شهد العالم على مرّ السنين جرائم إبادية عديدة وحالات قمعية فردية كانت أو جماعية، أصبحت محط أنظار علم النفس الذي يسعى لدراسة سلوكيات الفرد والمجموعات والأسباب التي تدفعها للقيام بما تقوم به والعوامل المؤثرة عليها. وقد وضع عدد من الباحثين النفسيين من خلال العديد من التجارب، العديد من الفرضيات التي تحاول فهم سيكولوجية الإنسان القمعيّ أو المستبدّ.
في ستينات القرن الماضي، بنى ستانلي ميلغرام أطروحته في الدراسات العليا على التجربة الشهيرة في المطابقة لعالم النفس الأمريكي وأستاذ علم النفس الأمريكي سولومون آش عام 1951، والذي حاول من خلالها دراسة تأثير ضغط المجموعة على الفرد وآرائه. تكوّنت تجربة آش من مجموعة من المشاركين غير المعروفين بالإضافة إلى مجموعة الممثّلين الذين يساعدون في التجربة.
عرض آش بطاقةً فيها خط أسود واحد على المشاركين في تجربته، وإلى جانبها ثلاث بطاقات بثلاث خطوط متفاوتة الأطول، وعلى المشاركين الإشارة للخط المماثل لذلك الذي في البطاقة الرئيسية، والذي يسهل معرفته فورَ رؤيته، ولكن يكمن سرّ التجربة في أنّ الممثّلين سيعطون الإجابةً الخاطئة نفسها كلّ مرة، في ثقةٍ واضحة وصريحة، فكانت النتيجة أنّ أكثر من ثلث المشاركين قد وقعوا في فخّ التجربة، وقدموا إجاباتٍ غير صحيحة.
ألهمت محاكمة المجرم النازي “أدولف أيخمان” ميلغرام بإعادة فهم الهولوكوست ودراسته بطريقةٍ أكثر عمقًا، وبذلك قام بتجربته التي هدفت لدراسة أثر الخضوع على سلوكيات الفرد
لكنّ ميلغرام أرادَ أن يذهبَ أبعد من ذلك في دراسة انصياع البشر وخضوعهم ويجعل من تجربة آش تلك أقل تجريدًا وأكثر قربًا من الواقع، ففي عام 1961 وفي الوقت الذي أنهى لتوّه فيه درجة الدكتوراه في علم النفس الاجتماعي، كانت تجري في القدس آنذاك محاكمة مجرم الحرب النازي وقائد الجستابو السابق الذي عمل في حملات إبادة يهود ألمانيا وأوروبا، “أدولف أيخمان”، الأمر الذي ألهم ميلغرام بإعادة فهم الهولوكوست، ودراسته بطريقةٍ أكثر عمقًا ومجهريةً، وكان له ما أراد.
تمّ الإعلان عن التجربة في إحدى الصحف على أنها تسعى لدراسة أثر العقاب على التعلّم والذاكرة، لكنْ في الحقيقة فكان ميلغرام يحاول العثور على إجابةٍ لتساؤلاته عن المدى الذي يستطيع فيه الشخص العاديّ الانسياق لتعذيب شخصٍ آخر -بريء- حين تكون وظيفته هي التعذيب.
فكرة التجربة كالآتي: ثمّة ورقة بقائمة من الكلمات المتقابلة، وعلى المشارك أنْ يحفظها ليستطيع الإتيان بالكلمة التي تقابل تلك التي سئل عنها، ومع كلّ خطأ يقع فيه فسيقوم السائل، وهو من المشاركين بطبيعة الحال، بالضغط على جهاز الصعق الكهربائيّ أمامه على الطاولة، والذي يحتوي على عدة مفاتيح تشير كلٌّ منها لدرجات متفاوتة تتراوح ما بين 30 حتى 450 فولت.
ولندخل في جوّ التجربة أكثر، يظنّ المعلّم أو السائل أنّ ثمة مشارك آخر يقوم بدور التلميذ في غرفةٍ أخرى وعليه أنْ يضغط على الرقم الذي يدلّ على الكلمة الصحيحة في جهازٍ مخصص لذلك، فإنْ كان الاختيار خاطئًا، يقوم المعلّم باستخدام الصعقة الكهربائية التي ستزيد حدتها حتى يتمكّن التلميذ من حفظ الكلمات تمامًا. المشارك يظنّ أنّ ثمة من يُجيب حقًا، وبالتالي ثمّة من يتعرّض للصعفة، لكن في واقع الأمر فلا تلميذ في الغرفة المجاورة، وجهاز الصعق لا يعمل، وإنما ثمة تسجيلات مسبقة بأصوات صراخٍ تتناسب مع شدة الصعقات تمّ إعدادها مسبقًا.
ربما يعرف الكثيرون هذه التجربة وتفاصيلها، لكنّ الصادم الحقيقيّ فيها هو نتائجها التي كانت خارج نطاق التوقعات كليًا، فميلغرام كان قبل بدء الاختبار قام بإجراء دراسة استقصائية على عدد من علماء النفس ودارسيه محاولًا قياس توقعاتهم التي لم تعوّل كثيرًا على إمكانية التجربة بالخروج بنتائج صادمة أو قدرتها بالتأثير الكبير على المشاركين.
هل كان ما توقعوه صحيحًا؟ مع الأسف لا. ففي حين توقع الفريق أنّ نسبة 125. بالمائة فقط من المشاركين سيستخدمون الدرجة القصوى للصعقة الكهربائية، كانت النتيجة بأنّ 65 بالمائة منهم قد استخدمها فعلًا، على الرغم من سماعهم للصراخ أو أصوات الرجاء المعدّة مسبقًا.
ولنكونَ أكثر دقة في سرد تفاصيل التجربة، فالكثير من المشاركين عبّروا عن رغبتهم بوقف الاختبار، والكثير منهم شكّكوا في جدواه أو مهنيّته، لكنهم سرعان ما كانوا يعودون لأداء أدوارهم بعد تلقيهم تطمينات من المسؤولين تعفيهم بأي مسؤولية قد تحدث مع الطرف الآخر نتيجة الصعق.
صرّح ميلغرام في إحدى مقابلاته الصحفية أنّه على ثقة تامة من أنه إذا تمّ تكرار ما جرى في ألمانيا في الولايات المتحدة وإنشاء معسكرات الموت، فالكثير من الأمريكيين سيشاركون طوعًا، مكرّرين تجربة النازيين تمامًا.
وفي ما أطلق عليها لاحقًا “اللحظة المتقدة” أثناء الاختبار، أصبح ميلغرام ميّالًا وأكثر اهتمامًا بدراسة السيطرة بدلًا من دراسة الخضوع، وتساءل إلى أيّ مدىً سيتبع المشتركون أوامره وينساقون في تعذيب الطرف الآخر لا لسببٍ سوى أنّ ثمة مركز سلطة يأمرهم بذلك. وقد يكون من المضحك معرفته أنّ ميلغرام كان ينوي أساسًا بالقيام بالتجربة على مشتركين ألمان ظنًّا منه أنهم الأقرب لفهم ما حصل بالهولوكوست، لكنْ بعدما رأى نتائج ما قام به على عدد من الأمريكيين، أصبحت المقارنة مع الألمان أو أيَّ شعبٍ آخر غير ذات جدوى.
نشر ميلغرام نتائج تجربته تلك عام 1974 في كتابه “الانصياع للسلطة: نظرة خارجية”، والتي تبيّن أنّه قام بتكرارها بعد المرة الأولى، ولكن جعل منها مراحل مختلفة. ففي المرحلة الأولى، يسمع المشترك أصوات صراخ وألمٍ فقط. و في الثانية تبدأ أصوات الرجاء والتوسّل وطلب الرحمة بالتعالي من خلف جدران الغرفة، لكنّ هذا لم يغيّر من النتيجة كثيرًا.
في المرحلة الثالثة وضع ميلغرام كلًا من المشترك والتلميذ في نفس الغرفة، الأمر الذي ساهم في تغيير النتيجة فعليًا، لا تذهب بتوقعاتك كثيرًا، فنسبة 40% من المشتركين استخدموا زر الحد الأقصى للصعقات الكهربائية. أما في المرحلة الرابعة فقد طلب ميلغرام من المشتركين وضع يد التلاميذ على جهاز الصعق الكهربائي كنوعٍ من العقاب، 12 مشتركًا من أصل 40 رضخوا لذلك!
ختم ميلغرام كتابه “الانصياع للسلطة” قائلًا أنّ الامتثال للأوامر هو طبيعة مصيرية تكمن في البشر، وأنّ التوسّل أو استجداء الرحمة، قد اتضح، أنها لا تجدي نفعًا للضحية، وكان قد صرّح في إحدى مقابلاته الصحفية أنّه على ثقة تامة من أنه إذا تمّ تكرار ما جرى في ألمانيا في الولايات المتحدة وتم إنشاء معسكرات الموت، فالكثير من الأمريكيين سيشاركون طوعًا، مكرّرين تجربة النازيين تمامًا.
ما حاول ميلغرام دراسته والعثور على إجابته لم يكن أمرًا مستحدثًا، فسؤال الشرّ والخير عند الإنسان قديمٌ جدًا، امتدت جذوره في التاريخ والأديان والفلسفة والفنون وعلم النفس والاجتماع. وتجربته تلك لم تكن الوحيدة التي عملت على دراسة سيكولوجية التعذيب والأشخاص القائمين عليه. ففي أوائل سبعينات القرن الماضي، أجرى الباحث النفسي في جامعة ستانفور الأمريكية فيليب زيمباردو تجربةً صادمة أحدثت ضجة كبيرة في تاريخ علم النفس.
افترض زيمباردو بأنّ ما حدث خلال التجربة هو نتيجة طبيعية لما يٌطلق عليه في علم النفس الاجتماعي بمصطلح “اللاتفرد” أو فقدان الوعي الذاتي
وفقًا لتجربة زيمباردو والتي بات يُطلق عليها لاحقًا “سجن ستانفورد”، فقد قُسّم المشاركين إلى مجموعتين، إحداهما أدت دور السجناء والأخرى قام أفرادها بدور السجّانين أو حرّاس السجن، وقام طلاب علم النفس القائمون على التجربة بملاحظة تغير سلوك كلا المجموعتين، وباختصار فقد تحوّل حراس السجن مع الوقت إلى أشخاص أكثر استبدادية ووحشية، أما السجناء فأخذوا شيئًا فشيئًا بالرضوخ وتقمّص شخصيات سلبية خاضعة لسلطة المجموعة الأخرى.
أُنهيت التجربة التي كان من المخطط لها الاستمرار أسبوعين، بعد ستة أيام فقط، بعد أنْ تحوّل حرّاس السجن إلى أشخاص عدوانيين وساديّين بمعنى الكلمة، إذ بدأوا باستخدام أساليب تعذيبية تشكّل خطرًا على حياة المجموعة الأولى.
افترض زيمباردو بأنّ ما حدث خلال التجربة هو نتيجة طبيعية لما يٌطلق عليه في علم النفس الاجتماعي بمصطلح “اللاتفرد” أو ” Deindividuation “، والذي يمكن تعريفه بأنه فقدان الهوية الذاتية أو الوعي الذاتي في سياق الحالة الاجتماعية، فيصبح الفرد يعرف نفسه عن طريق دوره الذي يؤديه لا عن طريق معاييره الأخلاقية والاجتماعية كشخص. وتقترح هذه النظرية أنّ إحساس الفرد بالمسؤولية الشخصية يتناقص وبالتالي يميل إلى فقدان الموانع الفردية والمعايير الاجتماعية والأخلاقية.
ولو عدنا بالتاريخ قليلًا لوجدنا أنّ غوستاف لو بون كان أول من استخدم هذه الدالّة في كتابه سيكولوجية الجماهير الذي استخلص فيه أنّ الحشود والجماعات تعمل على تحفيز فقدان المسؤولية الشخصية للفرد ما يؤدي إلى ميله للتصرف بشكل بدائي نظرًا للقوة والسلطة التي يستمدها من مجموعته، ما يجعله ينصاع بسهولة ودون تردد لاقتراف القتل والنهب إذا ما سنحت له الفرصة.
أما زيمباردو فقد اتفق مع لوبون ومن بعده من علماء النفس الاجتماعيين، بأنّ فقدان الهوية الفردية أيضًا قد تؤدي إلى فقدان الفرد للسيطرة على أفعاله ومساءلته حيالها، فيصبح مندفعًا ومتهورًا لا يفكر بعاقبة ما يقوم به، إلى أنْ يصعب عليه وقف سلوكياته العدوانية أو التخلي عنها. وقد أسقط فرضيته هذا على العنف الطائفي والحروب الأهلية وأعمال الشغب والإبادات الجماعية والمجازر والمذابح والتعذيب المساجين وإساءة معاملتهم، إضافةً إلى حالاتٍ أكثر فردية مثل الانتحار والعداءات الشخصية بين الأفراد.
عام 2007، أي بعد ما يقارب النصف قرنٍ على تجربة ميلغرام، قام عدة علماء نفس في جامعة سانتا كلارا الأمريكية باستنساخ تجربة ميلغرام ذاتها، فلم يجدوا أيّ تغيير بالنتيجة يُذكر. وقبل ذلك بعامين تمّت إعادة التجربة أيضًا في إحدى جامعات هولندا، والنتيجة ذاتها. المشتركون دومًا على استعداد لتعذيب الطرف الآخر رضوخًا لأوامر القائمين على التجربة، أي في ظلّ وجود سلطة تأمرهم بذلك، حتى لو تعارض الأمر مع أخلاقهم وعواطفهم. كما تكرّرت التجربة أيضًا في كثيرٍ من الدولة الأوروبية وجنوب إفريقيا.
لا عجب أنّ علماء النفس ما يزالون بعد كلّ تلك السنوات مهتمين بتجربة ميلغرام وإعادة تكرارها، فمع كلّ ما يحدث في العصر الحديث من قمع وتعذيب واستخدام وحشيّ للسلطة، سيظلّ السؤال حول الكيفية التي يفقد فيها الأفراد بوصلتهم الأخلاقية ومعاييرهم الاجتماعية يلوح بالأفق.
وعلى الرغم من اختلاف المجموعات العدوانية أو القمعية وسلوكياتها، إلا أنّنا سنجد أنها سنجد دومًا أنّها تشترك في العديد من الصفات المواتية التي تنتج عن غياب الفروق الفردية والانغماس بالمجموعة تحت تأثير سلطةٍ ما. فالزيّ الموحد والمظهر الشبيه كالرأس المحلوق أو شكل الجسد المطلوب واستخدام نبرة صوت معينة قد تتواجد بين أوساط المعذِّبين الذين بات عندهم كلًا من التعذيب والوحشية أفعالًا عادية لا تخضع للتساؤل أو المراجعة نتيجة انغماسهم في مجموعة سلطوية أو في نظام أيديولوجي مدعوم حكوماتيًا أو مؤسساتيًا.