منح عضو مجلس الحرب الوزير بيني غانتس في 18 مايو/آيار الماضي رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو مهلة 3 أسابيع لتقديم خطة استراتيجية لسير حرب غزة واليوم التالي لها، تضمنت عددًا من المطالب: عودة المحتجزين وتقويض حكم حماس سياسيًا وعسكريًا عبر تجريد قطاع غزة من السلاح، وتحديد البديل لحكم القطاع، بجانب إعادة سكان الشمال والبلدات الإسرائيلية الحدودية مع لبنان إلى منازلهم، والترويج للتطبيع مع السعودية، واعتماد مخطط مشروع التجنيد والخدمة المدنية.
ووضع غانتس مساء السبت 8 يونيو/حزيران اليوم الأخير لانتهاء تلك المهلة المُطالب فيها نتنياهو بتلبية الشروط التي عرضها الوزير لاستمراره في الحكومة، وإلا سيكون الانسحاب هو القرار النهائي في حال عدم تلبيتها، موجهًا خطابه لرئيس الحكومة قائلًا: “إذا لم تفضل المصلحة الوطنية وفضلت المتطرفين، فسنضطر لتقديم استقالتنا، وسنقيم حكومة تحظى بدعم الشعب”.
وكان من المقرر أن يدلي غانتس مساء السبت، ببيان، يُرجح أن يعلن فيه انسحابه من حكومة الحرب، لكن صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية قالت ظهر السبت، إن الوزير في مجلس الحرب أرجأ المؤتمر الصحفي الذي كان مقررًا له اليوم عقب تحرير 4 أسرى إسرائيليين.
وبعد انقضاء مهلة الـ20 يومًا التي منحها غانتس لنتنياهو الذي لم ينفذ بطبيعة الحال أي من الشروط الستة المطلوبة منه، ليس أمام وزير حكومة الحرب، رئيس “المعسكر الوطني” إلا الإعلان عن موقفه النهائي من التحذير الذي قطعه على نفسه بالانسحاب من الحكومة إن لم يستجب رئيسها، الأمر الذي يفتح الباب أمام عدة سيناريوهات جميعها تعكس المأزق الذي تعاني منه الأوساط الإسرائيلية ونخبتها السياسية والعسكرية.
طوق غانتس نفسه بالمهلة الزمنية التي منحها لنتنياهو للاستجابة للمطالب المقدمة، إذ بات في مأزق حقيقي مع انتهائها، وأصبح أمام سيناريوهين لا ثالث لهما:
أولًا: الانسحاب
يرى مراقبون أن تنفيذ غانتس لتهديداته والانسحاب من الحكومة هو السيناريو الأكثر احتمالية، حيث يقرر غانتس انسحاب “المعسكر الوطني” من حكومة الطوارئ ومجلس الحرب، وبذلك سينزع الشرعية عن نتنياهو وحكومته ويبدد الحصانة التي تحظى بها، هذا بخلاف تأثير ذلك على مصداقية الحكومة أمام المجتمع الدولي وزيادة رقعة عزلتها التي تتسع يومًا تلو الآخر، كما رجح موقع “أكسيوس” الأمريكي، وأكده محلل الشؤون الحزبية في صحيفة “هآرتس”، يوسي فيرتر، في مقاله المنشورة بالصحيفة تحت عنوان “بعد إهانتهم وحتى التحريض ضدهم، نتنياهو يفتقد غانتس وآيزنكوت”.
ويرى فيرتر أن خطوة كتلك – حال أقدم غانتس عليها – سيكون لها ارتدادتها القوية على الداخل الإسرائيلي، حيث تصاعد وتيرة الاحتجاجات الشعبية التي تطالب بإسقاط الحكومة وحل الكنيست وإجراء انتخابات مبكرة والدفع لتشكيل حكومة مرنة تنفتح على كل جهود الوساطة والتهدئة.
هذا بخلاف انعكاسات هذا القرار على شعبية غانتس وحزبه، حيث سيظهر بصورة السياسي المدافع عن الإسرائيليين، سواء عائلات الأسرى بالدفع نحو تحريرهم بأي ثمن ولو عبر اتفاق سياسي مع حماس، أم عموم المجتمع الإسرائيلي من خلال التشديد على حسم ملف اليوم التالي للحرب وعودة سكان مستوطنات الشمال واستئناف حياتهم العامة مرة أخرى بعد اختباء في الفنادق والملاجئ لأكثر من 8 أشهر.
ثانيًا: البقاء في الحكومة
لم يكن الانسحاب وتنفيذ التهديد الذي قطعه غانتس على نفسه، هو السيناريو الوحيد بعد انقضاء المهلة، فهناك عدد من المقاربات والاعتبارات التي قد تدفع الوزير إلى إعادة النظر في المسألة برمتها، والتفكير في البقاء داخل حكومة الحرب، أبرزها:
– تصاعد التوتر على الجبهة الشمالية، واحتمالية اندلاع حرب شاملة مع حزب الله، حرب غير معروف مداها الزمني ولا الميداني، وهو الأمر الذي ربما قد يثني غانتس عن قرار الانسحاب، حسب تقدير محلل الشؤون الحزبية في صحيفة “هآرتس”.
– هيمنة وزيري الأمن القومي والمالية، بن غفير وسموتيرتيش، على مقاليد الأمور داخل الحكومة، وسيطرتهما على نتنياهو ومعظم قرارته، قد تدفع وزير الحرب غانتس إلى إرجاء فكرة الانسحاب، حتى لا يترك “الجمل بما حمل” للوزيرين المتشددين، لينفذا سياستهما بأريحية كاملة، دون أي معارضة أو تعكير لصفوهما، وهي السياسة التي يؤمن التيار المحافظ والوسطي والشعبي في الداخل الإسرائيلي بأنها ستقود الكيان للهلاك والدمار لصالح حسابات أيديولوجية متطرفة.
– كان يهدف غانتس من وراء تحذيراته وتهديداته في 18 مايو/أيار الماضي للضغط على نتنياهو لتغيير طريقة تفكيره في إدارة المعركة، غير أن إصراره على المضي قدمًا في ذات الطريق وبنفس العقلية، دون الرضوخ لتلك الضغوط، ربما يجبر وزير حكومة الحرب على إعادة النظر في تلك الضغوط والبحث عن أخرى أكثر فاعلية.
وأمام تلك الاعتبارات والمقاربات، قد يجد غانتس نفسه مضطرًا للبقاء في الحكومة بشكل أو بآخر، بدافع الوجود داخل المطبخ السياسي والعسكري، بما يؤهله للبحث عن آليات أخرى لإثناء نتنياهو عن سياسته التصعيدية، وأن يحقق ولو الحد الأدنى من التوازن النسبي وتباين الأصوات داخل الحكومة، حتى لا يتركه فريسة سهلة وصيد ثمين لبن غفير وسموتريتش.
ويأتي إعلان جيش الاحتلال اليوم تحريره لأربعة من الأسرى المحتجزين لدى المقاومة في النصيرات، تزامنا مع انتهاء مهلة غانتس التي منحها لنتنياهو، وما تبعها من تأجيل الأول لمؤتمره الذي كان مقررًا له اليوم، لتؤكد ما أشارت إليه صحيفة “يديعوت أحرونوت” قبل ثلاثة أيام، بشأن احتمالية تراجع وزير الحرب عن فكرة الانسحاب من الحكومة إذا ما حدثت دراما في اللحظات الأخيرة،وبعيدًا عن التزامن المثير للجدل بين عملية التحرير وانتهاء المهلة، لكن تذهب المؤشرات إلى إرجاء غانتس لتهديده إن لم يتم التراجع عنه بشكل كامل.
الرأي العام.. سلاح غانتس وشوكته
يحاول غانتس – كما نتنياهو وسموتيرتش وبن غفير – توظيف المشهد الحاليّ، في تحقيق مكاسب سياسية، تؤهله لأن يكون لاعبًا مؤثرًا في المشهد السياسي مستقبلًا، عازفًا في المقام الأول على وتر الرأي العام الداخلي واستمالة الشارع الثائر ضد إدارة الحكومة الحالية التي فشلت في تحقيق أي من أهداف الحرب المعلنة.
واختار غانتس منذ قبوله الانضمام إلى حكومة الحرب لإضفاء الشرعية السياسية عليها، أن ينحاز إلى مقاربات الشارع، حيث الميل إلى التهدئة النسبية ومنح تحرير المحتجزين الإسرائيليين لدى المقاومة الأولوية في التعامل مهما كلف هذا الأمر، وهو التوجه الذي يصطدم بطبيعة الحال بموقف نتنياهو ويمينه المتطرف.
ويحاول رئيس “المعسكر الوطني” رفع شعبيته المتأرجحة في الآونة الأخيرة من خلال مواقفه داخل حكومة الحرب والدور الذي يؤديه لإبرام صفقة تبادل مع حماس والدفع نحو حسم ملف اليوم التالي للحرب على أمل إعادة الحياة الطبيعية والعامة لمئات آلاف الإسرائيليين بعدما أجبرتهم المقاومة على ترك مستوطناتهم والاختباء إما في الفنادق باهظة الكلفة وإما داخل المخابئ والملاجئ تحت الأرض.
ويمكن قراءة التلويح بخطوة الانسحاب من الحكومة كإحدى الأوراق التي يستخدمها غانتس لتعزيز شعبيته وتوسعة حضوره السياسي على حساب نتنياهو، خاصة أن نصف الإسرائيليين تقريبًا يرون أن على عضوي مجلس الحرب بيني غانتس وغادي أيزنكوت الاستقالة من الحكومة الحالية، بحسب نتائج استطلاع الرأي التي أجرته “القناة 12” العبرية مؤخرًا.
الاستطلاع كشف كذلك عن أن 62% من الإسرائيليين لن يصوتوا للحزب الذي يدعم استمرار نتنياهو في رئاسة الوزراء، فيما قال 19% فقط إنهم لن يصوتوا إلا للحزب الذي يدعم استمراره، وهو ما يكشف المزاج الشعبي الرافض لاستمرار نتنياهو، والذي يداعبه غانتس بين الحين والآخر بمواقفه وتصريحاته المتتالية ضد رئيس الحكومة.
وفي تلك الأجواء فإن غانتس بات هو الآخر في مأزق حقيقي، إما الاستجابة للضغوط الشعبية التي تطالبه بتنفيذ تهديده والانسحاب من الحكومة كإحدى أدوات الضغط على نتنياهو، وإما الاستمرار في ظل المقاربات والمواءمات التي تجبره على البقاء في مواجهة اليمين المتطرف واحتمالية الدخول في حرب مفتوحة على الجبهة الشمالية، وهي الثنائية التي حتمًا سيكون لها تأثيرها على شعبيته السياسية على المستوى الداخلي.
وأمام هذا المشهد الفوضوي الذي يخيم على المسرح الإسرائيلي، وما يبعث به من رسائل ودلالات تهدد الكيان، سيحاول الحليف الأمريكي من خلال وزير خارجيته، أنتوني بلينكن، المقرر له أن يزور المنطقة الأحد 9 يونيو/حزيران العمل لأجل نزع فتيل التصعيد وتخفيف حدة التوتر داخل مجلس الحرب الإسرائيلي بما يحول دون الوصول إلى الطريق المسدود الذي ينفرد فيه اليمين المتطرف بالحكم، بما يعرض مصالح الأمريكان في الشرق الأوسط للخطر.
وفي الأخير.. وبصرف النظر عن قرار غانتس، انسحاب كان أو استمرار في الحكومة، فإن حالة الارتباك التي تعاني منها النخبة الإسرائيلية، السياسية والعسكرية، ما كان لها أن تكون إلا بصمود المقاومة وأدائها البطولي الذي بعثر كل أوراق الاحتلال وكشف القناع عن هشاشة جبهته الداخلية وأوهام تماسكها، مؤكدًا على أن الإطاحة بالكيان لم تعد مسألة مستحيلة كما كان يروج لها في السابق.