خلافات روسية إيرانية، توتر بين حلفاء النظام السوري، تضارب في المصالح بين الجانب الروسي والإيراني، هذه المفردات والتركيبات ليست جديدة في وقتها أو غريبة من نوعها، فقد اعتدنا طرْقها لأسماعنا منذ بداية التدخل الروسي في سوريا (سبتمبر 2015)، لكن ما مضى ليس كما هو حاضر أو آت فيما يستقبل من أيام.
لم يخف المسؤولون الإيرانيون اختلافهم مع الرؤية الروسية في المشهد السوري وذلك بعد أيام معدودة من حضورها في سوريا، وقد قرأنا تصريحات ناعمة بين الفينة والأخرى لأقطاب النظام الإيراني في هذا المضمار، لكن لم تكن ردة فعل النظام في طهران بهذه الحدة من حيث التعبيرات وهذه الكثرة من حيث التصريحات المتلاحقة في فترة زمنية ضئيلة، ووصل الأمر لدرجة قال فيها موقع إيراني مرموق عن الاتفاق الروسي السوري عن إعادة الإعمار بأنه “خدعة روسية مسيئة للإيرانيين في سوريا”.
وزادت صحيفة مرموقة أخرى الطين بلة حين وصفت رأس النظام بشار الأسد بأنه “مخنّث وجبان وأناني”، تعليقًا منها على الاتفاق الروسي السوري ذاته، ما سبق ذكره يعطينا صورة واضحة عن طبيعة العلاقة بين الدولتين في الملف السوري من حيث كونها هشة مؤقتة، ومدى كل لاعب فيها (وخاصة إيران) منضبط بحدود لا يحوم حول حماها فضلًا أن يتجاوزها.
الموقف الروسي معلوم أنه لا يركز على شخص بشار الأسد من حيث البقاء أو الرحيل، إنما كل تركيزه نحو منظومة الحكم التي تضمن المصالح الروسية
الاتفاق الروسي الإيراني في سوريا يتقاطع في الفكرة وينفصل في الطريقة، فالفكرة التي يتفق عليها الطرفان هي المحافظة على النظام السوري ممثلًا بمؤسسات الدولة العميقة من جيش وأمن واستخبارات، ويندرج ضمنيًا في هذه الفكرة إجهاض ثورة الشعب ومنع تسلمها زمام القيادة، خاصة أن المشروع الغالب عليها هو المشروع الإسلامي الذي يشكل وسواسًا قهريًا لكل من هاتين الدولتين لعدة أسباب ليس هنا مجال بسطها.
أما الاختلاف فيمكن كما ذكرت أعلاه في الطريقة أو الوسيلة التي تحقق الهدف أو المقصد ويظهر هذا في أكثر من محور، أبرز تلكم المحاور الموقف من بشار الأسد والحل السياسي، ولاحقًا مسألة إعادة الإعمار.
الحل السياسي وبشار الأسد
أما عن الموقف الإيراني من القضيتين الأوليين فهو من الوضوح بحيث لا يخفى، إذ إن طهران ترى في شخص بشار الأسد الضمان لاستقرار البلاد وديمومة السيطرة وكذا ترى الحل السياسي من منظار النظام أي بالقضاء على الثورة عسكريًا واعتبار كل من عارض النظام إرهابيًا.
وقد أفصح علية القوم في إيران بذلك قبل أن يسخن مقعد روسيا في سوريا أو تثبت أقدامها، إذ قال القائد العام للحرس الثوري الإيراني محمد علي جعفري (3 من نوفمبر 2015): “جارتنا روسيا تساعد في سوريا، لكنها ليست سعيدة بوجود حزب الله، وليس من الواضح أن مواقف روسيا تتطابق مع إيران بشأن بشار الأسد”.
كما يمكن وضع تصريح مرشد الثورة علي خامنئي في ذات الإطار حين أعلن في الفترة نفسها أنه: “لا يمكن لبلد واحد (في إشارة إلى روسيا) أن يفرض وحده مستقبل سوريا”، وكان موقع “تابناك” المقرب من المرشد الأعلى قد قدم في تقرير له أوجه الخلاف بين إيران وروسيا بخصوص سوريا، ولخّصه في “سعي موسكو لإيجاد علاقات ثنائية مع المعارضة السورية بما فيها الجيش الحر، الأمر الذي لا تستسيغه طهران حيث لا تريد أي دور للمعارضة في مستقبل سوريا، كما أنها تصر على بقاء الأسد بأي ثمن”.
موقع تابناك المقرب من دوائر صنع القرار: “الاتفاقيات التي جرت بين النظام السوري وموسكو عن إعادة إعمار سوريا استبعدت إيران وشركاتها من عملية إعادة الإعمار والاستثمار”
أما الموقف الروسي فمعلوم أنه لا يركز على شخص بشار الأسد من حيث البقاء أو الرحيل، إنما كل تركيزه نحو منظومة الحكم التي تضمن المصالح الروسية، وكذا موقفه من إستراتيجية الحل والمجموعات المعارضة على النقيض من الموقف الإيراني، إذ يعتبرها جزءًا رئيسًا في الحل السياسي وقد دعاها لمؤتمر التنسيق العسكري (أستانا) عقب السيطرة على حلب مخالفًا بذلك طموحات طهران المتمثلة في إكمال شوط الأعمال العسكرية بعد حلب نحو الغوطة الشرقية ودرعا وإدلب.
ولا يغيب عن بالنا كيف اختلفت إيران مع روسيا في مسألة إجرائية تفصيلية، إذ حاولت عرقلة عملية إجلاء الناس من حلب وقتل كل المسلحين والمدنيين المشتبه فيهم، مما دفع روسيا إلى التهديد بضرب كل من يطلق النار في إشارة إلى إيران على وجه الخصوص.
إعادة الإعمار.. القشة التي قصمت ظهر البعير
أما القضية الشائكة الثالثة بين الجانبين فهي قضية اقتصادية لا سياسية، وقد ترافق رفع الصوت الإيراني من قضية إعادة الإعمار والاستثمارات مع مجموعة خطوات روسية أمريكية لتقليم أظافر إيران العسكرية في الساحة السورية كان أبرزها اتفاق دانانغ في فيتنام الذي عرف بوثيقة ترامب -بوتين، وبحسب التسريبات التي رشحت عن الاتفاق فإنه ينص على تراجع الميليشيات الإيرانية مسافة 45 كيلومترًا عن الشريط الحدودي مع الأردن، ومع أن روسيا نفت هذا البند إلا أن الحال أبلغ من المقال، هذا الحال بدا جليًا خلال العمليات الأخيرة التي سيطر من خلالها النظام على مطار أبو الظهور، حيث لم يسجل فيها مشاركة لميليشات إيران، وكانت المشاركة من نصيب كل من قوات النمر والفيلق الخامس اللذين يعتبران تحت العباءة الروسية على نحو تام.
ولذا كانت هذه القضية (إعادة الإعمار) الصخرة التي قصمت ظهر إيران ودفعت ما في الصدور إلى اللسان، حيث صرح مستشار المرشد الأعلى علي أكبر ولايتي لصحيفة كيهان المقربة من خامنئي: “لولا إيران لسقطت بغداد ودمشق وقطر، ولما تمكنت روسيا من فعل شيء في المنطقة”.
وعزف على هذا الوتر موقع تابناك المقرب من دوائر صنع القرار حين قال: “الاتفاقيات التي جرت بين النظام السوري وموسكو عن إعادة إعمار سوريا استبعدت إيران وشركاتها من عملية إعادة الإعمار والاستثمار” موضحًا أنه “خدعة روسية سيئة للإيرانيين في سوريا” بموجبه ستكون طهران مضطرة لمفاوضة روسيا في حين أرادت المشاركة وإن بإجراءات صغيرة.
وقد أصدر الموقع تقريرًا قبل بضعة أيام بعنوان: “من المسؤول عن حذف وإقصاء إيران من عملية إعادة إعمار سوريا؟ نحن أم بشار الأسد؟” لم يضف شيئًا ذا وزن عما أبانه في تقريره المنصرم.
تم الحكم على إيران أن ترجع بخفي حنين وتخرج من المولد بلا حمص
أما صحيفة “قانون” وثيقة الصلة من التيار الإصلاحي، فقد صبت جام غضبها على رأس النظام إذ قالت: “بشار الأسد بلا مبادئ وناكر للجميل بسبب اتفاقه مع الروس بشأن تسليم ملف إعادة إعمار سوريا بهم بدلًا من إيران” وأضافت: “مصالحنا القومية وكرامتنا التي اكتسبناها بدماء العديد من قتلانا لا ينبغي أن تُستنزف لشخص جبان مخنّث أناني”.
كلمة السر
بما أن الولايات المتحدة الأمريكية الدولة الأولى في العالم بلا منافس، وبما أن حجمها في المشهد السوري هو الأضخم، وبما أن التدخل الروسي في سوريا جاء بصفقة وتفاهم مع أمريكا إبان لقاء أوباما وبوتين في الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل يوم من إعلان التدخل، وبما أن الترتيب والتنسيق العسكري/السياسي بين أمريكا وروسيا كان قويًا بالمجمل بحيث تم حصر الملف بينهما، فإن الراجح في هذا الموضوع أن انعطافة روسيا الحادة عن إيران كانت باتفاق مع أمريكا وذلك للمضي في تهيئة الأجواء نحو الحل النهائي الذي لن يتم أو يتقدم خطوات جدية إلى الأمام بوجود العقبة الإيرانية.
وبالتالي تم الحكم على إيران أن ترجع بخفي حنين وتخرج من المولد بلا حمص، وهذا هو المآل الطبيعي للأنظمة التي تتحالف مع القوى الكبرى وتضادد ثقافة وقيم ومصلحة الشعوب بل تمعن في قتلها وإعادتها لحظيرة الرق الدولية، فهل من معتبر؟