فيما اعتبره البعض إيذانًا بقرب انتهاء التحقيقات مع معتقلي “الريتز كارلتون” من الأمراء والشخصيات العامة ورجال الأعمال السعوديين، منذ نوفمبر الماضي، في أعقاب الحملة التي قادها ولي العهد محمد بن سلمان، بزعم مكافحة الفساد، أفرجت السلطات السعودية مساء أول أمس الجمعة وصباح أمس السبت عن دفعة جديدة من المعتقلين.
الدفعة الجديدة تضمنت كبار رجال المال والإعلام في المجتمع السعودي على رأسهم الأمير الملياردير الوليد بن طلال مالك مجموعات “روتانا”، والوليد الإبراهيم أحد أبرز مُلاك إمبراطورية (MBC) الإعلامية، وكذلك الأمير تركي بن ناصر الذي كان يتولى رئاسة هيئة الأرصاد، إضافة إلى خالد التويجري رئيس ديوان الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز.
تساؤلات عدة فرضت نفسها على الشارع السعودي في أعقاب الإفراج عن الدفعة الأخيرة من معتقلي الريتز خاصة أن إطلاق سراحهم جاء بعد أقل من يومين على مقابلة الوليد بن طلال مع “رويترز” أكد من خلالها أن مسألة خروجه باتت مسألة وقت.. ليبقى السؤال: ما المقابل؟ وماذا حدث؟
83 يومًا من الاعتقال
شهران وثلاثة وعشرون يومًا إجمالي الفترة التي قضاها ما يزيد على مئتي معتقل من كبار رجال الدولة في المملكة مع الساعات الأولى لتدشين هيئة مكافحة الفساد مساء الرابع من نوفمبر/تشرين الماضي، كانت بمثابة الصدمة لدى المؤسسة السياسية وقطاع الأعمال في السعودية.
ضغوط داخلية وخارجية تعرضت لها السلطات السعودية جراء هذه الخطوة التي شملت أسماء ذات ثقل سياسي واقتصادي داخل الأسرة المالكة، فضلاً عن تداعياتها على صورة المملكة خارجيًا، وهو ما دفعها إلى محاولة الإسراع من أجل إنهاء التحقيقات وذلك بعد ورود العديد من التقارير التي كشفت تخوف المستثمرين الأجانب من استهداف أصولهم أو شركاء الأعمال المحليين في هذه الحملة واسعة النطاق.
نسبة كبيرة من الأهداف التي كان يسعى محمد بن سلمان لتحقيقها من وراء تلك الحملة تحققت بصورة أو بأخرى، سواء فيما يتعلق بالحصول على نسبة من رؤوس أموال الموقوفين خاصة أن عدد لا بأس به منهم من أصحاب الثروات المليارية، أو ما يتعلق بتقليم أظافر فريق الأمير محمد بن نايف ولي العهد السابق، وإجهاض أي محاولة لتغيير الوضع الراهن.
فريق يرى أن الإفراج عن الوليد بن طلال على وجه الخصوص هو نتيجة لصفقة سياسية عقدها مع السلطات السعودية، تقتضي تحسين صورة محمد بن سلمان وتبرئة ساحته من الانتقادات الموجهة إليه بإساءة معاملة المعتقلين
ولي العهد محمد بن سلمان
59 معتقلاً قيد الاحتجاز
بلغ عدد من تم استجوابهم حتى الآن من الموقوفين قرابة 350 شخصًا، فيما تم إطلاق سراح 90 منهم بعد أن وافقوا على إبرام تسويات تقتضي حريتهم مقابل المال، التي تشمل نقودًا وعقارات وأصولاً أخرى، فيما سيحال 95 معتقلاً إلى القضاء، حسبما كشف النائب العام السعودي سعود المعجب.
الصحف السعودية تعاطت مع هذه التصريحات كونها بداية العد التنازلي لإغلاق ملف التسويات المتصلة بقضايا الفساد، لافتة إلى أن نتائج التحقيقات أسفرت عن موافقة معظم الموقوفين على التسوية المالية في مقابل الإفراج عنهم.
سبق في نوفمبر/تشرين الماضي أن أعلن النائب العام السعودي توقعاته بشأن قيمة المبالغ المتوقع استعادتها عبر التسوية مع المعتقلين التي أشار حينها إلى تخطيها حاجز الـ100 مليار دولار، علمًا بأنه لا توجد إحصاءات رسمية بشأن ما تم تسويته بالفعل حتى الآن مع الـ90 معتقلاً.
تسوية مالية أم سياسية؟
في ظل ضحالة المعلومات والبيانات الصادرة عن السلطات السعودية والنائب العام بشأن تفاصيل عملية الإفراج عن الوليد ورفاقه، والظروف التي أحاطت بها، تصاعدت بورصة التكهنات والتساؤلات بصورة غير مسبوقة عما إذا كان إطلاق سراحهم نتيجة تبرئة من تهم الفساد الموجهة إليهم أو نتيجة التوصل إلى تسويات مالية أو سياسية، غير أن هذا كله يأتي في إطار التخمينات لا أكثر، والجزم بأي منها مسألة غير موضوعية وتفتقد للدقة.
صفقة سياسية.. فريق يرى أن الإفراج عن الوليد بن طلال على وجه الخصوص نتيجة لصفقة سياسية عقدها مع السلطات السعودية، تقتضي تحسين صورة محمد بن سلمان وتبرئة ساحته من الانتقادات الموجهة إليه بإساءة معاملة المعتقلين في مقابل إطلاق سراحه، حسبما نشرت “بي بي سي” في تقرير سابق لها.
أنصار هذا الفريق يستندون في تصورهم إلى ملخص المقابلة التي أجراها الوليد قبل يومين مع وكالة “رويترز”، تلك المقابلة التي لم تستغرق أكثر من 30 دقيقة، غير أنها جاءت بمثابة توقيع علني من الملياردير السعودي، على تلميع صورة ولي العهد من مسألة الاعتقالات الواسعة التي طالت أمراء في الأسرة الحاكمة، إضافة إلى وزراء ورجال أعمال ودعاة وغيرهم، وكذلك الأنباء التي تحدثت عن عمليات تعذيب شملت بعضهم.
ورغم الملامح الشاحبة التي بدا عليها الوليد وكشفتها الصور التي سربتها الوكالة حيث لحيته الطويلة ونحافة جسده على غير المعتاد، إلا أنه طيلة المقابلة ظل يعزف على المعاملة الجيدة التي يتعامل بها، “ليس لدي ما أخفيه على الإطلاق، أنا مرتاح جدًا وعلى راحتي جدًا، أحلق هنا وكأنني في البيت، يأتي حلاقي إلى هنا، أعيش كأنني في بيتي بصراحة”.
قررابن سلمان دعوة رويترز لمقابلة الوليد جاء لتكذيب BBC على تقريرها عن الوليد الذي اعطى انطباعا أنه تعرض للتعذيب
رويترز طلبت عدة مرات ورُفض طلبها ثم تفاجأوا قبل أمس بالموافقة
وعُرض على الوليد إن قال كلاما جيدا عن اعتقاله أن يطلق سراحه
ولن يطلق سراحه إلا إن أراد تكذيب مجتهد
— مجتهد (@mujtahidd) January 27, 2018
الحساب المعارض الشهير “مجتهد” على صفحته الرسمية على “تويتر” انحاز إلى هذا الفريق حين كشف عن ملامح العرض الذي أبرم بين السلطات السعودية والوليد، الذي كان بمقتضاه أن يتحدث الأمير الملياردير بشكل جيد عن ظروف اعتقاله وتعامل السلطات معه، مقابل أن يتم إطلاق سراحه، لذا وافق على إجراء المقابلة مع “رويترز” وهو الذي رفضها أكثر من مرة قبل ذلك.
تسوية مالية.. فريق آخر ذهب إلى أن عملية الإفراج كانت في مقابل تسوية مالية وإن لم يتم الكشف عن تفاصيلها، مستندًا في هذه الرؤية إلى أن تهرب الوليد من سؤال عن التسوية المالية مقابل الإفراج عنه خلال مقابلة “رويترز”، حيث قال حينها إنه ليس بالضرورة، ولا يمكنه البوح، كان بمثابة تأكيد بشكل غير مباشر للتقارير التي أشارت إلى طلب السلطات السعودية من الأمير المعتقل دفع مبلغ 6 مليارات دولار مقابل إطلاق سراحه.
بلغ عدد من تم استجوابهم حتى الآن من الموقوفين قرابة 350 شخصًا، فيما تم إطلاق سراح 90 منهم بعد أن وافقوا على إبرام تسويات، فيما سيحال 95 معتقلاً إلى القضاء
آخرون كشفوا النقاب عن ملامح صفقة جديدة تمت بين المعتقلين والسلطات السعودية، إعلامية أكثر منها مالية، إذ ليس من قبيل الصدفة أن يتم اعتقال أباطرة الإعلام في المملكة في آن واحد، الوليد بن طلال “روتانا” والوليد الإبراهيم “MBC” المحسوبة على جَناح “آل فهد” في الأُسرة الحاكِمة وصالح كامل “ART” التي سيطرت إلى وقت قريب على مناخ الإعلام في المنطقة، وأن يفرج عنهم في أوقات متقاربة أيضًا.
هؤلاء يرجحون تسوية تمت بين أقطاب الإعلام المعتقلين ومحمد بن سلمان تقتضي وضع تلك الإمبراطوريات الإعلامية في قبضة ولي العهد في محاولة إنهاء حالة الازدواجية في الخريطة الإعلامية السعودية، وحتى لا تستخدم مستقبلاً في عرقلة طموحات الأمير الشاب نحو خلافة والده.
وبصرف النظر عن كواليس حملة الاعتقالات الأخيرة أو دوافع إطلاق سراح البعض، فإن المستجدات الإقليمية والضغوط الممارسة على المملكة منذ الرابع من نوفمبر الماضي، ستفرض عليها غلق هذا الملف في أقرب وقت، خاصة بعد تداعياته السلبية، داخليًا وخارجيًا، ليبقى في النهاية حقيقة واحدة وهي تغلغل الفساد داخل مفاصل المملكة وتجاوز رائحته النطاق الضيق الذي اعتاد عليه طيلة العقود الماضية.