة تهديد إلى ضياء الحق في باكستان، يحذره فيها من إساءة معاملة الشيعة وإلا سيفعل به ما فعله بالشاه، ورغم أن الساسة والقادة العسكريين وكبار رجال الأعمال الشيعة في باكستان لم يختفوا عن المسرح، لكن اللافت أن النظام الباكستاني أذعن للخميني.
فحين احتج عشرات الألوف من شيعة باكستان مطالبين بإعفائهم من الزكاة المفروضة عليهم بموجب الشريعة الإسلامية، لم يكن أمام الحكومة الباكستانية من خيار سوى الإذعان، وقد شكّلت إيران حزبًا شيعيًا باكستانيًا على نسق حركة أمل في لبنان.
لكن رغم أن الثورة الإيرانية فشلت في تكرار نجاحها في أماكن أخرى من العالم الإسلامي، إلا أنها أدت إلى صحوة شيعية غير مسبوقة، ومثلما استنتج نصر “فقد نقلت الشيعة من مرحلة السلبية الهادئة إلى نشاط مفاجئ ومتفجر”، وهو ما أدّى إلى تغيير كبير في الخريطة السياسية في المنطقة.
🇱🇧🇮🇷A rare video of Sayyed Hassan Nasrallah speaking Persian at Tehran University pic.twitter.com/9FIoHZAWp1
— Ali 🇮🇷 🇾🇪 🇵🇸 🇱🇧 (@Mehboob__Ali72) June 5, 2024
من الواضح أن الثورة الإسلامية في إيران جلبت للشيعة نموذجًا ملهمًا، وأصبحت إيران الداعم الذي طال انتظاره لتعزيز وجود الأقليات الشيعية. فحيال تصاعد الوعي السنّي في سوريا، طالب حافظ الأسد من موسى الصدر والخميني إصدار فتوى تعلن أن الأقلية العلوية شيعية، وبالفعل جاءت رسالة من الصدر والخميني أعلنا فيها أن العلويين شيعة، وكان هذا حسب نصر مهمًّا لحماية العلويين من السنّة، وتثبيت شرعية النظام الذي جلس على رأس آلاف السكان السنّة.
وقد اعتبر الأسد أن تحالفه مع إيران ما بعد الثورة يشكّل ثقلًا موازنًا للمحيط السنّي، وردّت إيران بالمثل من خلال إقامة علاقات سياسية واقتصادية وعسكرية قوية مع نظام الأسد، واعتبرت الأخير حليفًا استراتيجيًا.
أما الشيعة في لبنان، فقبل أن يعربوا عن تعاطفهم مع الثورة الإيرانية، كانوا بالفعل قد بدأوا صحوتهم الخاصة قبل أن تندلع الثورة الإيرانية، وكانوا مثلما يروي نصر أول المنفصلين عن القومية ودعم القضية الفلسطينية، والتي حسب نصر لم تحمل لهم سوى العذاب والمعاناة.
وقد تجلى الغضب الشيعي على الفلسطينيين كأوضح ما يكون في عام 1982، حين استقبل بعض الشيعة جنود الجيش الإسرائيلي كمحرِّرين. وكما يشير فريدمان في كتابه “من بيروت إلى أورشليم”، فإن الإسرائيليين أضاعوا فرصة التحالف مع الشيعة اللبنانيين.
وقبل الثورة الإيرانية بسنوات قليلة، جاء رجل الدين الإيراني موسى الصدر إلى لبنان، وأثبت أنه هو المخلّص الذي يحتاجه شيعة لبنان. ومثلما يروي نصر كان الصدر وميليشياته “أمل” صنفًا جديدًا من القادة بالنسبة إلى شيعة لبنان. رجل دين حركي يتكلم عدة لغات وملمّ بالفقه الشيعي، منخرط بلا كلل لتحسين حياة أبناء طائفته وجعل أصواتهم قوية، وعلى حد تعبير نصر “منح الصدر الشيعة هوية جديدة تختلف عن القومية العربية ذات القيادة السنّية”.
ورغم أن الهدف المعلن من إنشاء الصدر لحركة أمل هو دعم قضايا الشيعة في لبنان وتقليل مساحة التهميش، لكن سرعان ما تنامت بشكل فاق التوقعات، فتحولت من حركة على الهامش إلى لاعب رئيسي في السياسة اللبنانية.
وسيرًا على منارة الصحوة الشيعية التي أطلق الصدر شرارتها، تخلى شيعة لبنان عن ولائهم للوحدة العربية الجامعة، وعوضًا عن ذلك طالبوا بالاعتراف بأنفسهم كشيعة، وقد استطاعوا تنظيم صفوفهم سياسيًا والالتفاف حول ميليشياتهم المسلحة التي حاربت من أجل السلطة خلال الحرب الأهلية اللبنانية.
لا بل إن الصدر كان مصدر إلهام للشيعة في أماكن أخرى من المنطقة، وقامت معسكرات “أمل” بتدريب عراقيين وإيرانيين وسعوديين ونشطاء شيعة عرب آخرين، حتى إن مفارز الحرس الثوري الإسلامي الإيراني تمّ تنظيمها على أيدي الكوادر المتمرّسين في معسكرات التدريب التابعة لـ”أمل”.
وحين أخرج الجيش الإسرائيلي منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، وجد الشيعة الساحة مفتوحة أمامهم لعرض عضلاتهم بعدما صاروا هم القوة المهيمنة، وما لبثت أن أظهرت “أمل” قوتها المكتسبة حديثًا في سلسلة من الهجمات المسلحة التي شنّتها على مخيمات اللاجئين الفلسطينيين حول بيروت.
لقد صبّت أمل جام غضبها وانتقامها على الفلسطينيين، وفي إحدى المرات فرضت حصارًا شاملًا على مخيمَي برج البراجنة وشاتيلا لمدة 6 أشهر كاملة، وقد لحق بسكانهما خطر المجاعة بعدما قُطعت عنهما المياه والأغذية.
واستمر السياسيون الشيعة بدعم القوانين والتشريعات المقيّدة للفلسطينيين، وربما لو لم يظهر “حزب الله” على المسرح ويتحدى الجيش الإسرائيلي ويجبره على الانسحاب من لبنان، معتمًا بذلك على “أمل” كواجهة سوداء للسياسة الشيعية في لبنان، لم تغفر للشيعة خطيئتهم بتأييد “إسرائيل” والهجوم على الفلسطينيين.
وفي حين أن الهند وباكستان وأذربيجان تصدت مبكرًا لمحاولات إيران النفاذ إليها عقب نجاح الثورة الإيرانية، إلا أن المنطقة العربية شهدت أعمال شغب شيعية وصدامات مسلحة مع الأنظمة التي أدركت متأخًرا خطر الصحوة الشيعية.
ففي البحرين وقعت محاولة انقلاب فاشلة عام 1981، وفي الكويت وقعت أيضًا هجمات بين عامي 1983 و1984، وكذلك كانت السعودية مسرحًا للعديد من الاضطرابات التي قام بتحريكها نشطاء خمينيون.
وكما يروي نصر، فإن الخميني نفسه أراد أن يلحق الضرر بالعائلة المالكة السعودية بالطريقة نفسها التي قام بها مع عائلة بهلوي، وكان الخميني يرى في السيطرة على السعودية نقطة انطلاق لبلوغ هدفه في المطالبة بزعامة العالم الإسلامي.
كتب نصر: “كثر هم الشيعة الذين وجدوا لغة الخميني الخطابية المعادية للمملكة العربية السعودية سارّة للغاية، ذلك أنها المرة الأولى التي يتصدى فيها زعيم شيعي للوهابية، بل ينقل في الحقيقة المعركة إلى عقر دارها” (صـ 147).
لكن جهود الخميني لإشعال الثورة في الجزيرة العربية باءت بالفشل إلى حد كبير، وقد توقع أبو القاسم الخوئي وغيره من رجال الدين الشيعة المشاكل التي سيواجهها الشيعة نتيجة تشجيع الخميني لهم على الثورة.
أما في العراق فقد أملت إيران أن يستجيب شيعة العراق لنداء الخميني بإعلان الثورة، ورغم أن صدّام حسين كان حازمًا وباطشًا في العادة في وجه أي معارضة، فقد واجه ثورات شيعية مدعومة من طهران، وبالأخص من حزب الدعوة الإسلامية، وهو منظمة تستمد وحيها الأيديولوجي من كتابات محمد باقر الصدر وآية الله الخميني، لكن صدّام ردَّ بمنتهى السرعة والشدة، حتى اضطر العديد من زعماء حزب الدعوة إلى اللجوء لطهران.
لكن يشير نصر إلى أن صدّام اعتمد سياسة الجزرة في المقابل، وراح يغدق المزيد من الأموال على الأحياء والبلدات والمناطق التي يقطنها الشيعة في البلاد. كذلك كان قرار صدّام بالهجوم على إيران نابعًا من افتراضه بأن نصرًا عراقيًا في ساحة المعركة سيقضي على الصحوة الشيعية في المنطقة، وسيجعل الحكم الجديد في طهران يتداعى وينهار.
لكن صدّام لم يكن ملمًّا بتاريخ الثورات، فالثورات تقوى شوكتها أمام الحروب الخارجية، وبالتالي لم يستطع إجهاض الثورة الإيرانية كما كان يأمل، بل زاد من تماسك النظام، وهو ما اعتبره المؤرخ الإيراني آراش عزيزي العامل الأكبر الذي ساعد الخميني في تثبيت نظامه الجديد.
ربما المكان الأهم الذي تسنّى للثورة الإيرانية أن تمتد إليه بكثير من التأثير كان لبنان، ورغم علاقة حركة “أمل” بقادة الحرس الثوري الإيراني، مع ذلك لم تكن “أمل” محبوبة في طهران، فالخميني رأى أنها غير قادرة على أن تمثل شعلة الصحوة الشيعية في لبنان.
ولذا قررت إيران بناء قوة بديلة، وانشقَّ فصيل عن أمل الحركة الأمّ ليشكل “أمل الإسلامية” والتي ستصبح في وقت لاحق “حزب الله”. ومنذ البداية و”حزب الله” وثيق الصلة بإيران، فمقاتلوه تلقّوا تدريبهم على أيدي الحرس الثوري الإيراني، وعلى حد تعبير نصر في وصف حزب الله: “قوة متفانية تعمل للثورة الإسلامية الشاملة وليس فقط لتمكين الشيعة داخل لبنان”.
وما بين عامي 1982 و1984، تمكّن “حزب الله” من قتل ما يزيد عن 600 جندي إسرائيلي، وهذه الكلفة البشرية أقنعت “إسرائيل” بالانسحاب من جنوب لبنان، ورفعت من مكانة “حزب الله” في أعين العرب لعدة سنوات.
وحسب نصر، تعززت كذلك الهالة حول الصحوة الشيعية، وبين عشية وضحاها اختطفت إيران و”حزب الله” القضية الفلسطينية. كما أن “حزب الله” لم يصبح القوة المهيمنة في البلاد فحسب، بل أظهر كذلك أن الشيعة لديهم القدرة على تأكيد أنفسهم كقوة تؤخذ في الحسبان.
ويكشف نصر أن النفوذ المتزايد لجنود الخميني في جميع المنطقة، دفع السعودية إلى تشكيل تحالف مع باكستان، وحسب نصر كان القلق الإيراني بشأن هذا المحور بجانب التهديد الذي يمثله العراق، هو السبب الذي جعل إيران مهتمة لأول مرة بالحصول على ترسانة نووية.
خلخلة التوازن: الكماشة الشيعية
قبل وقت قصير من اعتقاله من مخبئه السري، سجّل صدّام حسين كلمة لتفسير السرعة التي انهار بها جيشه، واتهم فيها الشيعة بالتعاون مع الغزاة الأمريكيين في سقوط بغداد الثاني، إذ قارنهم بالوزير الشيعي ابن العلقمي في القرن الثالث عشر الذي قيل أنه تواطأ مع المغول عندما استباحوا بغداد عام 1258م.
في الواقع، حظيت الولايات المتحدة إلى حد كبير بدعم الشيعة العراقيين، فقد انضموا إلى القوات الأمنية، ومن المدهش أن كبار آيات الله أصدروا فتاوى دينية تحثّ العراقيين على عدم مقاومة الاحتلال الأمريكي، والتصويت بكل إخلاص في الانتخابات التي تقول بجرأة “صنع في أمريكا”. ونتيجة لذلك كان أداء الشيعة جيدًا في الانتخابات العراقية الأولى، حيث فازوا بنسبة 48% من الأصوات.
وبشيء من التفصيل، يتحدث نصر كيف أن الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 عاد بالنفع على الشيعة في كل أنحاء المنطقة، فقد أعطى الشيعة الفرصة الأكبر لتغذية آمالهم في الهيمنة على المنطقة وليس فقط مجرد الهيمنة على حكم العراق.
فحين وصل الساسة الشيعة الذين كانوا أكثر ودّية لإيران إلى السلطة، بات التواصل بين شيعة العراق وإيران والسعودية وباكستان ولبنان أقوى من أي وقت مضى، وهو ما عبّر عنه السيستاني للشيعة في ذلك الوقت بشعاره: “رجل واحد.. صوت واحد”.
كتب نصر: “كانت الإطاحة بصدّام ونظام الأقلية السنّية التابع له، أولًا وقبل كل شيء، بشيرًا بشرق أوسط يتقلد فيه الشيعة سلطة أكبر من أي وقت مضى، ويعيدون بذلك تشكيل بنى التحالفات والثقافات والمؤسسات السياسية في المنطقة.. فقد تدفق مئات ألوف الزوار إلى النجف وكربلاء ليخلقوا صلات تجارية، وأهم من ذلك ليمتّنوا العرى الدينية والثقافية الشيعية العابرة للقوميات من لبنان إلى باكستان”. (صـ 168).
صدّام حسين .. سقوط حتمي
ويعتقد نصر أن الغزو الذي قادته الولايات المتحدة ضد العراق رسّخ مكانة إيران كقوة إقليمية على نحو لم يفعله الخميني، إذ تحولت إيران من كونها معقلًا شيعيًا مطوقًا من جيرانها السنّة إلى قوة غير مقيدة في العراق، وهو ما أدّى إلى تغيير الديناميكيات السياسية في مختلف أنحاء المنطقة. فعلى سبيل المثال، في السعودية أصبح لدى الشيعة الآن عراق شيعي جديد وإيران متمكنة في الشمال لدعم مطالبهم.
سرمد البياتي: يجب أن يشكر الشيعة الأمريكيين
وفي الواقع، كانت الجهود المبذولة لاجتثاث البعث الذي كان بالأساس علمانيًا، عبارة عن جهود لاجتثاث السنّة من الحكم وطمأنة إيران من أي تهديد مستقبلي. وبالتالي، لم يكن من المستغرب أن ترى العديد من الأنظمة العربية أن كل ما يحدث منذ احتلال العراق يضرّ بمصالحها.
استنتاجات وتوصيات نصر: من سيشكّل المستقبل؟
من منظور نصر، فالصحوة الشيعية المعاصرة تنهض لزعامة الإسلام السنّي، وتتلخص الحجة الأساسية التي ساقها نصر في كتابه هي أن النزاع السنّي الشيعي سيكون له الدور الرئيسي في رسم الشرق الأوسط.
فالجغرافيا السياسية المستقبلية في المنطقة لن تتشكل من خلال الديمقراطية أو العولمة، وإنما من خلال الحروب بين الأغلبية السنّية والأقلية الشيعية، أو بعبارة نصر: “سيتقرر شكل المنطقة داخل بوتقة الصحوة الشيعية والاستجابة السنّية لها”.
وقد أثبتت التطورات في الأعوام الأخيرة أن هذا الرأي يبدو معقولًا، فالقوة المتزايدة لإيران بجانب تواجد القوى الشيعية المسلحة في لبنان وسوريا واليمن والعراق واتحادها وارتباطها بإيران يشكل أساسًا لانتشار الهيمنة الشيعية، وهذا الوضع الحالي حدث بعد ترتيبات أجرتها إيران منذ عقود.
وبهذا التحالف، أصبح الشيعة قادرين على تعزيز سلطاتهم في المنطقة، ما دفع نصر إلى التوقع بأن “مركز الثقل لن يقع بعد الآن في أيدي السنّة العرب، بل سيحتله الشيعة، وأن الميزان سوف يتحرك شرقًا نحو إيران”.
ولذا يقدّم نصر نصائح مستمرة وتحذيرات أيضًا للإدارة الأمريكية، ويوصي الولايات المتحدة والغرب بشكل عام بأن يعيدا التفكير في الشيعة عند وضع السياسات المستقبلية، خاصة أن الشيعة يعيشون في المناطق الحساسة جيوستراتيجيًا وفوق أغنى حقول النفط في المنطقة، ومن مصلحة أمريكا حسب نصر أن تنفتح على إيران وتأخذ صحوة الشيعة على محمل الجد لأن المستقبل سيكون للأخيرة.
الدكتور عبد الله النفيسي
كذلك يرى نصر أنه من الصعب على الولايات المتحدة أن تعمل على الموازنة بين مطالب السنّة والشيعة، فالشيعة قد يغيرون تحالفهم مع الأمريكيين إذا وجدوا أن الأخيرة أكثر ميلًا إلى السنّة، ولذا يؤكد نصر على أن مصلحة الولايات المتحدة ستتحقق بشكل أفضل من خلال التحالف والتعاون مع الشيعة، لأن الولايات المتحدة والشيعة لديهما عدو مشترك متمثل في المتطرفين السنّة والنشطاء الوهابيين والجهاديين والإخوان المسلمين، ومن الواضح أن هذا هو مسار الإجراءات التي اتخذها بوش وأوباما من بعده.
ويبرهن نصر على كلامه بأن الأنظمة السنّية حتى وإن تحالفت مع الغرب والولايات المتحدة، فهي بنهاية المطاف غير قادرة على كبح جماح السنّة المعادين للولايات المتحدة، وهذا برأيه يجعل الشيعة من حيث المبدأ أكثر احتمالية للتحالف المستقبلي مع الولايات المتحدة في منطقة الخليج. وحسب منظور نصر، فالتشيُّع أقرب إلى لفكر الغربي العلماني، وفي مواضع كثيرة يؤكد نصر على أن “التشيع فكر مناهض للتسنّن”.
كتب نصر: “إن الكفاحية السنية -أي القاعدة، الحركيون الوهابيون والسلفيون، شبكة تنظيمات الإخوان المسلمين في عموم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وأوروبا- من يشكل الخطر الأعظم الذي يتهدد المصالح الأميركية. فالأيديولوجيا الدينية والسياسية لدى السنّة في الشرق الأوسط تسير بخلاف ما نرى عند الشيعة”. (صـ 247).
وفي خاتمة النسخة الأخيرة من الكتاب، والتي أصدرها نصر عام 2016، وغطى الأحداث من عام 2006 إلى عام 2016، أدان بشكل حادّ انسحاب أوباما اللاحق للقوات الأمريكية من العراق، واعتبر أنه أدّى إلى تأثير مأساوي على الشيعة.
ولذا أكد مجددًا على أهمية التعاون الأمريكي مع الشيعة وإيران، والذي يعتبره بمثابة حماية المصالح الأميركية الإقليمية في المنطقة، ويشير كذلك إلى أن إيران لم تتمكن بعد من الفوز في المواجهة مع السنّة، رغم التعاون الضمني مع أمريكا في العراق، كما أثنى على “الاتفاق النووي” الذي اعتبره قيمة استراتيجية.
ويشترك نصر في وجهة النظر القائلة بأن الشيعة بشكل عام بحاجة إلى التحرك أكثر نحو الغرب، وهو يؤكد على أن السيستاني، رجل الدين الشيعي البارز، سيكون له دور محوري في تلك العملية.
لكن يحذّر نصر من أن الشيعة في العالم العربي نتيجة لصعودهم الأخير، معرضون لخطر كبير من تحريض وثأر السنّة أو ما يسميه في بعض الأحيان بـ”كربلاء الثانية”، يخشى نصر من أن تؤدي صحوة الشيعة الأخيرة إلى ردة فعل سنّية ضخمة، وأن يخسر الشيعة الحكم لصالح السنّة.
مكائد نصر: منهج متحيِّز
لا شك أن كتاب نصر مكتوب بشكل جيد وجذاب وغني بالنقاط الممتازة، ومساهمة قيّمة لفهم العديد من الاختلافات الأساسية بين الشيعة والسنّة، والتعرّف على ملامح الصراع السنّي الشيعي.
لكن الاعتقاد بأن المرء سيفهم تعقيدات المنطقة بعد قراءة هذا الكتاب سيكون بالتأكيد خطأ، الكتاب ليس فوق الصراع أو الانقسام الطائفي، إذ إن المؤلف نفسه ميال بشكل واضح نحو الشيعة، وهو مثل العديد من الكتابات، يجب أن تؤخذ ميول المؤلف ودوافعه وخلفيته في الاعتبار.
في الواقع، يفتقر نصر في كثير من الأحيان إلى التحليل التاريخي السليم، إذ يلقي اللوم في كل المصائب التي حدثت للشيعة تاريخيًا على السنّة، فالسنّة هم “البلاء الدهري” على حد تعبيره، كما يقدم نصر حجة مفادها أن الشيعة على مرّ التاريخ كانوا جماعة متسامحة وغير عنيفة تعرضت باستمرار للاضطهاد والتطرف السنّي، ومن هذا المنطلق قدّم نصر الصراع الطائفي بكونه أمرًا ثابتًا في العالم الإسلامي، رغم أن السنّة والشيعة تعايشا بسلام على مدى فترات طويلة من الزمن.
لكن أسطورة نصر الخيالية واستخدام السرد الشيعي المستضعف عن الصراع الدائم طوال التاريخ، يهدفان حقيقة إلى تبرير الدور التوسعي والانتهازي الذي تقوم به إيران، من خلال استخدام الأقليات الشيعية العربية لتحقيق هيمنتها على المنطقة.
كذلك يزعم نصر أن الشيعة ركّزوا على مدار التاريخ الإسلامي على الانتصارات الأخلاقية بدلًا من المشاركة السياسية وبناء الإمبراطوريات، والحقيقة أن هناك فترات تاريخية بسطت فيها سلالات شيعية حكمها على السنّة وحكمت مناطق مختلفة من العالم الإسلامي، مثل بنو بويه في بغداد، والفاطميون الإسماعيليون في مصر، كما سادت إمارات شيعية في أماكن أخرى، وكذلك اندمج الشيعة في إمبراطوريات قوية.
ويرى نصر أن الشيعة خلال العقود التي تلت الثورة الإيرانية تم اضطهادهم وتكفيرهم وتهميشهم في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وخاصة في العالم العربي، لكنه يتجاهل المواجهات التي خاضها الشيعة بعد انتصار الخميني في إيران عام 1979. بجانب أن نصر يتشكى من تزايد ما أسماه “الأسلمة السنية”، رغم أنها حدثت بالأساس في البلاد التي شكل السنّة فيها أكثرية.
وعلى امتداد صفحات الكتاب، يصمُ نصر السنّة بالتطرف والتزمُّت والإرهاب، وقد قدّم جوانب أساسية من الإسلام السنّي بشكل غير دقيق. في حين أنه لم يعرّف الإيرانيون والشيعة بمصطلحات طائفية كما فعل مع السنّة.
ورغم تأكيده على أن السنّة ليسوا متجانسين ويتفاوتون في الخلفيات الثقافية والاقتصادية والدينية، إلا أنه حكم عليهم بحكم واحد، والأسوأ أنه مال بكثرة إلى التعميم عند حديثه عمّا أسماه “التطرف السني”، إذ يقول إن “التطرف السني يتغذى على التحامل ضد الشيعة، وأن الصحوة الشيعية تشكل أقوى مقاومة وتحدٍّ للسنة في المنطقة”.
وفي هذه الصورة يضع نصر الشيعة في خانة الضعفاء المغلوب على أمرهم، وفي حين تناول الظلم الحاصل للشيعة في العراق وباكستان والخليج، إلا أنه لم يذكر ولا بجملة واحدة الظلم الواقع على السنّة في إيران أو عرب الأحواز.
والأعجب أنه امتدح رجال دين شيعة مثل السيستاني الذي صوّره كمعتدل عظيم. مع العلم أننا إذا قارنا وضع السنّة في إيران مع شيعة الدولة العربية، نجد أن الشيعة في وضع أحسن حالًا بكثير من سنّة إيران، ونحن نرى اليوم أن الأقلية الشيعية تواصل قمع الأغلبية السنية في أجزاء من المنطقة العربية.
لكن نصر يتجاهل بشكل متعمد دور الميليشيات الشيعية في إشعال الصراع الطائفي، ولا يولي أي اهتمام للتطرف الشيعي كما يتجلى في تصرفات الميليشيات الشيعية، فالحقيقة أن الشيعة لم يكونوا خاملين مسالمين كما يوحي نصر، بل على العكس، واكبوا العنف السنّي من خلال تشكيل فرق الموت واستخدام وسائل الإرهاب التي قاموا من خلالها بتطهير مناطق السنّة.
وبينما قدّم نصر وصفًا شاملًا لإيران، فإن تحليله للدول العربية في غاية الضعف، خاصة في لبنان، ويزعم نصر أن الشيعة في لبنان يشكّلون الأغلبية، ومن المعروف أن هذا أبعد ما يكون عن الصحة، لأن الشيعة اللبنانيين يشكلون حوالي 30% من السكان.
كذلك شنّع نصر بشكل قاسٍ على الفقيه ابن تيمية لأنه رفض التشيع واعتبره بدعة، وبشكل ماكر ومتعمّد أغفل نصر رأي علماء الشيعة في المذهب السنّي، فهم أيضًا يعتبرون المذهب السنّي بدعة.
أيضًا عندما نقل نصر كلام عن رجل الدين السني أبو بصير الطرطوسي، فسّره على أنه يؤيد قتل المدنيين الشيعية، رغم أن الطرطوسي كان صراحة واضحًا بشكل كبير في رفضه قتل الشيعة، وقال في الرسالة نفسها التي اقتبس منها نصر: “إن القتل على الهوية الطائفية أمر لا يجيزه الشرع الإسلامي”.
وفي الواقع كثيرًا ما بالغ نصر في تبسيط الصراعات في الشرق الأوسط، وإرجاع كل صراع وخلاف وكل مظلومية إلى الانقسام بين السنّة والشيعة منذ زمن الأمويين، وحقيقة فإن هذا استسهال ومبالغة، وهذه السرديات لا تستند إلى أية أُسُس قوية.
وعلى سبيل المثال، يدّعي نصر أن الحرب الإيرانية العراقية كانت حربًا سنية شيعية، في حين أن هناك شيعة عراقيين وقفوا بجانب رفاقهم السنّة ضد الإيرانيين، وقد يعزى ميل نصر الواضح إلى إرجاع كل شيء إلى الخلافات الدينية بين السنّة والشيعة، إلى عمله كمستشار لكل من الرئيسَين بوش وأوباما ومجلس الكونغرس.
كذلك يصوّر نصر الشيعية باعتبارهم منحازين إلى وجهة النظر العالمية والديمقراطية ضد المتطرفين السنّة، ومهتمين بحقوق الأقليات وبالعدالة بسبب العقيدة التي ولّدت لديهم احتجاجًا ضد الطغيان. لدى نصر رأى راسخ بأن الشيعة هم البديل الديمقراطي والحداثي للمذهب السنّي الأصولي.
كما يزعم أن صعود الشيعة كقوة سيحفز الإصلاح والحرية في المنطقة، وأن الديمقراطية في العراق ولبنان والبحرين ستمكن الشيعة من تحدي التطرف السنّي، وهذا في تناقض مع موقفه السابق بأن الصراع لن يحسَم بالديمقراطية.
كتب نصر: “الخطاب والسجال السياسي الشيعي مهتمًا بالحداثة والديمقراطية اهتمامًا أكبر منه في البلدان ذات السيطرة السنية. إن جرعة أكبر من الديمقراطية تخدم ولا شك مصالح الشيعة في المنطقة، ومن هنا نجد الصحوة الشيعية ميالة حكمًا إلى تزكية التحولات الديمقراطية، بعبارة أخرى، إن الشيعة هم قوة ديمقراطية موضوعية وذاتية في آن”. (صـ 178).
وهذه النظرة المتفائلة غير صائبة، فالعديد من القيادات الشيعية لم تظهر فهًما معتدلًا للديمقراطية والحق في الاحتجاج وسيادة القانون وما إلى ذلك، باستثناء اللجوء إلى الوسائل العنيفة للتعامل مع المعارضة والخلافات. ومن المعروف أن نظام الأقلية العلوية بقيادة بشار الأسد يحظى بدعم إيران والجماعات الشيعية، التي قتلت وهجّرت الأغلبية السنّية الذين تمّ استهدافهم ككيان محدَّد ثقافيًا.
وإذا أخذنا في الاعتبار افتراض نصر أن الصحوة الشيعية تميل بشكل إيجابي نحو التغيير الديمقراطي، وأن الشيعة يريدون أن تسود الديمقراطية في العالم الإسلامي، فهذا ينطبق على 3 دول فقط هي العراق والبحرين وإيران، أما إذا سادت الديمقراطية في المنطقة فإن الشيعة سيبقون أقلية.
ولي نصر يزور الجامعة الأمريكية في بغداد
كذلك يزعم نصر أن الشيعة في العالم السنّي هم موضع للنكات والقصص عن الغباء وسوء النظافة، فيذكر أنه في السعودية يقال إن الشيعة يبصقون في طعامهم، وأن مصافحة شيعي نجس تنقض الوضوء، وفي باكستان يطلَق عليهم ألقاب مهينة مثل البعوض، رغم أن هذه الادّعاءات تنبع من المبالغة ولا يعرفها عموم السنّة، يبدو أن نصر أخذها من دوائر تبشّر بالتعصب. مع العلم أن هناك علماء دين شيعة أفتوا بقتل الوهابيين السنّة، ووصفوهم بأنهم أنجس من الكلاب والخنازير.
التناقضات تخيّم أيضًا على أجزاء الكتاب بشكل كبير، مثل اتهام العراقيين السنّة بتحطيم الوحدة الوطنية بسبب مطالبهم بالمزيد من التمثيل في السلطة، بينما حين قام الشيعة في دول الخليج بالأمر نفسه اعتبر نصر أنهم مضطهدون، واستخدم مصطلحات قاسية جدًّا ضد الأغلبية السنّية، فنصر ثابت طوال الوقت على إعلاء الشيعة وليس الموضوعية.
وعندما أدان الحكام العرب النفوذ الإيراني المتنامي، اتهمهم نصر بعداء الشيعة ومحاولة كسب الدعم الدولي ضد الشيعة، كما قام بالتأطير لمحاولات إيران زعزعة استقرار المنطقة على أنه ردّ على القوى السنّية التي تحاول الهجوم عليها، والحقيقة أن نصر على امتداد صفحات كتابه يصرّ على أن إيران تسعى إلى تجنُّب الطائفية، رغم أنه ذكر أن إيران هددت باكستان على أُسُس طائفية.
كذلك يظهر تناول نصر المنحاز بشكل فجّ من خلال عقد أوجُه تشابه الاختلاف والصراع بين السنّة والشيعة مع الأحداث في العالم المسيحي، حيث ساوى الصراع السنّي الشيعي مع الصراع البروتستانتي الكاثوليكي للتدليل على تقارب المذهب الشيعي مع الدين المسيحي ومن أجل إيجاد قواسم مشتركة، وفي أحيان أخرى شبّه الشيعة بالأقليات اليهودية في أوروبا الشرقية.
وفي الواقع، يأخذ نصر هذه المقارنات بعيدًا جدًّا، بما في ذلك المقارنة بين الإمام الحسين ويسوع المسيح، وبين مريم العذراء وفاطمة الزهراء، وبين مسجد جمكران في إيران وضريح فاطمة في البرتغال.
هذه المقارنات المستمرة التي قام بها نصر في كل فصل من فصول الكتاب، لا تضع السنّة والشيعة في إطار غربي فقط وتتجاهل ظروف وطبيعة المذهبَين، بل تجعل القارئ الغربي ينظر إلى الإسلام الشيعي بنظرة إعجاب وبتعاطف كبير.
كتب نصر: “إن تجربة الشيعة التاريخية شبيهة بتجربة كل من اليهود والمسيحيين من حيث إنها حكاية ألفية عن الاستشهاد والاضطهاد والمعاناة”. (صـ 53).
“إن الرابطة القائمة ما بين الشيعة ومرجعياتهم الدينية (آيات الله) شبيهة بتلك القائمة بين الجاليات اليهودية في أوروبا الشرقية وحاخاماتها، أو بين الجماعات الكاثوليكية التقليدية وقساوستها”. (صـ 66).
كذلك يدّعي نصر أن السنّة لا يؤمنون بالمجيء الثاني لأي شخص معيّن في نهاية العالم، رغم أن المجيء الثاني للمسيح قد تم وصفه بالتفصيل من خلال العديد من الأحاديث التي يقبلها السنّة.
وفي حين بدأ نصر كتابه بالشكوى من أن العالم الغربي استبعد المنظور الشيعي للإسلام، واعتمد على أسماه نصر بـ”النخب السنية المتسلطة”، إلا أنه أيضًا ارتكب الشيء نفسه لصالح النسخة الاثني عشرية من المذهب الشيعي.
من الممكن القول إن كتاب نصر ليس غرضه البحث العلمي إنما استهداف السنّة، لقد حاول أن يتراقص على كل ما يبدو مخيفًا إلى الغرب ويسمّيه سنّيًا، ولعلّ الخطأ الأكبر والفادح في أطروحة نصر هو أنه لم يحلل في أي مكان بالكتاب دوافع أولئك الذين انتقدوا وحاربوا الصحوة الشيعية، أو على الأقل فهم وجهات نظر الجماعات السنّية بشكل صحيح.
في الحقيقة أتقن نصر في كتابه “فن الإغفال”، وتعمّد تضليل القارئ وصنّاع القرار في الولايات المتحدة، فمن الواضح جدًّا أن ما يريده نصر من العرب السنّة هو تسليم المنطقة لإيران، فمقاربة نصر (المذهبية) والتوصيات والحلول المقترحة التي قدمها تصبّ بالنهاية في مصلحة إيران وتخلق المزيد من الصراع في المنطقة.
محاضرة ولي نصر في معهد العلمين للدراسات العليا في النجف بالعراق
نختم بالقول، إن الثورة الإيرانية لم تقم بإحياء وتجديد الهوية الشيعية فحسب، بل عمّقت أيضًا من الانقسام بين الشيعة والسنّة ومهّدت الطريق لصراعات على أُسُس طائفية، خاصة أن طهران ورّطت الشيعة واستخدمتهم لضرب الدول السنّية. والواقع أن إيران لا يمكن لها أن تحقق مكانتها كقوة عظمى، إلا إذا تمكنت من تصفية المقاومة السنّية للصحوة الشيعية.
إن التأثير المدمر للصحوة الشيعية في عقدها الخامس خلق ندوبًا عميقة قد يستغرق شفاؤها أجيالًا، ورغم أن الصحوة الشيعية بدأت مع الثورة الإيرانية ومكاسب “حزب الله” في لبنان ضد “إسرائيل” واعتلت مؤخرًا قمة مجدها، إلا أنها باتت تدور حول حماية وترسيخ المكاسب التي حققتها بقوة السلاح. ومهما يكن الفصل الأخير من هذا الصراع، فمن المهم أن نتذكر أن الشيعة في أحسن الأحوال يشكّلون نحو 15% من العالم الإسلامي.