بعد تحرك ترامب لتحقيق هدفه العقدي الديني المعتمد على عقيدة توراتية ظلت الكنيسة الإنجليكانية تسوق لها، كان نتاجها ولو بعد قرون اعتراف ترامب بالقدس كعاصمة لكيان ذي عقيدة أخرى مختلفة عن عقيدة ترامب، لكنهما يشتركان في رؤية المستقبل الواحد “نزع القدس من وجدان أمة الإسلام” بهدف قطع الطريق عن تشكل حضارة إسلامية تحكم العالم.
وأنا أبحث عن عقائد الصهيونية وطريقة تشكلها وعن دور البروتستانت منذ تشكيلهم للدولة “أمريكا” أردت أن أعرف أكثر عن مصوغات هذا الدعم غير المشروط ذي الطبيعة العقدية من خلال الأخذ من المصدر المباشر، من عيون رجال الدين البروتستانت ورؤيتهم لأسطورة أرض الميعاد.
وأنا أعترف بالفضل للباحث الفرنسي رجاء “روجيه” غارودي الذي جمع لنا في صورة راقية آراء مفسري العهد القديم في كتابه “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية”، فكان الكتاب مفتاحًا لولوج عالم من المعرفة العلمية الناقدة للاهوت الأسطورة، جعلتني أوسع البحث عن آراء اليهود نفسهم ونظرتهم لهذا الوعد.
1- أسطورة أرض الميعاد من المنظور المسيحي البروتستانتي
نعرف كل المعرفة أن البروتستانت على يد كبير بطاركتهم بل مؤسس طريقتهم مارتن لوثر أول من نادى بالتحرك السياسي لعودة اليهود إلى فلسطين، وهم في عصرنا سند الكيان الصهيوني لبقائه، نظرًا لرؤية المشروعين المشتركة في السيطرة على العالم سواء عبر الماشياح أو جيسوس (المسيح).
لكن دعونا نناقش رأي جملة من مفسري العهد القديم من رجال الدين البروتستانت وأساتذة اللاهوت على رأسهم أستاذ العهد القديم في كلية اللاهوت البروتستانتية في جنيف ألبير دي بوري وعميدة كلية اللاهوت فرنسواز سميث التي وضعت التفسير المعاصر للتوراة على أركان أستاذها دي بويري.
لم يكن الوعد سياسيًا بحكم عدم وجود قومية يهودية ( التي يرى اليهود أنها ظهرت بوجود سيدنا موسى)، بالتالي لما يتم استعمال الوعد الآن وكأنه وعد سياسي لقومية عرقية
ترى الأنسة سميث أن “البحث التاريخي الحديث جعل من الوحدة القومية الإسرائيلية قبل خروجهم من مصر ودخول بلاد كنعان والحدود الدقيقة – لأرض الميعاد -، مجرد وهم وأن الوصف التاريخي التوراتي لا يعلمنا عما يرويه شيئًا ولكن يعلمنا أشياء وأشياء عن الذي صنعوه.
يأتي الوعد في سفر التكوين 15/18-21، وهو أحد الأسفار التي تصف مرحلة قبل دخول فلسطين التي تصفها سميث بالوهم الذي يقول عنه الدكتور ألبيرت دي بوري أن الوعد الأبوي (عقيدة الإله الأب عندهم) هو مجرد تبرير كتب بعد وقت سليمان في عهد “اليهوي” ناشر التوراة لتبرير دخول فلسطين أيام الملوك”.
2- نقد الرؤية البروتستانتية
من خلال سردنا آنفًا لأقوال جملة من دكاترة التفسير المعاصرين للعهد القديم عن وهم الوعد “الأبوي” وبطلانها من الناحية التاريخية، دعونا الآن نعدد عدة قرائن تاريخية وعقلانية وتوراتية حتى على حقيقة الوعد وطبيعته تكون كقراءة نقدية مكملة:
حكم أن التوراة غابت منذ نزولها على يد سيدنا موسى وظهرت مرة أخرى في عهد “اليهوي” ناشر التوراة في عهد سليمان (حسب اعتقادهم)، فإن الوعد بصيغته التي تحدد حدود ما بين النهرين ليست وعدًا بل مقدمة لوصف حالة دولة سيدنا داود وسليمان وامتدادها الجغرافي، فتكون بذلك ليست أرض موعودة بل شرعنة لأرض مغزوة، استحالة وجود وحدة قومية يهودية في وقت سيدنا إبراهيم (البطريك إبراهام عند البروتستانت) تستحق وعدًا سياسيًا.
لم يكن الوعد سياسيًا بحكم عدم وجود قومية يهودية (التي يرى اليهود أنها ظهرت بوجود سيدنا موسى) بالتالي لما يتم استعمال الوعد الآن كأنه وعد سياسي لقومية عرقية، وإذا كان الوعد ذو طبيعة دينية عقدية لماذا تأسس الكيان الصهيوني على أن الوعد وعد قومي، وإذا كانت تأسست على وعد ديني فلماذا 90% من سكان الكيان غير متدينين ويمتلكون حق المواطنة المبنية على عقيدة الدين وفقط.
يؤمن اليهود بالأسفار الخمس التي تسمى عندهم كتب التاريخ التي تسرد تفاصيل الحاخامات والملوك ضامة جملة من الأساطير والخرافات
بما أن التوراة تشرح لنا سيكولوجية كتاب العهد القديم، فبالضرورة ستعطينا اطلاعًا على الثقافات التي استوطنت فلسطين، وبذلك يتأكد حقيقة عبر تأثر كاتب التوراة بحركية اجتماعية ثيولوجية بدائية، وهي أن كل الشعوب والقبائل البدائية التي عاشت في فلسطين كانت قد استوطنت نتاج وعود ألهتها بالرعي واستوطان المنطقة، وهذا أكده الكاتب ريني لابال في كتابه ديانات الشرق الأدنى (بعودته إلى كتابات نقشية هي مسلة الكرنك للفرعون تحوتمس الثالث ووعد مردوك إله بابل الذي يظهر في القصيدة البابلية لعملية الخلق).
يظهر أن الوعد كان رعويًا وليس سياسيًا وهو لكل الشعوب التي وصلت الأرض قبل بني إسرائيل ويكون بذلك أول من استوطن الأرض هو صاحب الحق الأخلاقي وهم بذلك العرب اليبوسيين.
يرى شارحوا العهد القديم أن مقدم الوعد ليس يهوه إله إسرائيل بل إل El إله الكنعانيين، بالتالي حسب فهمهم المقصر في جنب الله صاحب القوة والملكوت الأوحد، فإن الوعد مقدم لإبراهام وعد إله الكنعانين له ككنعاني وليس كعبراني.
3- أسطورة أرض الميعاد من النظرة اليهودية
يؤمن اليهود بالأسفار الخمس التي تسمى عندهم كتب التاريخ التي تسرد تفاصيل الحاخامات والملوك ضامة جملة من الأساطير والخرافات (مثلما أكده لنا الدكتور دي بوري والدكتورة سميث) كما أنها تحدثنا عن نفسية كتابها المختلفين.
مع كل هذا التضارب نجد أن فكرة أرض الميعاد تتجدد في الأسفار الخمس ابتداءً من سفر التكوين في الإصحاح 8،11،12،13،15،18 وفي الأسفار الأخرى، لكن اليهود يحتجون بنص سفر التكوين الإصحاح 15/18-21 “قطع الرب وعدًا لأبرام لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى نهر الفرات، أرض القدوميين والجرجاشيين والحثيين واليبوسيين”.
يرى ألمر أن الوعد باسترجاع صهيون ليس بالضرورة استرجاع الأرض بل استعادة إخلاص الشعب للرب بعد أن قطعها الملوك والشعب
يقول الحاخام الأمريكي رئيس الرابطة اليهودية في أمريكا ألمر برجر أن الوعد هو تحالف إيماني بين يهوه وبني إسرائيل وأن هذا الوعد ليس وعدًا سياسيًا يعطي تربة لأشخاص بل وعد بنشر المحبة والعدالة.
وبالتالي يخلص إلى أنَّه من غير المقبول من أي إنسان الادِّعاء بأنَّ إنشاء دولة “إسرائيل” حاليًّا هو تحقيق لنبوءة توراتية، ومن ثَمَّ فإن كل الأفعال التي قام بها الإسرائيلي وأن لقيام دولتهم والإبقاء عليها هو تنفيذ لإرادة الرب”.
يرى ألمر أن الوعد باسترجاع صهيون ليس بالضرورة استرجاع الأرض بل استعادة إخلاص الشعب للرب بعد أن قطعها الملوك والشعب، ولذلك تراه يؤكد أن: “فالمحك المطلق الذي لا يقبل النقاش بشأن مفهوم نبوءة الخلاص، هو استعادة العلاقة بالرب”.
وقد قال “ميشا” (أحد أنبياء وملوك التوراة) ذلك بكل وضوح: “استمعوا إذًا يا رؤساء بيت يعقوب، وقادة بيت إسرائيل، يا من تكرهون الخير وتحبون الشر، يا من تبنون صِهيون وسط حمامات من الدم والقدس بجرائمكم، إنه صهيون سيحرث كالحقل، وستصبح القدس “أورشاليم” كومة من الأطلال، وسيصبح جبل المعبد مكانًا لعبادة الأصنام”، ميشا الثالث 12-1.
كما أنه يؤكد أن الصهاينة أدخلوا من لا يستحق أرضهم غير مراهين هجرة الاصطفاء المعتمد أيضًا على قانون أنه “ليست الأرض وحدها التي تتوقَّف عليها مراعاة العلاقة مع الرب والإخلاص لها؛ فإن الشعب الذي أعيد توطينه في صهيون لا يخضع لمقتضيات العدالة والاستقامة والإخلاص التي للعلاقة مع الرب”.
ويؤكد ألمر عبرى فتوى حاخامية صريحة أنه “ولا يمكن لصهيون أن ينتظر إعادة شعب يعتمد على المعاهدات والتحالف وعلاقات القوة العسكرية، أو على هيراركيَّة حربيَّة تحاول أن تَفرض تفوُّقها على الجيران” هذا قول أحد كبار الحاخامات في محاضرة له في هولندا بعنوان “النبوءة الصهيونية وإسرائيل”.
سنحرص في المقال المقبل على نقد هذه الرؤية اليهودية بعد أن نعرض للرؤية الصهيونية التي لا تعتبر فلسطين أرض الميعاد من خلال مذكرات زعيمها هرتزل.