شهد قطاع صناعة الأغذية الحيوانية والنباتية تغيرات جذرية جمة على مر العقود، وأهمها اكتشاف المضادات الحيوية في الأربعينيات من القرن الماضي، واستخدامها لأول مرة عام 1950 على الحيوانات التي اكتسبت وزنًا بشكل أسرع من المعتاد، وهذا ما أدى إلى زيادة الأطماع التجارية التي أرادت الحفاظ على ثروتها الحيوانية عددًا ووزنًا، فالجرعات الصغيرة تجعل معظم الحيوانات تكسب أكثر من 3% من وزنها.
اكتشفت هذه المضادات بالتزامن مع صناعة الأعلاف التي اعتبرت ثورة أيضًا في هذا المجال، لأنها سمحت لأصحاب المزارع باستخدام نحو 40% من المضادات داخل الأعلاف وساعدهم على خفض معدلات الوفيات الحيوانية وتحسين التكاثر ومعايير الإنتاج والكفاءة، لكن هذه الأخبار السارة لم تدم طويلًا لأسباب عديدة، ومنها الأسلوب الخفي لهذه المضادات الحيوية في الانتقال لجسم الإنسان وتشكيل بكتريا أكثر تعقيدًا ومقاومة؛ مما دفع إلى تقليل فرص العلاج بالطرق المألوفة.
معركة بين الصحة العامة والمصالح التجارية
أصدرت إدارة الغذاء والدواء تقريرًا عن ارتفاع مبيعات المضادات الحيوية بنسبة 20% بين عامي 2009 و2013، وأن نحو 32 مليون جنيه من المضادات ذهبت إلى الحيوانات وكان هدفها تعزيز نموها بشكل أسرع، وبناءً على ذلك أوصت منظمة الصحة العالمية بالحد من الاستخدام غير الضروري للمضادات الحيوية للحيوانات، ومنعت استعمالها نهائيًا بهدف تعزيز النمو والوقاية من المرض في الحيوانات المتعافية، وذلك بسبب سوء استخدامها في كثير من الحالات، إذ يستهلك القطاع الحيواني نحو 80% من الاستهلاك الإجمالي للمضادات الحيوية ذات الأهمية الطبية.
هذا بالجانب إلى حظر الاتحاد الأوروبي عام 2006 استعمال المضادات الحيوية لأغراض غير ضرورية، مع دول أخرى مثل كندا وإستراليا، مما شجع بعض السلاسل الغذائية الكبرى إلى اتباع سياسة “الخلو من المضادات الحيوية” في المنتجات الحيوانية التي تروج لها وتبيعها، حيث زاد الطلب على المنتجات الغذائية الخالية من المضادات الحيوية بنسبة 25% عام 2012.
ومن ناحية علمية، تفاقمت هذه الأزمة حتى تطورت الجراثيم البكتيرية ووضعت العلماء أمام تحدٍ جديدٍ للقضاء عليها، وهذا ما أكده المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبرييسوس قائلًا: “غياب المضادات الحيوية الفعالة يشكل خطرًا على الأمن الصحي مثله مثل المرض المفاجئ والمميت، فسيكون العمل مستمرًا على صعيد جميع القطاعات إذا أردنا أن نحافظ على سلامة العالم”.
وهذا بالإضافة إلى ما نشرته صحيفة “ذا لانست بلانيتاري هلث” أن التدخلات التي تُقيد استعمال المضادات الحيوية في الحيوانات المنتجة للغذاء، تحد من الجراثيم المقاومة للمضادات الحيوية في هذه الحيوانات بنسبة تصل إلى 39%، مرفقة بالتعليمات الصادرة عن المنظمة.
ترى الشركات التجارية أن هذه الإضافات منعت حدوث خسائر كارثية وحافظت على أسعار الدجاج ومنتجاته منذ 25 عامًا، على الرغم من التغييرات المستمرة في قيمة الدولار، وبدورها حافظت على جودة الأعلاف ومنعت ارتفاع تكاليف الغذاء
كما قال مدير إدارة سلامة الأغذية والأمراض الحيونية في المنظمة كازواكي ميياغيشيما: “أثببت البيانات العلمية أن فرط استعمال المضادات الحيوية في الحيوان يمكن أن يسهم في ظهور مقاومة المضادات الحيوية، ويستمر حجم المضادات الحيوية المستعملة في الحيوانات في الزيادة في شتى أنحاء العالم، مدفوعًا بالطلب المتنامي على الأغذية الحيوانية المصدر التي عادة ما تُنتج عن طريق التربية الكثيفة للحيوانات”.
وما يجعل هذه المواد غير قانونية هو مخاطرها المستقبلية على صحة الإنسان والتطورات الخطيرة للبكتريا المقاومة لهذه المضادات التي تجعل العلاج أمرًا معقدًا وغاية صعبة المنال في كثير من الحالات، فهذه المضادات مسؤولة عن 700 ألف حالة وفاة كل عام، منها 23 ألف في أمريكا و25 ألف في أوروبا و63 ألف في الهند، كما أنها تسبب ظهور أمراض جديدة وهذا يعني تكاليف زيادة على الرعاية الصحية، فمن المتوقع أنه بحلول عام 2050، ستكلف مقاومة المضادات الحيوية العالم 100 تريليون دولار، وستسبب 10 ملايين حالة وفاة سنويًا.
مع العلم أن الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية لا تطبق قانون الحظر، ففي عام 2011، كان 80% من جميع المضادات الحيوية التي تباع في الولايات المتحدة تستخدم في المنتجات الحيوانية.
أما الجهات التجارية فإنها ترى أن هذه الإضافات منعت حدوث خسائر كارثية وحافظت على أسعار الدجاج ومنتجاته منذ 25 عامًا على الرغم من التغييرات المستمرة في قيمة الدولار، وبدورها حافظت على جودة الأعلاف ومنعت ارتفاع تكاليف الغذاء والإنتاج وبالتالي زاد من نسب الاستهلاك.
المضادات الحيوية طبق رئيسي في كل منزل ومطعم
تشكل لحوم الدواجن والمواشي والأسماك جزءًا كبيرًا من عاداتنا الغذائية اليومية، وقد نلاحظ في بعض الأحيان أن نكهتها تختلف من مكان لآخر، بحيث يكون طعم الدجاج مثلًا أفضل من غيره، وهذا بالطبع يعود لعوامل كثيرة وأهمها جرعات المضادات الحيوية المستخدمة خلال تربية هذه الحيوانات.
كما جدير بالذكر، أن استخدام هذه المواد ليس مقتصرًا فقط على اللحوم، فالمضادات الحيوية التي تعطي للحيوانات وتفرزها فيما بعد على شكل فضلات تستخدم كالسماد للتربة وبالتالي تنتقل إلى النباتات والإنسان، إذ تحتوي التربة على نحو 75% من هذه المواد.
وتشير التقديرات إلى أن استخدام المضادات الحيوية في الحيوانات سيزيد بنسبة 67% بحلول عام 2030 مع نمو الطلب على البروتين في جميع أنحاء العالم، وفي دول أخرى مثل الصين والهند والبرازيل وروسيا سوف تزيد هذه النسبة لتصل إلى 99% تجاوبًا مع الحاجة المحلية لسكانها والخطط الاقتصادية المستقبلية.
ووجدت مجلة نيو انغلاند جورنال للدراسات الطبية فى 18 أكتوبر 2001 أن 20% من اللحوم التى تم الحصول عليها فى الأسواق التجارية احتوت على السالمونيلا – ميكروب ينتقل بسهولة بين الحيوان والإنسان – بنسبة 20% و84% منها كانت مقاومة للمضادات الحيوية، وهذا مؤشر إضافي على مدى انتشار هذه المواد في الأماكن التجارية.
المضادات الحيوية والبدانة
يعتبر من غير القانوني في أغلبية البلدان استخدام هذه المواد لتسمين الحيوانات، لكن أكثر من 100 دراسة بحثت الصلة بين المضادات الحيوية وسمنة الإنسان وشرحت فرضية أن المضادات الحيوية تجهز جسم الإنسان للإصابة بالسمنة، فالعديد من أنواع البكتيريا في الأمعاء تساعد الجسم على هضم الطعام بشكل جيد وامتصاص السعرات الحرارية داخل الجسم، وإذا كان هناك خلل في هذه البكتريا التي يصل عددها إلى 100 تريليون فإنه يفقد هذه العملية توازنها ويعيق عملية الحرق والهضم، وهذا بالفعل ما تسببه المضادات الحيوية التي تقتل نمو البكتريا.
ما الحل لهذه المشكلة؟
الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تغير الوضع الحاليّ لصحة الأغذية هي توقف الشركات الغذائية التجارية عن استخدام المضادات الحيوية لأغراض النمو وذلك بالتعاون مع المستهلكين الذي يمكنهم التأثير على هذه السياسات إذا طالبوا بالجودة الغذائية وألقوا اهتمامًا كبيرًا لنوعية الأغذية التي يتناولوها وتشجيع المطاعم والأسواق التي تساند التشريعات القانونية الصحية.
ويمكن معالجة هذه المشكلة عبر اختبار الحيوانات المريضة واختيار أفضل مضاد حيوي لها، حيث صنفت المنظمة هذه المضادات إلى أنواع منها الأقل أهمية – بالنسبة إلى صحة الإنسان – وبالغة الأهمية وذات أولوية قصوى وهي الحل الأخير للعلاج أو أحد العلاجات القليلة المتاحة لعلاج الأمراض المعدية الخطيرة، وتصنّف القائمة جميع المضادات الحيوية التي تُستعمل حاليًّا في الإنسان والحيوان في ثلاث فئات – المضادات الحيوية “المهمة” و”الشديدة الأهمية” و”البالغة الأهمية” – بالاستناد إلى أهميتها بالنسبة إلى الطب البشري.
وبالمقابل تعرض المنظمة مجموعة من الحلول البديلة للوقاية من هذه الأمراض مثل تحسين النظافة الصحية العامة لمزارع التربية واستعمال التطعيم وتربيتها في بيئة مناسبة تحظى على قسط كافٍ من التهوية والتدفئة.
ومع استمرار البحوث في مكافحة الأمراض والحفاظ على الصحة، فإن استخدام المضادات الحيوية في المستقبل سوف يتغير بلا شك، وسيستخدم المنتجون أكثر الوسائل اقتصادًا لتحقيق أدنى تكلفة للإنتاج لكل صناعاتهم، وهذا بالطبع في معركة مستمرة مع المصالح الصحية العالمية.