عرفت البلاد التونسية التي كانت تعرف قديمًا باسم “إفريقية” تعاقب العديد من الدول والحضارات على حكمها، من بينهم الدولة الحفصية التي استمر ملكها لأكثر من ثلاثة قرون، شهدت فيها البلاد فترات مهمة تراوحت بين الاضطراب والاستقرار والرفاهية، فكيف حكم الحفصيون تونس طوال هذه الفترة الزمانية الطويلة؟
الدولة الحفصية .. تأسيس الدولة
بداية حكم الحفصيين الذي استمر من سنة 1229 ميلاديًا إلى سنة 1574، كانت عن طريق أبو زكريا الحفصي الذي اتخذ مدينة تونس عاصمة لحكمه، وينتمي الحفصيون إلى قبيلة هنتانة، أعظم قبائل مصمودة التي عاشت بالمغرب الأقصى، استمدوا تسميتهم من أبو حفص يحي بن عمر (1174-1195 ميلاديًا)، أحد أجداد الأسرة الذي يعد من رجالات ابن تومرت مؤسس دولة “الموحدين” الأوفياء.
عرفت الدولة الحفصية التي سقطت على يد العثمانيين سنة 1574، تعاقب 25 سلطانًا على حكمها
وتقول كتب التاريخ إن الأمير أبو زكريا يحي الذي شغل منصب عامل الموحدين على تونس، استولى على الحكم بعد سنة من توليته، معلنًا استقلاله عنهم واستخلاف الموحدين في المنطقة، وامتدت دولته إلى ليبيا شرقًا والجزائر غربًا.
رغم خلع أبو زكريا الحفصي طاعة أبي العلاء إدريس خليفة الموحدين، فإنه لم يدع لنفسه بالأمر إلا بعد سبع سنوات أي سنة 634 هجريًا الموافق 1236 ميلاديًا، بعد أن اكتسب محبة أهل إفريقية وولائهم وطاعتهم التامة، وذلك مخافة ردة فعل الموحدين في مراكش المغربية، وعلى إثر ذلك ضرب السكَّة (النقود) باسمه، وأمر أن يُخطب له باسمه على كل منابر بلاده.
امتداد دولة الحفصيين
عرفت الدولة الحفصية التي سقطت على يد العثمانيين سنة 1574، تعاقب 25 سلطانًا على حكمها، بدءًا بأبي زكريا الحفصي ووصولاً إلى السلطان مولاي محمد الذي حكم لخمس سنوات فقط بين سنتي 1596 و1574 ميلاديًا.
اضطرابات فازدهار
عرف القرن الأول من الحكم الحفصي لتونس وأجزاء كبيرة من ليبيا والجزائر، سلسلة من الاضطرابات الداخلية تمثلت بعض أوجهها في الصراع على السلطة بين أفراد العائلة المالكة وقيام مجموعة من القبائل الداخلية خاصة البربرية التي أرادت الانتقام، إلا أن القرن الثاني من حكمهم عرف الاستقرار والرفاهية وبالخصوص في أثناء فترتي حكم أبو العباس وأبو عثمان.
خلال تلك الفترة، عقد الحفصيون مع دول البندقية وبيزة وجنوة معاهدات صداقة وسلام
تمكن الحفصيون في أثناء حكمهم الطويل من تطوير المجالات الاجتماعية والاقتصادية والفلاحية والتعليمية والسياسية والمعمارية التي طبعت بطابعها جزءًا من تاريخ تونس، ونجح الحفصيون أيضًا في تطوير جيشهم وتقويته حتى أصبح من أحسن الجيوش في المغرب إلى بداية القرن السادس عشر.
خلال تلك الفترة، عقد الحفصيون مع دول البندقية وبيزة وجنوة، معاهدات صداقة وسلام، ونصت هذه المعاهدات على ضمان الأمن المتبادل للملاحة البحرية ووضع لوائح للتبادل التجاري ومنع فرص المسؤولية الجماعية بصورة آلية على النصارى ومصادرة تركاتهم والاعتراف بقناصلهم.
جامع القصبة
مع بداية حكمه، أمر أبو زكريا ببناء جامع القصبة على أطراف المدينة حيث كانت الشوارع الضيقة كثيرًا ما تزدحم بمختلف المتسوقين من قبائل شمال إفريقيا والصحراء الكبرى، وكانت البناية في الأصل عبارة عن مسجد صغير لحي، لتتحول إلى جامع تقام فيه صلاة الجمعة، في الوقت الذي كانت فيه هذه الوظيفة تقتصر على جامع الزيتونة.
تنقسم قاعة الصلاة في المسجد إلى سبع بلاطات وتسع أساكيب، وهو شيء نادر في المساجد الإفريقية حينها، وما يشد الانتباه في المسجد أيضًا، تلك الأعمدة ذات التيجان الحفصية التي تحمل بواسطة أكتاف عقود، أقواسًا مكسورة متجاوزة تعلوها أقبية متقاطعة، فضلاً عن البنايات الخارجية التي تغطي سطوح ذات دعامات خشبية وألواح وقبة.
جامع القصبة أبرز مساجد الحفصيين
تتخذ صومعة الجامع من خلال مكوناتها الزخرفية شكل الصوامع الموحدية المغربية والأندلسية، حيث تتمدد الأقواس المتعددة الفصوص المنجزة بقاعدة الصومعة إلى الأعلى بواسطة تشبيكات تغطي واجهات الصومعة بسلسلة من المعينات، أما الجزء العلوي فينفتح بأقواس ثلاثية متجاوزة ومحاطة بإطار من التلبيس الخزفي، ويتوج الصومعة منور ذو تصميم مربع تزينه كوة ذات قوس متجاوز بكل واجهة.
استغلال الزوايا خدمة لمصالحها
خلال فترة حكمهم، عرف القائمون على الدولة الحفصية كيف يوظفون مسألة مهمة منتشرة داخل المجتمع وهي مسألة الزوايا، فقد اهتمّ الملوك والسلاطين الحفصيين بزوايا الشيوخ والصالحين وتعميرها والنظر في مصالحها وكانوا يشملون أبناء الشيوخ بعنايتهم فضلاً عن إعفائهم من الضرائب.
هناك نوع آخر من الزوايا وهي التي تكون على ضريح أو تابعة لولي من أولياء الله الصالحين
هذا الاهتمام جاء نتيجة الدور الكبير الذي لعبته الزوايا في تأطير المجتمع والمساعدة على تحقيق السلم والاستقرار، الدور الذي عجزت الدولة عن القيام به أحيانًا، ففي تلك الفترة، تطوّرت ظاهرة الأولياء الصالحين والزوايا الصوفية في إفريقية التي أصبحت بفضل تحمس العامة ظاهرة اجتماعية وفرت للمجتمع حلولاً عملية استغلتها السلطة السياسية لتمرير توجهاتها السياسية واختياراتها الاجتماعية والاقتصادية.
وللزوايا أنواع منها الزاوية البسيطة ولا تنتسب لطريقة أو لمذهب وهي عبارة عن مجموعة من الأبنية لمبيت الطلبة وتعليمهم، وتتكون من الكتاب وغرفة التدريس ومكتبة وجامع، وهناك نوع آخر من الزوايا وهي التي تكون على ضريح أو تابعة لولي من أولياء الله الصالحين، فتكتسب سمعة جيدة وتكثر إيراداتها من زوارها ونذورهم وتدريجيًا تتحول إلى مركز عمراني كبير.
المدارس الحفصية
ما يسجّل للحفصيين أيضًا اهتمامهم بالمدارس، وأولى هذه المدارس هي المدرسة الشماعية التي كانت تعرف بأم المدارس في تونس، أسسها أبو زكريا قرب جامع الزيتونة زاوية سيدي أحمد بن عروس قريبًا من سوق العطارين، وسميت هذه المدرسة بالشماعية نسبة إلى سوق الشماعية الذي كان يصنع به شمع من شهد العسل لكي يستضاء به في المعالم الدينية المجاورة من جوامع ومساجد لخلوه من بعض المواد التي قد تكون محرمة.
المدرسة الشماعية أقدم مدارس شمال إفريقيا
ثاني المدارس هي المدرسة التوفيقية التي مولت بناءها السيدة عطف أرملة أبي زكريا يحي الحفصي في عهد ابنها أبي عبد الله محمد المستنصر، وتقع المدرسة بمعقل الزعيم وكان يسمى رحبة الغنم، ويذكر بعض المؤرخين بأن المدرسة سميت أيضًا باسم مدرسة جامع الهواء وذلك لمناخها الطيب.
إضافة للمدرستين السابق ذكرهما، عرفت تونس خلال فترة حكم الحفصيين تأسيس المدرسة المعرضية والمدرسة العنقية، وأيضًا مدرسة بن تافراجين والمدرسة المنتصرية التي كانت آخر المدارس التي بنيت في العهد الحفصي.