آلاف المعزولين عن العالم.. ماذا يجري داخل قاعدة “سديه تيمان” الإسرائيلية؟

ترجمة وتحرير: نون بوست

جلس الرجال في صفوف، مكبلي الأيدي ومعصوبي الأعين، غير قادرين على رؤية الجنود الإسرائيليين الذين كانوا يراقبونهم من الجانب الآخر من السياج الشبكي، ومُنعوا من التحدث بصوت أعلى من الهمس، ومُنعوا من الوقوف أو النوم إلا عندما يُؤذن لهم بذلك.

سجد بعضهم للصلاة، وتم فحص أحدهم من قبل المسعف، وسُمح لآخر بنزع الأصفاد من يديه لفترة وجيزة للاغتسال، وجلس المئات من المعتقلين الآخرين من غزة في صمت، كانوا جميعًا معزولين عن العالم الخارجي؛ حيث مُنعوا من الاتصال بمحاميهم أو أقاربهم لأسابيع.

كان هذا هو المشهد بعد ظهر أحد الأيام في أواخر شهر أيار/مايو في حظيرة عسكرية داخل قاعدة سديه تيمان العسكرية في جنوب “إسرائيل”، والتي أصبحت مرادفًا لاحتجاز الفلسطينيين في غزة، وبحسب الجيش الإسرائيلي فإن معظم سكان غزة الذين تم أسرهم منذ بداية الحرب في 7 تشرين الأول/أكتوبر تم إحضارهم إلى ذلك الموقع للاستجواب الأولي.

وقد سمح الجيش – الذي لم يسبق له منح وسائل الإعلام حق الوصول لذلك المكان – لصحيفة نيويورك تايمز بالاطلاع لفترة وجيزة على جزء من مركز الاحتجاز وكذلك إجراء مقابلات مع قادته ومسؤولين آخرين، بشرط عدم الكشف عن هويتهم.

وتحولت سديه تيمان من ثكنة غامضة إلى موقع استجواب مؤقت وبؤرة رئيسية للاتهامات الموجهة للجيش الإسرائيلي بإساءة معاملة المعتقلين، بما في ذلك الأشخاص الذين تبين لاحقًا عدم ارتباطهم بحماس أو الجماعات المسلحة الأخرى، وقد وصف معتقلون سابقون تعرضهم للضرب وغيره من الانتهاكات في المنشأة في المقابلات.

صورة للفلسطينيين المحتجزين في سديه تيمان تمت مشاركتها مع صحيفة نيويورك تايمز

وبحلول أواخر شهر أيار/مايو كان حوالي 4000 معتقل من غزة قد أمضوا ما يصل إلى ثلاثة أشهر في سديه تيمان، بما في ذلك عشرات الأشخاص الذين تم أسرهم خلال الهجمات التي قادتها حماس على “إسرائيل” في تشرين الأول/أكتوبر، بحسب قادة الموقع الذين تحدثوا إلى صحيفة التايمز.

ووفقًا للقادة؛ فقد نُقل حوالي 70 بالمائة من المعتقلين بعد الاستجواب إلى سجون مخصصة لمزيد من التحقيق والملاحقة القضائية، أما الباقون، أي ما لا يقل عن 1200 شخص، فقد تبين أنهم مدنيون وعادوا إلى غزة دون تهمة أو اعتذار أو تعويض.

وقال محمد الكردي، 38 سنة، وهو سائق سيارة إسعاف أكد الجيش أنه كان محتجزًا في سديه تيمان أواخر السنة الماضية: “لم يكن زملائي يعرفون ما إذا كنتُ حيًّا أو ميتًا”.

محمد الكردي يرتدي سترة عامل الإسعاف.

وقال السيد الكردي: “لقد اعتقلتُ لمدة 32 يومًا”، وأفاد بأنه أُلقي القبض عليه في تشرين الثاني/نوفمبر بعد أن حاولت قافلة سيارات الإسعاف التي كان فيها المرور عبر نقطة تفتيش عسكرية إسرائيلية جنوب مدينة غزة، وأضاف: “لقد شعرت وكأنهم 32 سنة”.

وأظهر تحقيق أجرته صحيفة نيويورك تايمز على مدار ثلاثة أشهر – استنادًا إلى مقابلات مع معتقلين سابقين ومع ضباط عسكريين إسرائيليين وأطباء وجنود خدموا في الموقع؛ وزيارة القاعدة؛ والبيانات التي قدمها الجيش بشأن المعتقلين المفرج عنهم – أن هناك 1200 مدنيًا فلسطينيًا قد تم احتجازهم في سديه تيمان في ظروف مهينة دون القدرة على المثول أمام قاضٍ لمدة تصل إلى 75 يومًا، كما يُحرم المعتقلون أيضًا من الاتصال بمحامين لمدة تصل إلى 90 يومًا، ويتم إخفاء أماكن تواجدهم عن جماعات حقوق الإنسان وكذلك عن اللجنة الدولية للصليب الأحمر، فيما وصفه بعض الخبراء القانونيين بأنه انتهاك للقانون الدولي.

وقال ثمانية معتقلين سابقين تحدثوا علنًا – وأكد الجيش أنهم جميعًا كانوا محتجزين في الموقع – إنهم تعرضوا لمختلف أنواع الضرب والركل والضرب بالهراوات وأعقاب البنادق وجهاز كشف المعادن اليدوي أثناء احتجازهم، وقال أحدهم إن ضلوعه كُسرت بعد أن رُكل في صدره بالركبة، وقال محتجز آخر إن ضلوعه كُسرت بعد أن تعرض للركل والضرب ببندقية، وهو اعتداء قال محتجز ثالث إنه كان شاهدًا عليه، وقال سبعة إنهم أُجبروا على ارتداء الحفاضات فقط أثناء استجوابهم، وقال ثلاثة إنهم تعرضوا للصعق بالكهرباء أثناء استجوابهم.

وترددت معظم هذه الادعاءات في المقابلات التي أجراها مسؤولون من الأونروا، وكالة الأمم المتحدة الرئيسية لشؤون الفلسطينيين – وهي مؤسسة تدعي “إسرائيل” أنها مُخترقة من قبل حماس اخترقتها، وهو ادعاء تنفيه الوكالة – وقد أجرت الوكالة مقابلات مع مئات المعتقلين العائدين الذين أفادوا بوقوع انتهاكات واسعة النطاق في سديه تيمان وغيرها من مرافق الاحتجاز الإسرائيلية، بما في ذلك الضرب واستخدام العصا الكهربائية.

وتحدث جندي إسرائيلي خدم في الموقع شريطة عدم الكشف عن هويته لتجنب الملاحقة القضائية، إن زملاءه الجنود كانوا يتفاخرون بانتظام بضرب المعتقلين، وأنه رأى علامات تشير إلى تعرض العديد من الأشخاص لمثل هذه المعاملة، وأضاف أن أحد المعتقلين نُقل للعلاج في المستشفى الميداني المؤقت بالموقع بسبب كسر في عظامه خلال فترة اعتقاله، في حين أُخرج آخر لفترة وجيزة بعيدًا عن الأنظار وأُعيد مصابًا بنزيف حول قفصه الصدري، وقال الجندي إن شخصًا قد توفي في سديه تيمان متأثرًا بجروح أصيب بها في صدره، رغم أنه من غير الواضح ما إذا كانت إصابته قد حدثت قبل وصوله إلى القاعدة أم بعده.

جنود إسرائيليون بجوار شاحنة محملة بمعتقلين فلسطينيين مقيدين ومعصوبي الأعين في غزة في كانون الأول/ديسمبر، ووفقًا للجيش الإسرائيلي، فإن جميع المعتقلين الذين تم القبض عليهم في غزة منذ تشرين الأول/أكتوبر قد أمضوا بعض الوقت في سديه تيمان.

وقد تُوفي 35 معتقلًا من بين 4000 تم احتجازهم في سديه تيمان منذ تشرين الأول/أكتوبر، إما في الموقع أو بعد نقلهم إلى مستشفيات مدنية قريبة، وفقًا لضباط في القاعدة تحدثوا إلى التايمز خلال زيارة أيار/مايو، وقال الضباط إن بعضهم مات بسبب جروح أو أمراض أصيبوا بها قبل احتجازهم، ونفوا وفاة أي منهم بسبب سوء المعاملة، ويحقق المدعون العسكريون في الوفيات.

وقال كبار الأطباء العسكريين خلال الزيارة إنهم لم يلاحظوا مطلقًا أي علامات تعذيب، وقال القادة إنهم حاولوا معاملة المعتقلين بأكبر قدر ممكن من الإنسانية، وأكدوا أنه تم فصل ما لا يقل عن 12 جنديًا من أدوارهم في الموقع؛ بعضهم بسبب الاستخدام المفرط للقوة.

وأصبح الموقع محط تدقيق متزايد من وسائل الإعلام في الأسابيع الأخيرة، بما في ذلك تقرير لشبكة “سي إن إن” – استشهد به البيت الأبيض لاحقًا – وكذلك من المحكمة العليا الإسرائيلية، التي بدأت يوم الأربعاء في النظر في عريضة قدمتها جماعات حقوق الإنسان لإغلاق الموقع، وقالت الحكومة الإسرائيلية في ردها على العريضة إنها تعمل على تقليل عدد المعتقلين في سديه تيمان وتحسين الظروف هناك؛ وقد شكل الجيش الإسرائيلي بالفعل لجنة للتحقيق في معاملة المعتقلين في الموقع.

ونفى الجيش الإسرائيلي في بيان مطول لهذا المقال وقوع “انتهاكات ممنهجة” في سديه تيمان، وعندما تمت مواجهته بمزاعم فردية تتعلق بالانتهاكات، قال الجيش إن هذه المزاعم “من الواضح أنها غير دقيقة أو لا أساس لها من الصحة على الإطلاق”، وأنه ربما تم اختراعها تحت ضغط من حماس، ولم يقدم مزيدًا من التفاصيل.

معتقلون فلسطينيون سابقون ينتظرون العلاج من إصاباتهم بعد وقت قصير من إطلاق سراحهم وإعادتهم إلى غزة في كانون الأول/ديسمبر.

وقال البيان العسكري: “إن أي إساءة للمعتقلين، سواء أثناء اعتقالهم أو أثناء التحقيق، تعد انتهاكًا للقانون ولتوجيهات الجيش الإسرائيلي، وبالتالي فهي محظورة وممنوعة بشدة، ويتعامل الجيش الإسرائيلي بمنتهى الجدية مع أي تصرفات من هذا النوع، والتي تتعارض مع قيمه، ويفحص بدقة الادعاءات الملموسة المتعلقة بإساءة معاملة المعتقلين”. وقال جهاز الشاباك – وكالة المخابرات الداخلية الإسرائيلية، الذي يجري بعض الاستجوابات في القاعدة – في بيان مقتضب إن جميع الاستجوابات التي أجراها “تم إجراؤها وفقًا للقانون”.

وقال يوئيل دونشين، وهو طبيب عسكري يخدم في الموقع، إنه من غير الواضح لماذا أسر الجنود الإسرائيليون العديد من الأشخاص الذين عالجهم هناك، فبعضهم لا يُحتمل أبدًا أن يكونوا مقاتلين شاركوا في الحرب، وقال إن أحدهم كان مصابا بشلل نصفي، وآخر يزن حوالي 300 رطل، والثالث يتنفس منذ الطفولة من خلال أنبوب تم إدخاله في رقبته، وتساءل الدكتور دونشين: “لماذا أحضروه؟ لا أعرف”، وأضاف: “إنهم يأخذون الجميع”.

كيف يتم القبض على المعتقلين؟

وقال فادي بكر، طالب الحقوق من مدينة غزة، إنه اعتقل في الخامس من كانون الثاني/يناير على يد جنود إسرائيليين بالقرب من منزل عائلته، وأضاف بكر، البالغ من العمر 25 سنة، والذي نزح بسبب القتال في وقت سابق من الحرب، إنه عاد إلى حيه للبحث عن الدقيق، ليجد نفسه في وسط تبادل إطلاق النار حيث أصيب حينها.

فادي بكر بعد وقت قصير من إطلاق سراحه.

وقال إن الإسرائيليين عثروا عليه وهو ينزف بعد توقف القتال، وأضاف أنهم جردوه من ملابسه، وصادروا هاتفه ومدخراته، وضربوه ضربًا مبرحًا واتهموه بأنه مسلح نجا من المعركة، ويتذكر بكر أنهم قالوا له: “اعترف الآن وإلا سنطلق عليك النار”،  كما يتذكر رده قائلًا: “أنا مدني”، ولكن دون جدوى.

تشبه ظروف اعتقال السيد بكر ظروف اعتقال معتقلين سابقين آخرين أجرت صحيفة التايمز مقابلات معهم.

وقال العديد منهم إنه تم الاشتباه في قيامهم بنشاط مسلح لأن الجنود واجهوهم في المناطق التي اعتقد الجيش أنها تؤوي مقاتلي حماس، بما في ذلك المستشفيات ومدارس الأمم المتحدة أو الأحياء الخالية من السكان مثل حي السيد بكر.

وقال يونس الحملاوي، 39 سنة، وهو كبير ممرضين، إنه اعتقل في تشرين الثاني/نوفمبر بعد مغادرته مستشفى الشفاء في مدينة غزة خلال غارة إسرائيلية على المكان الذي اعتبرته “إسرائيل” مركز قيادة لحماس، واتهمه الجنود الإسرائيليون بأن له علاقات بحماس.

يونس الحملاوي

وقال السيد الكردي، سائق سيارة الإسعاف، إنه تم القبض عليه أثناء محاولته نقل المرضى عبر نقطة تفتيش إسرائيلية، ويدعي مسؤولون إسرائيليون إن مقاتلي حماس يستخدمون سيارات الإسعاف بشكل روتيني.

ووصف جميع المعتقلين الثمانية السابقين أسرهم بطرق مماثلة؛ حيث كانوا معصوبي الأعين، ومقيدي الأيدي بأربطة، وجُردوا من ملابسهم باستثناء ملابسهم الداخلية حتى يتمكن الجنود الإسرائيليون من التأكد من أنهم غير مسلحين.

وقال معظمهم إنهم تعرضوا للاستجواب والضرب والركل أثناء وجودهم في غزة، وقال البعض إنهم تعرضوا للضرب بأعقاب البنادق، وفي وقت لاحق، قالوا إنه تم وضعهم مع معتقلين آخرين في شاحنات عسكرية وهم نصف عراة ونقلهم إلى سديه تيمان. وقال البعض إنهم قضوا بعض الوقت لاحقًا في نظام السجون الإسرائيلي الرسمي، بينما قال آخرون إنهم أُعيدوا مباشرة إلى غزة.

وقال السيد بكر إنه أمضى أربعة أيام متقطعة تحت الاستجواب خلال الشهر الذي قضاه في الموقع. وأوضح السيد بكر: “أعتبرها أسوأ أربعة أيام في حياتي كلها”.

كيف تطور الموقع؟

خلال الحروب السابقة مع حماس، بما في ذلك الصراع الذي استمر 50 يومًا في سنة 2014، كانت قاعدة سديه تيمان العسكرية تحتجز أعدادًا صغيرة من سكان غزة الذين تم أسرهم بين الحين والآخر، والقاعدة هي مركز قيادة ومخزن للمركبات العسكرية، وقد تم اختيار القاعدة لأنها قريبة من غزة وتضم موقعًا للشرطة العسكرية التي تشرف على مرافق الاحتجاز العسكرية.

بدأت “إسرائيل” في تشرين الأول/أكتوبر استخدام الموقع لاحتجاز الأشخاص الذين تم أسرهم في “إسرائيل” خلال الهجوم الذي قادته حماس، ووضعتهم في حظيرة دبابات فارغة، وفقًا لما ذكره قادة الموقع، وقالوا إنه بمجرد غزو “إسرائيل” لغزة في نهاية ذلك الشهر، بدأ سديه تيمان يستقبل عددًا كبيرًا من الأشخاص، مما دفع الجيش إلى إعادة تجهيز ثلاث حظائر أخرى لاحتجازهم وتحويل مكتب للشرطة العسكرية لتوفير مساحة أكبر للاستجواب.

بحلول أواخر أيار/مايو؛ قالوا إن القاعدة ضمت ثلاثة مواقع احتجاز: عنابر يُحتجز فيها المعتقلون بواسطة الشرطة العسكرية؛ والخيام القريبة حيث يعالج المعتقلون على يد أطباء عسكريين؛ ومنشأة استجواب في جزء منفصل من القاعدة يعمل بها ضباط استخبارات من مديرية المخابرات العسكرية الإسرائيلية والشاباك.

وبموجب التشريعات الإسرائيلية، فإنه بمجرد تصنيفهم على أنهم “مقاتلون غير شرعيين” يمكن احتجاز المعتقلين في سديه تيمان لمدة تصل إلى 75 يومًا دون إذن قضائي و90 يومًا دون الوصول إلى محام وبدون محاكمة.

مدخل قاعدة سديه تيمان.

وقال الجيش الإسرائيلي إن هذه الترتيبات مسموح بها بموجب اتفاقيات جنيف التي تحكم الصراع الدولي، والتي تسمح باعتقال المدنيين لأسباب أمنية. وقال القادة في الموقع إنه من الضروري تأخير الوصول إلى المحامين من أجل منع مقاتلي حماس من نقل رسائل إلى قادتهم في غزة، مما يعيق المجهود الحربي الإسرائيلي.

وبعد الاستجواب الأوَّلي في معتقل سديه تيمان؛ عادة ما يتم نقل المعتقلين الذين يشتبه في أن لهم صلات بالمتشددين إلى موقع عسكري آخر أو إلى سجن مدني. وفي النظام المدني، من المفترض أن يتم توجيه التهم إليهم رسميًّا؛ وفي أيار/ مايو، قالت الحكومة في مذكرة قدمتها إلى المحكمة العليا الإسرائيلية إنها بدأت إجراءات جنائية ضد “مئات” الأشخاص الذين تم القبض عليهم منذ السابع من شهر تشرين الأول/ أكتوبر، دون تقديم مزيد من التفاصيل حول العدد الدقيق للقضايا أو وضعها، ولم تُجر أي محاكمة معروفة لسكان غزة الذين تم أسرهم منذ تشرين الأول/ أكتوبر.

وقال خبراء في القانون الدولي إن النظام الإسرائيلي فيما يتعلق بالاحتجاز الأوَّلي أكثر قسوة ​​من العديد من نظرائه الغربيين من حيث الوقت الذي يستغرقه القضاة لمراجعة كل حالة، وكذلك من حيث عدم إمكانية وصول موظفي الصليب الأحمر.

وقال لورانس هيل كاوثورن، أستاذ القانون الذي كتب لمحة عامة عن القوانين التي تحكم احتجاز المقاتلين غير الحكوميين، إنه في وقت مبكر من حربها ضد طالبان في أفغانستان، أخرت الولايات المتحدة أيضًا المراجعة المستقلة لقضية المعتقلين لمدة 75 يومًا، وقال البروفيسور إن الولايات المتحدة قلصت هذا التأخير في سنة 2009 إلى 60 يومًا، بينما تمت مراجعة الحالات في العراق في غضون أسبوع.

وقال البروفيسور هيل كاوثورن إن قرار إسرائيل بتأخير المراجعة القضائية للقضية لمدة 75 يومًا دون إتاحة الوصول إلى المحامين أو الصليب الأحمر “يبدو لي وكأنه شكل من أشكال الاحتجاز بمعزل عن العالم الخارجي، وهو في حد ذاته انتهاك للقانون الدولي”، وأضاف أنه بعد اختفاء السيد بكر فجأة في كانون الثاني/ يناير، لم يكن لدى عائلته أي وسيلة لمعرفة مكان وجوده، وظنوا أنه مات.

أين يعيش المعتقلون؟

داخل سديه تيمان؛ احتُجز السيد بكر في حظيرة مفتوحة، حيث قال إنه أُجبر، مع مئات آخرين، على الجلوس مكبلي الأيدي في صمت على حصيرة لمدة تصل إلى 18 ساعة في اليوم. ولم يكن للحظيرة أي جدار خارجي، مما جعلها مفتوحة للمطر والبرد، وكان الحراس يراقبونه من الجانب الآخر من سياج شبكي.

وكان جميع المعتقلين معصوبي الأعين، باستثناء واحد يعرف بالشاويش، أي رقيب، وهو بمثابة الوسيط بين الجنود والسجناء؛ حيث كان يوزع الطعام ويرافق السجناء الآخرين إلى مجموعة من المراحيض المتنقلة في زاوية العنبر.

وبعد أسابيع؛ قال بكر إنه تم تعيينه كشاويش، مما سمح له برؤية محيطه بشكل أكبر.

وتتطابق روايته إلى حد كبير مع روايات معتقلين آخرين وتتوافق مع ما عرضته صحيفة التايمز في الموقع في أواخر شهر أيار/ مايو.

وقال القادة في الموقع إنه يُسمح للمحتجزين بالوقوف كل ساعتين للتمدد والنوم بين الساعة 10 مساءً تقريبًا والساعة 6 صباحًا والصلاة في أي وقت. وقالوا إنه سُمح للمحتجزين لفترة وجيزة في شهر تشرين الأول/ أكتوبر بخلع عصابة أعينهم والتحرك بحرية داخل الحظائر، لكن هذا الترتيب انتهى بعد أن أصبح بعض المحتجزين جامحين أو حاولوا فك الأصفاد، على حد قول القادة.

وقال بكر إنه كان مرهقًا بعد الرحلة إلى معتقل سديه تيمان، ونام بعد وقت قصير من وصوله، مما دفع أحد الضباط إلى استدعائه إلى غرفة قيادة قريبة، وقال السيد بكر إن الضابط بدأ بضربه، ويتذكر أن الضابط قال: “هذه عقوبة من ينام”.

ووصف آخرون استجابات مماثلة للمخالفات البسيطة؛ حيث قال رفيق ياسين، 55 سنة، وهو عامل بناء تم اعتقاله في كانون الأول/ ديسمبر، إنه تعرض للضرب مرارًا وتكرارًا على بطنه بعد محاولته إلقاء نظرة خاطفة من تحت العصابة على عينيه، وأضاف أنه بدأ يتقيأ دما وعولج في مستشفى مدني في مدينة بئر السبع القريبة، وعندما سُئِلَ المستشفى عن هذا الادعاء، أحال الصحيفة إلى وزارة الصحة التي رفضت التعليق.

رفيق ياسين

وقال الجندي الإسرائيلي الذي شهد الانتهاكات في الحظيرة إن أحد المعتقلين تعرض للضرب المبرح لدرجة أن ضلوعه نزفت بعد أن اتُّهِم بإلقاء نظرة تحت عصابة عينيه، بينما تعرض آخر للضرب بعد أن تحدث بصوت عالٍ في كثير من الأحيان.

ولم تشهد التايمز أي عملية اعتداء خلال زيارتها للحظيرة؛ حيث شوهد بعض المعتقلين وهم يصلون بينما تم تقييم آخرين من قبل المسعفين أو أحضرهم الشاويش للاغتسال في حوض في الجزء الخلفي من العنبر، كما تمت رؤية رجل يلقي نظرة خاطفة تحت عصابة عينيه دون أن يتعرض لعقوبة فورية.

ومثل المعتقلين السابقين الآخرين؛ يتذكر السيد بكر أنه كان يتلقى ثلاث وجبات خفيفة في معظم الأيام، عادة ما تكون عبارة عن خبز يقدم مع كميات صغيرة من الجبن أو المربى أو التونة، وأحيانًا الخيار والطماطم. وقال الجيش إن المؤن الغذائية “تمت الموافقة عليها من قبل أخصائي تغذية معتمد من أجل الحفاظ على صحتهم”.

ووفقا لعدد من المعتقلين السابقين، لم يكن ذلك كافيًا؛ حيث قال ثلاثة إنهم فقدوا أكثر من 40 رطلاً أثناء احتجازهم.

وتتوفر بعض العلاجات الطبية في الموقع، وقد اصطحب القادة فريق صحيفة التايمز إلى مكتب قالوا إن المسعفين قاموا بفحص كل محتجز عند وصوله، بالإضافة إلى مراقبتهم كل يوم في الحظائر. ويتم علاج الحالات الخطيرة في مجموعة قريبة من الخيام التي تشكل مستشفى ميدانيًا مؤقتًا.

وداخل تلك الخيام، يتم تعصيب أعين المرضى وتقييد أيديهم إلى أسرتهم، وذلك وفقًا لوثيقة وزارة الصحة التي تحدد سياسات الموقع، والتي استعرضتها صحيفة التايمز.

وخلال الزيارة، قال أربعة مسعفين في المستشفى إن هذه الإجراءات ضرورية لمنع الهجمات على الطاقم الطبي/ وقالوا إن سجينين على الأقل حاولا الاعتداء على المسعفين أثناء علاجهم.

لكن آخرين، ومن بينهم الدكتور دونشين، قالوا إنه في كثير من الحالات كانت الأصفاد غير ضرورية وتجعل من الصعب علاج الناس بشكل صحيح.

معتقل فلسطيني سابق على سرير في المستشفى الشهر الماضي، يظهر آثار جروح، على حد قوله، بسبب المعاملة التي تلقاها في المعتقلات الإسرائيلية.

قال إسرائيليان كانا في المستشفى السنة الماضية إن موظفيه كانوا أقل خبرة بكثير وأقل تجهيزًا بشكل سيئ خلال المراحل الأولى من الحرب. وقال أحدهم، الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته لتجنب الملاحقة القضائية، إنه في ذلك الوقت لم يكن المرضى يتلقون ما يكفي من مسكنات الألم أثناء الإجراءات العلاجية المؤلمة.

وقالت منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان، وهي جماعة حقوقية في “إسرائيل”، في تقرير لها في شهر نيسان/ أبريل إن مستوى المستشفى الميداني كان “متدنيًا بالنسبة لأخلاقيات الطب والكفاءة المهنية”.

واعترفت القيادة الحالية للمستشفى بأنها لم تكن دائمًا مجهزة تجهيزًا جيدًا كما هي الآن، لكنها قالت إن موظفيها يتمتعون دائمًا بخبرة عالية.

وقال الدكتور دونشين، في بعض النواحي، إن العلاج في العيادة الميدانية أصبح الآن “أفضل قليلاً” مما هو عليه في المستشفيات المدنية الإسرائيلية، ويرجع ذلك أساسًا إلى أنها تضم بعض أفضل الأطباء في “إسرائيل”. وكان الدكتور دونشين – وهو مقدم في الاحتياط العسكري – طبيب تخدير لفترة طويلة في أحد المستشفيات الكبرى في القدس، ويقوم حاليًا بالتدريس في كلية طب رائدة.

وشملت المرافق والمعدات التي شاهدتها التايمز جهاز تخدير، وجهاز مراقبة بالموجات فوق الصوتية، ومعدات أشعة سينية، وجهاز لتحليل عينات الدم، وغرفة عمليات صغيرة ومخزن يحتوي على مئات الأدوية.

وقال الأطباء العاملون في معتقل سديه تيمان الذين تحدثوا إلى صحيفة التايمز، إنه طُلب منهم أيضًا عدم كتابة أسمائهم على أي وثائق رسمية وعدم مخاطبة بعضهم البعض بالاسم أمام المرضى.

وقال الدكتور دونشين إن المسؤولين يخشون التعرف عليهم واتهامهم بارتكاب جرائم حرب في المحكمة الجنائية الدولية.

وخلال زيارة التايمز، قال ثلاثة أطباء إنهم لا يخشون الملاحقة القضائية لكنهم طلبوا عدم الكشف عن هويتهم لمنع حماس وحلفائها من مهاجمتهم أو مهاجمة عائلاتهم.

كيف تجري عمليات الاستجواب؟

بعد أربعة أيام تقريبًا من وصوله؛ قال السيد بكر إنه تم استدعاؤه للاستجواب. ومثل الآخرين الذين تحدثوا إلى صحيفة التايمز، تذكر أنه تم نقله إلى مكان منفصل أطلق عليه المعتقلون اسم “غرفة الديسكو”، لأنهم – على حد قولهم – أجبروا على الاستماع إلى الموسيقى الصاخبة للغاية التي منعتهم من النوم. واعتبر بكر ذلك شكلاً من أشكال التعذيب، قائلاً إنه كان مؤلما للغاية لدرجة أن الدم بدأ يسيل من داخل أذنه.

وقال الجيش الإسرائيلي إن الموسيقى “لم تكن عالية وغير ضارة”، وتم تشغيلها على مسمع من الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء، وكان الهدف منها منع المعتقلين من التشاور بسهولة مع بعضهم البعض قبل الاستجواب، ولم تطلع التايمز على أي جزء من مجمع الاستجواب، بما في ذلك المنطقة التي تم تشغيل الموسيقى فيها.

وقال بكر إنه لم يكن يرتدي سوى الحفاضات، ثم تم نقله إلى غرفة منفصلة لاستجوابه، واتهمه المحققون بالانتماء إلى حماس وأظهروا له صوراً للمسلحين لمعرفة ما إذا كان يستطيع التعرف عليهم. كما سألوه عن مكان وجود الرهائن، وكذلك عن أحد كبار قادة حماس الذين يعيشون بالقرب من منزل عائلته. وقال السيد بكر إنه عندما نفى أي صلة له بالمجموعة أو معرفته بالرجال المصورين، تعرض للضرب بشكل متكرر.

وقال السيد الحملاوي، كبير الممرضين، إن ضابطة أمرت جنديين برفعه والضغط على شرجه بعصا معدنية مثبتة على الأرض، وقال السيد الحملاوي إن العصا اخترقت شرجه لمدة خمس ثوان تقريبًا، مما تسبب في نزيف و”ألم لا يطاق”.

وتفصل مسودة مسربة من تقرير الأونروا مقابلة قدمت رواية مماثلة؛ حيث استشهدت برواية محتجز يبلغ من العمر 41 سنة قال إن المحققين “أجبروني على الجلوس على شيء مثل عصا معدنية ساخنة وشعرت أنها تحرق مثل النار”، وقال أيضًا إن محتجزًا آخر “مات بعد أن وضعوا العصا الكهربائية” في شرجه.

ويتذكر السيد الحملاوي أنه أُجبر على الجلوس على كرسي موصل بالكهرباء. وقال إنه تعرض للصدمة الكهربائية في كثير من الأحيان، لدرجة أنه بعد التبول بشكل لاإرادي في البداية، توقف بعد ذلك عن التبول لعدة أيام، وقال الحملاوي إنه أُجبر أيضا على ارتداء حفاضات فقط، لمنعه من تلويث الأرض.

وقال إبراهيم شاهين (38 سنة) – وهو سائق شاحنة تم احتجازه في مطلع شهر  كانون الأول/ ديسمبر لمدة ثلاثة أشهر تقريبًا – إنه تعرض للصعق حوالي ست مرات أثناء جلوسه على كرسي، وأوضح أن الضباط اتهموه بإخفاء معلومات حول مكان تواجد الرهائن القتلى.

وقال السيد بكر أيضًا إنه أُجبر على الجلوس على كرسي موصل بالكهرباء، وتعرض للصعق  الكهربائي مما أدى إلى فقدانه الوعي.

إطلاق سراح دون تهمة

وقال بكر إنه بعد أكثر من شهر من الاحتجاز، بدا أن الضباط اقتنعوا ببراءته. وفي وقت مبكر من صباح أحد أيام شهر شباط/ فبراير، تم وضع السيد بكر على متن حافلة متجهة إلى حدود “إسرائيل” مع جنوب غزة، وبعد شهر من الاعتقال، كان على وشك إطلاق سراحه.

وقال إنه طلب هاتفه ومبلغ 7200 شيكل (حوالي 2000 دولار) التي صودرت منه أثناء اعتقاله في غزة، قبل وصوله إلى سديه تيمان، ولكن جنديا قام بضربه والصراخ عليه ردًّا على ذلك، وقال الجندي، بحسب ما قاله بكر: “لا ينبغي لأحد أن يسأل عن هاتفه أو أمواله”.

وقال الجيش إنه تم توثيق جميع المتعلقات الشخصية ووضعها في أكياس مختومة بعد وصول المعتقلين إلى سديه تيمان، وإعادتها لهم بعد إطلاق سراحهم.

معبر كيرم شالوم الحدودي الشهر الماضي.

وحوالي الفجر؛ وصلت الحافلة إلى معبر كرم أبو سالم، بالقرب من الطرف الجنوبي لقطاع غزة. ومثل غيره من المعتقلين العائدين؛ سار السيد بكر لمسافة ميل تقريبًا قبل أن يستقبله عمال الإغاثة التابعون للصليب الأحمر، والذين قاموا بإطعامه وفحص حالته الطبية لفترة وجيزة. ثم أخذوه إلى محطة قريبة حيث تم استجوابه لفترة وجيزة، على حد قوله، من قبل مسؤولي أمن حماس حول الفترة التي قضاها في “إسرائيل”.

واستعار بكر هاتفًا، واتصل بأسرته التي كانت لا تزال على بعد 20 ميلا في مدينة غزة، وقال السيد بكر إن هذه كانت المرة الأولى التي سمعوا فيها صوته منذ أكثر من شهر، حيث سألوه: “هل أنت على قيد الحياة؟”.

المصدر: نيويورك تايمز