يعدّ سلاح الأنفاق في قطاع غزة أحد أبرز تكتيكات المقاومة الفلسطينية ضد الحصار الإسرائيلي والتهديدات العسكرية المستمرة، حتى أصبح جزءًا من الاستراتيجية الدفاعية للمقاومة، ضمن المشهد العسكري والسياسي في المنطقة.
ويعد صمود هذه الأنفاق لأكثر من 8 أشهر في وجه القصف الإسرائيلي المتواصل والاجتياح البري دليلًا على قدرتها على التكيف والصمود، إذ عملت المقاومة الفلسطينية منذ سنوات على بناء وتطوير هذه الأنفاق بطرق تقنية واستراتيجية مبتكرة، ما جعلها تصمد رغم محاولات الاكتشاف والتدمير الإسرائيلية.
شبكة أنفاق معقّدة
صُممت شبكة الأنفاق بطريقة معقدة وفق تكتيكات عسكرية مدروسة، وجرى تشييدها بعناية متناهية وباستخدام تقنيات هندسية متطورة، ما جعلها تتحمل القصف المكثف والمحاولات الإسرائيلية المتكررة لتدميرها.
وحرصت حركة حماس منذ أن بسطت سيطرتها الكاملة على غزة عام 2007، على بناء شبكات أنفاق واسعة ومتشعّبة تمتد تحت الأرض إلى مساحات لا تقل عن 700 كيلومتر، وتضم أكثر من 5700 فتحة منفصلة تؤدي إلى تلك الأنفاق.
وتشير التقديرات إلى أن تكلفة بناء هذه الأنفاق على مدى 15 عامًا قد تصل إلى مليار دولار، تشمل تكاليف بناء ممرات الأنفاق، والأبواب المضادة للتفجير وورش العمل وأماكن النوم والحمامات والمطابخ ووسائل التهوية والتكييف وخطوط الكهرباء والاتصالات.
واستهلك تشييد الأنفاق ما لا يقل عن 6000 طن من الخرسانة و1800 طن من المعادن، لتكتمل هذه الشبكة التي يطلق عليها “مترو غزة”، وقد تكون أشبه بمدينة كبيرة تحت الأرض.
وتنظر حركة حماس إلى الأنفاق باعتبارها سلاحًا استراتيجيًا أثبت فاعليته الكبيرة في عمليات التهريب واختطاف جنود الاحتلال والتسلل إلى مواقع الجيش والمستوطنات، وكان لها الدور الأبرز في الحفاظ على قدرات المقاومة، واستخدامها في تكتيكات الدفاع المتنقلة، أو حتى بشكل هجومي باستخدام تكتيكات حرب العصابات لاستهداف القوة المهاجمة.
وفي عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 والتي تعد واحدة من أهم عمليات المقاومة الفلسطينية كانت الأنفاق سر نجاح الهجوم الفلسطيني المباغت على “إسرائيل” وتكبيدها خسائر فادحة، فضلًا عن مقتل وإصابة وأسر مئات الإسرائيليين.
فشل المحاولات الإسرائيلية
ورغم تمكّن “إسرائيل” من كشف بعض الأنفاق وتدميرها، فقد فشلت في الكشف عن القسم الأكبر من هذه الشبكة مترامية الأطراف وما زالت المقاومة تستخدمها بكفاءة عالية.
ومنذ اجتياح قطاع غزة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، استخدم جيش الاحتلال الكثير من الوسائل لكن محاولاته باءت بالفشل الذريع، ولم تنجح عمليات الإغراق بمياه البحر ولا المتفجرات أو الروبوتات المتخصصة، ولا الغازات السامة وغيرها.
وتشير صحيفة الغارديان البريطانية إلى أن “الطبيعة العميقة لأنفاق حماس سمحت للقيادة بالاحتماء مع البقاء على اتصال من خلال نظام خط أرضي معزول عن الشبكات العادية”.
وعن حجم التحدي يقول رئيس دراسات الحرب الحضرية في معهد الحرب الحديثة في ويست بوينت، جون سبنسر، بأن الدخول إلى الأنفاق “يمثّل تحديات تكتيكية فريدة من نوعها، ولا يمكن التعامل مع الكثير منها دون معدات متخصصة، وفي بعض الحالات، قد يكون من المستحيل التنفس دون وجود خزانات الأكسجين في الأنفاق، اعتمادًا على عمقها وتهويتها”.
وقلل سبنسر من فاعلية استخدام نظارات الرؤية الليلية العسكرية داخل الأنفاق “كونها تعتمد على بعض الإضاءة المحيطة ولا يمكنها العمل عندما تكون غائبة تمامًا، كما أن أي معدات ملاحة واتصالات عسكرية تعتمد على إشارات الأقمار الصناعية أو إشارات خط البصر لن تعمل تحت الأرض”.
وبحسب رئيس دراسات الحرب في المعهد، فإن “الجيش الإسرائيلي لا يستطيع استخدام السلاح داخل الأنفاق، حتى لو كانت بندقية، لأنها يمكن أن تحدث تأثيرًا ارتجاجيًا يضر مطلق النار جسديًا”.
وأشارت مجلة فورين أفيرز الأمريكية في 6 يونيو/حزيران الجاري، إلى أنه وبعد أن تغلبت حماس على أغلب العقبات التي تواجه الحرب تحت الأرض مثل الاتصالات والملاحة وانخفاض مستويات الأكسجين ورهاب الأماكن المغلقة، فهناك كل الأسباب التي تجعلنا نعتقد أن هذا التكتيك سوف يستمر في الانتشار على مستوى العالم.
وأشارت المجلة إلى أن استخدام حماس المبتكر للأنفاق أدى إلى إعادة تعريف القيمة الاستراتيجية للسطح، وغيّر المواجهات العسكرية، وأحدث تحولًا في استخدام الدروع البشرية.
ونوّهت إلى أن صمود الأنفاق أدى إلى تقويض احتمالات تحقيق نصر إسرائيلي سريع، وأبطأ وتيرة العمليات، وجعل إنقاذ الرهائن أكثر صعوبة، الأمر الذي أدى إلى تكاليف دبلوماسية وسياسية لا يمكن تصورها.
أهمية سلاح الأنفاق
يقول الخبير العسكري الأردني، اللواء طيار السابق محمد الصمادي: “التحدي يصنع المعجزات والحاجة أم الاختراع، فطبيعة الجغرافيا في قطاع غزة ونوعية التهديد الإسرائيلي تفرض واقعًا وتحديًا دفع المقاومة للتفكير بنمط غير تقليدي”.
ويؤكد الصمادي في حديثه لموقع “نون بوست”، بأن عملية بناء الأنفاق كانت بمجهود ذاتي وبخبرات تراكمية وبإشراف هندسي إبداعي، مع الأخذ بعين الاعتبار تحركات العدو الاسرائيلي المحتملة وكيفية مجابهتها.
ويوضح بأن عمليات الحفر كانت تتم بسهولة بسبب طبيعة التربة الرملية لمنطقة غزة، ومن ثم كانت تجري عمليات التدعيم باستخدام الخرسانة وتبطين الأنفاق وإدخال تحسينات وعمليات تكميلية في البناء، فهي مجهزة بشبكات منفصلة وعلى أعماق مختلفة وبنظام هندسي قادر على كسر الموجة التفجيرية تحت الأرض والتقليل من آثارها في حال استخدام القنابل الحفارة أو القنابل الزلزالية.
وينوّه الخبير العسكري إلى أن المقاومة حرصت على الاختيار الدقيق لفتحات الأنفاق الخارجية، في أماكن مموهة لتسهيل إخفائها، فضلًا عن قوة الحسّ الأمني لمقاتلي المقاومة وولائهم وعقيدتهم وصعوبة اختراقهم من الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية.
ويعزو أسباب فشل محاولات الإغراق والتفجير الإسرائيلية، إلى كون هذه الأنفاق ليست شبكة متصلة وإنما هي مصممة بأعماق وباتجاهات مختلفة، مع قواطع تحت الأرض ونقاط اتصال وعُقد متعددة المداخل والمخارج، وكذلك عدم معرفة “إسرائيل” بتصاميم وخرائط هذه الأنفاق وهي غاية في السريّة.
ويستدرك بالقول “نحن اليوم نتحدث عما يزيد على 8 شهور من أعمال القتال، ولا يمكن أن تكون شبكات الأنفاق ما زالت بكفاءة كاملة، وتشير بعض التقارير الاستخبارية ومراكز الدراسات إلى أن شبكات الأنفاق تعمل بكفاءة نحو 65% بسبب القنابل الارتجاجية التي قد تكون أدت إلى تدمير بعضها”.
ويشيد الصمادي بقدرات المقاومة الاستثنائية في الصمود ومواصلة التصدي لجيش الاحتلال لمدة تزيد على ثمانية شهور، فضلًا عن قيامها بإعادة تأهيل العديد من الأنفاق بإمكانات محلية رغم الظروف الصعبة، وهذا ظهر جليًا من خلال تنفيذ عمليات خلف خطوط العدو.
ويعرب الخبير العسكري عن اعتقاده بأن الفرق الهندسية المؤهلة والمدربة لعمليات إعادة التأهيل موجودة وما زالت فاعلة، حيث أثبتت كتائب القسام والفصائل المسلحة، أن قدراتها القتالية والتنظيمية أعلى من قوات الميليشيا، وقد تتفوق أحيانًا على قدرات جيش الاحتلال.
وعن أهمية هذه الأنفاق ودورها في صمود المقاومة حتى اليوم، يؤكد الصمادي أنها أحدثت نوعًا من التوازن من خلال تحييد مزايا “إسرائيل” التسليحية وتفوقها التكنولوجي، ومنحت المقاومة مرونة للحركة، ما جعل جنود الاحتلال في حالة من الخوف والهلع والترقب من أنّ المقاومة قد تظهر من أي مكان وفي أي وقت لمهاجمتهم.