ترجمة وتحرير: نون بوست
هل تُدين حماس؟ السؤال الذي يتعيّن علينا طرحه على أنفسنا ليس ما إذا كنا ندين حماس، بل ما إذا كنا ندين النظام الاستعماري الاستيطاني الذي يجعل الكفاح المسلح ضروريًا لضمان البقاء.
بات هذا السؤال مطروحًا في كل مكان بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. عندما كسر الفلسطينيون جميع التوقعات بخروجهم من غزة بعد أكثر من عقد ونصف من العيش تحت حصار جوي وبري وبحري كامل، وجد كثيرون أنفسهم مضطرين إلى مواجهة هذا السؤال.
سواء كان ذلك بسبب استخدام الصهاينة للعنف الذي شهدناه في ذلك اليوم كوسيلة لخلق قصة تلو الأخرى من الدعاية الفظيعة – لإجبار الحلفاء ذوي النوايا الحسنة على الوقوف في الزاوية أو حتى أولئك الذين يعتبرون أنفسهم حقًا مؤيدين لفلسطين والذين ناضلوا مع واقع عنف المقاومة – أصبحت مسألة ما إذا كانت فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة تستحق الدعم أو النقد نقطة خلاف رئيسية.
لقد كان من السهل على الكثيرين دعم قضية التحرير الفلسطيني عندما نظروا إلى الفلسطينيين باعتبارهم ضحايا مثاليين، ولكن عندما قاوم الفلسطينيون، فجأة أصبحت مسألة التضامن مربكة.
بعد أشهر، وبعد مقتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي في غزة وسط الإبادة الجماعية المستمرة، وبعد أن وجد الآلاف في الضفة الغربية أنفسهم مسجونين أو يتعرضون لهجمات منتظمة، تزايد التعاطف مع أولئك الذين يقاومون إبادتهم، كما أصبحت المحادثة أكثر وضوحًا مما كانت عليه في الأيام التي سبقت السابع من تشرين الأول/ أكتوبر.
مع انتشار مقاطع فيديو من قبل فصائل المقاومة في جميع أنحاء غزة ولبنان، بتنا نجد جمهورًا منتظمًا ومتحمسًا، ويتردد صدى الهتافات الداعمة لأولئك الذين يعرّضون حياتهم للخطر في الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد، ومن الواضح أن الكثيرين أصبحوا يقبلون ضرورة الكفاح المسلح في السياق الفلسطيني، على الرغم من عدم التوصل إلى إجماع حقيقي بعد.
من أجل تحقيق هذه الغاية، فإن الإجابة على سؤال “هل تدين حماس؟”- خاصة بالنسبة لنا في اليسار ونحن نحلّل تاريخ فلسطين ولماذا تحدث المقاومة في سياق استعماري – كان ينبغي أن تكون واضحة دائمًا.
ظاهرة عنيفة
كما أوضح بيان فرانتز فانون الذي يُستشهد به كثيرًا في كتاب “معذبو الأرض”، فإن التحرر الوطني والصحوة الوطنية واستعادة الأمة وصولا إلى الكومنولث، أيًا كان الاسم المستخدم ومهما كان حديثًا – فإن إنهاء الاستعمار دائمًا ما يكون حدثا عنيفا. وفلسطين ليست استثناءً من هذا الواقع.
لقد جلب استعمار الصهاينة لفلسطين، مثل بقية الحركات الاستعمارية عبر التاريخ، عنفًا واسع النطاق ومستمرًا مفروضًا بجميع أشكاله ضد الشعب الفلسطيني. وكان هذا عن قصد لأن طبيعة الاستعمار الاستيطاني هي بالضرورة وحشية بالنظر إلى الهدف النهائي المتمثل في القضاء الشامل على السكان الأصليين بجميع الأشكال، باستثناء الحنين.
ولا يتجلى هذا العنف ببساطة من خلال الحملات العسكرية التي يشنها المستوطنون الصهاينة وجيش الاحتلال الإسرائيلي، وإنما من خلال كل جزء من المسعى الاستعماري نفسه – وهو مسعى لا يمكن أن يستمر إلا من خلال معاناة الفلسطينيين واستغلالهم وقمعهم وقتلهم وكل ما ترغب المستعمرة في احتلاله.
يضطر الفلسطينيون، سواء في فلسطين المحتلة أو في مخيمات اللاجئين في الدول المجاورة، أو في الشتات حول العالم، كل يوم إلى الكفاح مع واقع هذا العنف الاستعماري الاستيطاني. إن مجرد وجود المشروع الصهيوني يشكل تهديدًا وجوديًا لحياة الملايين، الذين اعتبرهم المشروع، في بعض التحولات القاسية للواقع، تهديدات وجودية لسبب بسيط وهو أن وجودهم يقوّض شرعيته.
هذا العنف لا يحدث بدون مقاومة. فعلى مر التاريخ، سواء كان ذلك في الجزائر أو جنوب أفريقيا أو أيرلندا أو فلسطين، نهضت الشعوب المستعمَرة في مواجهة العنف الوحشي لتحرير نفسها من أغلال القمع الذي تعرضت له. ولا تبدأ هذه المقاومة بشكل عام كنضال مسلح، بل من خلال العصيان المدني والاحتجاجات والإضرابات العامة وتكتيكات مماثلة.
مع ذلك، عندما تفشل هذه التكتيكات، كما حدث في كثير من الأحيان، أو عندما يتم شن أعمال عنف استثنائية ضد الشعب ردًا على ذلك، يصبح الكفاح المسلح ضرورةً.
إن القوة الاستعمارية، التي تستمد شرعيتها من القوة التي تمارسها للحفاظ على وجودها، تخلق الظروف الملائمة للمقاومة التي ستثور ضدها. وكلما زاد العنف والقمع الذي يواجهه المستعمَرون، زادت مقاومتهم. وتصبح المقاومة العنيفة سائدة بدافع الضرورة المطلقة نظرا لظروفهم المادية. وهذا يخلق دائرة من العنف، يديمها أولاً وقبل كل شيء عنف الكيان الاستعماري نفسه.
وحتى قبل التأسيس الرسمي للمشروع الصهيوني سنة 1948، كانت هذه الدورة من العنف راسخة. صدر وعد بلفور سنة 1917، وهو يدل على تأييد بريطانيا الرسمي للتطلعات الصهيونية. وبحلول سنة 1929، وجد خمس الفلسطينيين أنفسهم بلا أرض.
وبحلول الثلاثينات من القرن الماضي، بات العديد من الفلسطينيين عاطلين عن العمل ومعوزين اقتصاديًا، حيث بدأ الصهاينة، المدعومين بقوانين ومعاملة الإمبراطورية البريطانية المواتية، التدفق بشكل مكثف إلى فلسطين، وذلك وفقًا لدراسة غسان كنفاني في الثورة الفلسطينية الكبرى لسنة 1936.
حفزت هذه العوامل المقاومة بأنواعها، بما في ذلك انتفاضة البراق سنة 1929، والجهود التي بذلها الفلسطينيون لتجميع الموارد لشراء الأراضي، وأعمال العنف المتفرقة، فضلاً عن قيام الوجهاء الفلسطينيين بالضغط من أجل معاملة أفضل من أسيادهم البريطانيين. وشهد هذا المزيج من الجهود العنيفة والسلمية قمعا أو حقق نجاحا محدودا في نهاية المطاف.
في سنة 1936، عندما قتلت القوات البريطانية الشخصية الثورية السورية الشيخ عز الدين القسام، تحول الاستياء الشعبي الفلسطيني إلى إضراب عام، وفي نهاية المطاف إلى ثورة شعبية، تم قمعها بوحشية من قبل القوات الصهيونية والبريطانية بحلول سنة 1939.
وبعد سنوات قليلة، قام الصهاينة بتطهير عرقي لأكثر من 750 ألف فلسطيني من أكثر من 530 مدينة وبلدة وقرية وقتلوا آلافًا آخرين فيما يشير إليه الفلسطينيون بالنكبة. وتستمر حملات التطهير العرقي هذه حتى يومنا هذا.
نهض الفلسطينيون مرة أخرى نتيجة للقهر الذي واجهوه، من خلال مزيج من النضال العنيف والسلمي الذي سيقابل بمزيد من القمع العنيف. وعندما شن الفلسطينيون غارات عبر الحدود على الأراضي المحتلة، قوبلوا بغزو صهيوني في لبنان ومجازر في صبرا وشاتيلا. وعندما انتفض الفلسطينيون خلال الانتفاضة الأولى والثانية، واجهوا حملات قمع عنيفة، واعتقالات جماعية، وأعمال عنف واسعة النطاق، مما أدى إلى تكثيف جهود المقاومة العنيفة. وعندما بدأ الفلسطينيون في غزة السير نحو الجدار الذي يحيط بهم في مسيرة العودة الكبرى، قُتل المئات وجُرح آلاف آخرون على يد الجنود الإسرائيليين. واستمرت دائرة العنف واشتدت.
واليوم، لا يزال الفلسطينيون يعيشون في البانتوستانات (المعازل) في الضفة الغربية، وما يمكن وصفه عمليًا بأنه معسكر اعتقال في غزة، حيث يعيش الفلسطينيون في أراضي 1948 و1967 تحت هياكل إدارة الفصل العنصري الوحشية. لقد قاوموا كل خطوة على الطريق، وفي كل مرة رأوا الآلاف من المسجونين والقتلى والمشردين، والملايين يتعرضون للقهر والاستغلال التام بينما يستمر المشروع الصهيوني في تحقيق الهدف النهائي المتمثل في القضاء عليهم بكل الأشكال باستثناء الحنين إلى الماضي.
عندما يصبح الكفاح المسلح ضرورة مادية
في خضم كل هذا العنف، نهضت منظمات المقاومة المسلحة وتمركزت بين الناس، سواء كانت فتح، أو الجبهة الشعبية، أو الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، أو الجهاد الإسلامي في فلسطين، أو حماس، أو غيرها. ولم تنشأ هذه الجماعات والعنف الذي تستخدمه من فراغ بل هي نتيجة عقود من العنف الاستعماري الوحشي، وتتويج للجهود الفلسطينية لتحرير أنفسهم منه.
تعتبر التكتيكات التي يستخدمونها على الأرض تتويجا لهذا الصراع نفسه. وقد اختارت هذه الجماعات القيام بعمليات من شأنها تعزيز كفاحهم التحرري. وقد يعارض الكثيرون خارج فلسطين، وحتى الفلسطينيين أنفسهم، هذه التكتيكات، أو على نطاق أوسع، معارضة المبادئ والأيديولوجيات الأساسية التي تتبناها واحدة من هذه الجماعات أو معظمها. ولكن بالنسبة لأولئك منا في اليسار الغربي، البعيدين عن واقع الصراع على الأرض، فإن هذا لا يعني أننا نقوض شرعية الكفاح المسلح نفسه.
تعتبر حركة حماس مثالا رئيسيا على ذلك. شئنا أم أبينا، فإن الجهود التي بذلوها وما زالوا يبذلونها كان لها تأثير مادي على تحرير فلسطين أكبر من أي شيء يمكن لأي منا في الغرب فعله على الإطلاق. إنهم يواجهون العنف الوحشي للقوة الاستعمارية ويشنون حملة من الكفاح المسلح، والتي جعلت، في الوقت الحالي، بالتنسيق مع فصائل المقاومة الأخرى، المستعمرة الصهيونية منبوذة أكثر من أي وقت مضى على المسرح العالمي. لقد حطمت صورة الجيش الذي لا يقهر والاستقرار الشامل الذي أمضت عقودًا في إنشائه. لقد بلغت سنوات لا تحصى من النضال ذروتها في هذه البؤرة الساخنة.
وكما أظهر التاريخ مرارًا وتكرارًا، سيتم تشكيل الطريق إلى الأمام إلى حد كبير من خلال الكفاح المسلح لفصائل المقاومة على الأرض. ويعتمد بقاؤهم في حد ذاته على ذلك، ويستمر في تحدي والمساهمة في تآكل قوة الكيان الصهيوني نفسه.
لقد أجبرت المقاومة الفلسطينية المسلحة المشروع الصهيوني على شن حملة متزايدة العنف تزيد من حدة التناقضات بشكل يؤدي إلى استمرار انهياره. ونظرا لأن الجماهير في قلب الإمبراطورية، وتحديدًا جماهير الولايات المتحدة، تدرك أن مصالحها تتعارض مع مصالح المشروع الصهيوني وقادة حكوماتهم الذين يدعمون الإبادة الجماعية المستمرة للمشروع، فإن قاعدة الدعم التقليدية التي يعتمد عليها المشروع قد تآكلت. وحل محلها موقف جماهيري متزايد في دعم ثابت للفلسطينيين، بدلا من مستعمريهم.
وفي فلسطين، أدى النضال الفلسطيني من أجل التحرير إلى تطوير ما يمكن تسميته “المهد الشعبي” للمقاومة – وهي حالة من الوحدة والتماسك التي تطورت بين المقاومة الفلسطينية المسلحة والمجتمع الفلسطيني الأوسع. لقد عمل هذا “المهد الشعبي”، كما وصفته حركة الشباب الفلسطيني بشكل مناسب، كأداة من أدوات النضال التحرري من خلال تصور المقاومة كحالة طبيعية وضرورية في آن واحد. وقد أدى ذلك إلى واقع حيث يتم دعم المقاومة من قبل الجماهير نفسها، التي تدعمها وتتقبل بسهولة عواقب نضالها المستمر من أجل التحرير.
يحقق هذا الكفاح المسلح، وهو ضرورة مادية، نتائج مادية، حتى على الرغم من العنف الجماعي والقمع وحملة الإبادة الجماعية الصريحة. وفي غزة على وجه التحديد، أدى هذا النضال في جزء كبير منه إلى انسحاب المستوطنين الصهاينة من الأراضي، مما أجبر المخططين الصهاينة على إعادة صياغة كيفية احتلالهم لغزة. لقد منع النضال قوات الاحتلال الإسرائيلي من دخول جنين ومخيمات اللاجئين الأخرى في أنحاء فلسطين التاريخية دون عواقب وخيمة. ومن نواحٍ عديدة، كان نضال المقاومة عنصرا أساسياً لاستمرار بقاء الفلسطينيين.
تجاوز السؤال
إن مسألة إدانة حماس هي أكثر من مجرد مسألة إدانة. في جوهرها، يُطلب منا أن ننبذ العنف المناهض للاستعمار تمامًا – وأن ندعم الفلسطينيين فقط عندما يصبحون ضحايا مثاليين أو فقط عندما تتماشى الجماعات التي تخوض نضالًا تحريريًا مع قيم أيديولوجياتنا وأحزابنا الشقيقة. إنه سؤال يشبه الفخ ويخطئ الهدف تمامًا.
لا يمكننا أن نخطئ في التعامل بجدية مع مثل هذا التشويش. ويتعين علينا، وخاصة أولئك الذين ينتمون إلى اليسار، أن نفهم أن المحرك الأساسي للعنف الذي نشهده كان ولا يزال دائمًا الاستعمار الاستيطاني الصهيوني. إن دوامة العنف هذه لا يديمها المستعمَرون، الذين يسعون إلى تحرير أنفسهم من حالة القهر التام والواقع الوحشي للتصفية والإبادة الجماعية، بل المشروع الصهيوني وأولئك الذين يروجون لمصالحه. والسؤال الذي يتعيّن علينا طرحه على أنفسنا ليس ما إذا كنا ندين حماس، بل ما إذا كنا ندين النظام الاستعماري الاستيطاني الذي يجعل الكفاح المسلح ضروريًا لضمان البقاء.
المصدر: موندويس