ترجمة وتحرير: نون بوست
يعتبر سكان المدينة أكثر عرضة للإصابة بالأمراض النفسية على غرار الاكتئاب والقلق. في هذا السياق، علينا أن نطرح السؤال التالي، ماهي الأسباب الكامنة وراء الشعور بالقلق لدى متساكني المناطق الحضرية؟ عموما، يدرك جميع سكان المدن أن العيش في المدينة يسبب الشعور بالتوتر نظرا للكثافة السكانية العالية والضجيج المنجر عنها، علاوة على الأوساخ المنتشرة في كافة الأحياء الحضرية. في هذا الإطار، يعمل الطبيب النفسي لدى المعهد المركزي للصحة العقلية في مانهايم، أندرياس ماير لندنبرغ منذ ما يزيد عن عشر سنوات على إجراء أبحاث بشأن تبعات العيش في المدينة.
فيلت: أستاذ ماير لندنبرغ، أنا أعيش في المدينة. فهل يعد ذلك غير صحي؟
أندرياس ماير لندنبرغ: عند الحديث عن الأمراض النفسية، لا بد أن نقر بأن برلين تعتبر أسوء مدينة ألمانية يمكن العيش فيها.
فيلت: لكن مدينتك مانهايم ليست أجمل من العاصمة برلين.
يدير أندرياس ماير لندنبرغ (51) المعهد المركزي للصحة العقلية. في سنة 2011، توصل هذا الطبيب النفسي إلى استنتاج مفاده أن الحياة في الريف تحدث تغييرات على مستوى الدماغ
ماير لندنبرغ: تعد مانهايم أصغر من برلين على مستوى المساحة. في الأثناء، يزداد خطر الإصابة بالأمراض النفسية على غرار القلق والتوتر في كل المدن الكبرى بنسبة 40 بالمائة، في حين يرتفع احتمال الإصابة بالفصام لدى الأشخاص الذين نشؤوا في المدن الكبرى بنسبة تصل إلى 300 بالمائة. في المقابل، ينخفض خطر الإصابة بالأمراض النفسية لدى الأشخاص الذين قضوا حياتهم في الريف. ويعتبر الأشخاص، الذين ينتقلون من مدينة إلى أخرى، الأكثر عرضة للأمراض النفسية.
فيلت: ما السبب الكامن وراء ذلك؟
ماير لندنبرغ: يعزى ذلك إلى الاختلافات على مستوى الدماغ. فلقد اكتشفنا أن اللوزة الدماغية، وهو الجزء المسؤول عن مشاعر القلق والعدوانية، ونتيجة الضغط الاجتماعي، تصبح أكثر نشاطا لدى سكان المدينة مقارنة بسكان الريف. بالإضافة إلى ذلك، يزداد نشاط هذه اللوزة لدى الأشخاص المصابين بالاكتئاب والقلق. ومن المرجح أن يصبح نشاط اللوزة الدماغية لدى الشخص القاطن في المدينة عاديا على المدى الطويل في حال انتقل للعيش في الريف.
فيلت: هل يستمر التغير الطارئ على الدماغ على المدى الطويل؟
ماير لندنبرغ: أجل، خاصة في ظل ازدياد نشاط القشرة الحزامية، وهي جزء من الجهاز الحوفي، التي تلعب دورا بالغ الأهمية فيما يتعلق بالإصابة ببعض الاضطرابات، وذلك على الرغم من صغر حجمها. عند الانتقال إلى الريف، يتدنى مستوى نشاط هذه القشرة. عموما، يرتفع خطر الإصابة بالفصام كلما كان نشاط القشرة الحزامية مفرطا للغاية.
في ألمانيا، يعتبر مرض الفصام نادرا، لا سيما وأن نسبة الإصابة بهذا المرض لا تتجاوز 1 بالمائة، علما وأن هذا المرض يعد مزمنا نظرا للألم الشديد الذي يصاحبه. وقد قدمت إحدى الدراسات لمحة حول عدد حالات الانفصام في الشخصية التي كنا قادرين على تجنبها في حال ولد كافة أطفال ألمانيا في الريف. بهذه الطريقة، كان بالإمكان أن ينخفض عدد المصابين بالانفصام في الشخصية بنسبة 30 بالمائة. في الوقت نفسه، كانت أوروبا ستوفر حوالي 100 مليار يورو من تكاليف علاج المصابين بهذا المرض النفسي.
يعد الضجيج والتلوث من أبرز العوامل المضرة بالصحة
فيلت: هل يجب على كل شخص راغب في إنجاب أطفال أن ينتقل للعيش في الريف؟
ماير لندنبرغ: على الرغم من أن الكثير من الأشخاص انتقلوا للعيش في الريف لأسباب مختلفة، إلا أنني لا أنصح بذلك نظرا لأن متساكني المدينة يتمتعون بحالة جسدية جيدة مقارنة بسكان الريف. ويعزى ذلك إلى أن هؤلاء الأشخاص يتقاضون أجورا أعلى من سكان الريف، علاوة على أنهم يتمتعون بنسبة تمدرس مرتفعة وتغطية صحية جيدة مقارنة بأهالي الريف. من جانب آخر، لا يعد الانتقال من المدينة إلى الريف قبل ولادة الرضيع مباشرة أمرا مفيدا خاصة وأن الجنين قد تعود على التوتر في رحم أمه. وخلال الأشهر الأولى من حياة الرضيع، تعامل الأم طفلها على ضوء ما عاشته خلال فترة الحمل. بناء على ذلك، ينبغي على الآباء التحول إلى الريف قبل التفكير في إنجاب أطفال.
فيلت: ما هي المشاكل الرئيسية في المدينة؟ الضجيج والتلوث؟
ماير لندنبرغ: يعد الضجيج والتلوث من أبرز العوامل المضرة بالصحة. وعلى ضوء ما قمنا به من بحوث، استنتجنا أن التوتر في المدينة ناتج عن أسباب مختلفة.
فيلت: حقا؟
ماير لندنبرغ: في الواقع، نحتاج إلى الحديث مع المزيد من الأشخاص بهدف التوصل إلى نتيجة قاطعة بشأن أسباب التوتر. فقد يكون التوتر ناتجا عن عوامل أخرى لعل أهمها التفاعل الاجتماعي، الذي يعد من أكبر المشاكل في المدينة.
فيلت: هل يمكنك أن توضح ذلك أكثر؟
ماير لندنبرغ: يتمتع سكان المدينة بشبكة من العلاقات الاجتماعية أضعف بكثير من سكان الريف، علما وأن هذه الشبكة تتكون من العائلة والأصدقاء، بالإضافة إلى الجيران والأقارب. ولعل الأمر المثير للاستغراب هو أن سكان المدينة ليسوا على صلة وثيقة بأصدقائهم وأقاربهم، بينما تربط بين سكان الريف وجيرانهم علاقات وطيدة. في الوقت نفسه، يلتقي القاطنون في المدينة بشكل يومي بأشخاص غرباء، مما يولد لديهم الشعور بالتوتر.
ماير لندنبرغ: يمكن أن يشعر الإنسان بالهدوء كلما كانت البيئة المحيطة به مزدانة بالمناطق الخضراء، وهو ما من شأنه أن يؤثر على صحته النفسية
فيلت: هل التقيت بأشخاص لم تستطع الانسجام معهم؟
ماير لندنبرغ: تماما، التقيت بالعديد من الأشخاص الذين أختلف معهم. في الأثناء، يرتفع معدل التوتر في بيئة غريبة. ومن بين الأشخاص المهددين بالإصابة بالأمراض النفسية، نذكر الجيل الثاني والثالث من المهاجرين. في الوقت الراهن، شرعنا في إجراء بحوث بشأن الأشخاص الوافدين حديثا على ألمانيا.
في سياق ذي صلة، يرتفع احتمال الإصابة بأمراض نفسية لدى الأشخاص الذين يقطنون في أحياء تفوق امكانياتهم المالية أو مستواهم الاجتماعي والثقافي. وينطبق ذلك أيضا على الأشخاص الذين لا يتقنون اللغات الأجنبية جيدا. في الأثناء، أجرينا تجربة على عدد من الأشخاص قدمنا لهم هواتف نقالة على أن يخبرونا بمكان وجودهم في كل مرة. وقد استنتجنا أن معدل التوتر يرتفع كلما وجد الشخص نفسه في مكان غريب عنه.
فيلت: هل يجب على سكان المدينة أن يغيروا مكان اقامتهم داخل المدينة نفسها في حال لم يتمكنوا من الانتقال للعيش في الريف؟
ماير لندنبرغ: من دون شك. على العموم، قد تتأزم أوضاع سكان المدن في صورة تضاعف عددهم، علما وأن نصف سكان العالم يعيشون، في الوقت الحالي، في المدن. ومن المنتظر أن يعيش ثلثا سكان العالم في المدن الكبرى في غضون سنة 2050. في هذه الحالة، لن يتمكن كل متساكني المدن من الانتقال إلى الأرياف. من هذا المنطلق، أجرينا بحوثا حول السبل الكفيلة بتحسين ظروف العيش في المدينة.
فيلت: كيف ذلك؟
ماير لندنبرغ: إلى حد الآن، توصلت أبحاثنا إلى ضرورة العناية بالطبيعة من حولنا. على هذا الأساس، يمكن أن يشعر الإنسان بالهدوء كلما كانت البيئة المحيطة به مزدانة بالمناطق الخضراء، وهو ما من شأنه أن يؤثر على صحته النفسية.
فيلت: تعد المناطق الخضراء من الأمور التي يفتقر إليها سكان المدن.
ماير لندنبرغ: أجل، لكن إجراء بعض التغييرات البسيطة على المدينة قد يؤثر على سكانها بشكل إيجابي. من هذا المنطلق، لا يعتبر توفير مناطق خضراء شاسعة في كل أنحاء المدن أمرا ضروريا. ففي كل المدن، توجد مناطق خضراء، لكن السكان لا يدركون فوائدها. في الأثناء، بادر المعهد المركزي للصحة العقلية في هايدلبرغ بتطوير تطبيق يحدد للشخص الطرق المحيطة بالمناطق الخضراء. وفي الأثناء، يمكن أن تقلص مزهرية على الشرفة خطر الإصابة بالأمراض نفسية.
المصدر: فيلت