تمكن جيش الاحتلال بعد أكثر من 8 أشهر على اندلاع الحرب التي شنها على قطاع غزة من استعادة 4 أسرى إسرائيليين، من إجمالي أكثر من 130 محتجزًا بحوزة المقاومة الفلسطينية منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
كانت كلفة تخليص الأسرى الأربعة مجزرة دامية ارتكبها المحتل في مخيم النصيرات وسط القطاع، أسفرت عن ارتقاء 210 شهداء، معظمهم من النساء والأطفال، وإصابة نحو 400 آخرين، في مقابل مقتل قائد القوة التي شاركت في تلك العملية ويدعى “أرنون زامورا”.
كرست تلك المجزرة حالة العوار الأخلاقي التي يعاني منها المجتمع الدولي، والتي تتأكد يومًا تلو الآخر، ففي مقابل حالة الاحتفاء الإعلامي والسياسي، الإسرائيلي والغربي، بتلك العملية التي وصفها رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بالبطولية، وباركها الرئيس الأمريكي جو بايدن، هناك حالة من التجاهل والعمى إزاء تلك المجزرة التي سقط فيها عشرات المدنيين الأبرياء من الأطفال والنساء.
يحاول المحتل المأزوم توظيف تلك العملية كـ”قشة الإنقاذ” التي تعيده للحياة مرة أخرى بعد الهزيمة النفسية التي طوقت أركانه وخلخلت توازنه، ورغم ما يعكسه هذا الاحتفاء باستعادة أربعة من 130 أسيرًا بينما الحرب دخلت شهرها التاسع، فإن تفاصيل العملية وكواليسها تعكس حجم الفارق الكبير أخلاقيًا وسياسيًا وعسكريًا بين الاحتلال وحليفه الأمريكي من جانب وحماس وبقية فصائل المقاومة من جانب آخر، وهي المقارنة التي تواصل إسقاط الأقنعة المزيفة عن أسطورة جيش الاحتلال وأخلاقيات نظيره الأمريكي.
إضفاء الشرعية على الجرائم
منذ أن وضع المحتل أهدافه الثلاثة من الحرب بداية انطلاقها (القضاء على حماس – تحرير الأسرى – ضمان ألا يشكل قطاع غزة تهديدًا على الداخل الإسرائيلي) وهو يحاول تبرير كل جرائم الإبادة التي يرتكبها ضد المدنيين من النساء والأطفال والشيوخ بمزاعم حق الدفاع عن النفس والبحث عن المحتجزين أو عناصر المقاومة.
في سبيل تلك المزاعم لم يتوان جيش الاحتلال عن ارتكاب كل الموبقات في علم الإجرام العسكري والإنساني، مستهدفًا المشافي والمدارس ومراكز الإيواء ودور العبادة، مساجد وكنائس، حتى المنشآت الأممية التابعة لوكالة الأونروا وغيرها، مخلفًا عشرات آلاف الشهداء جلهم أطفال ونساء.
وأمام كل مجزرة وقبيل تلقي ردود الفعل الإقليمية والدولية، يستبق الاحتلال الجميع بالإعلان عن تلقيه معلومات استخباراتية عن وجود أسرى أو اختباء عناصر تابعة للمقاومة، حتى تحولت تلك المزاعم إلى شماعات لتبرير جرائمه ضد الإنسانية، ساعده على ذلك قناعة الإدارة الأمريكية بتلك المبررات الواهية والجزم بانتفاء نية ارتكاب الكيان المحتل مجازر بحق المدنيين والعزل من أبناء الشعب الفلسطيني.
وتكرس مجزرة النصيرات حالة العمى والازدواجية تلك، حيث غابت عن الأعين والأذهان وأولويات الإعلام الإسرائيلي والغربي، مشاهد القتل والتنكيل وسقوط أكثر من مائتي شخص وإصابة ضعفهم (كثير منهم حالته حرجة)، فيما بروز المحتل وحليفه الأمريكي مشهد تحرير الأسرى الأربعة، في مفارقة فجة تفضح الرؤية العنصرية في التعاطي مع الأرواح والدماء.
وفي مقابل استعادة أربعة أسرى فقط سقط حتى الآن في تلك الحرب أكثر من 37 ألف شهيد وأضعافهم من المصابين، فيما شُرد نحو مليوني إنسان بعدما هُدم ما يزيد على ثلثي القطاع، بينما يقبع ما يقرب من مليون شخص على قوائم الموت جوعًا في ظل الحصار المطبق المفروض عليهم من الجهات كافة.
وعلقت المقررة الأممية لحقوق الإنسان في فلسطين فرانشيسكا ألبانيز، على تلك المفارقة بقولها إن “إسرائيل استخدمت أسراها لإضفاء الشرعية على قتل الفلسطينيين في غزة وتجويعهم، وفي الوقت نفسه تكثف العنف ضد الفلسطينيين في باقي الأراضي المحتلة”، مضيفة في تغريدة على حسابها على منصة أكس، مساء أمس السبت، أنها تشعر بالارتياح لاستعادة “إسرائيل” 4 من أسراها، لكن ذلك لا ينبغي أن يأتي على حساب قتل ما لا يقل عن 200 فلسطيني، من بينهم أطفال، وإصابة أكثر من 400 آخرين على يد “إسرائيل” وجنود أجانب مزعومين، واستخدامها شاحنة مساعدات كغطاء على نحو غادر خلال العملية.
ووصفت ألبانيز هذه العملية بأنها تمويه إنساني على مستوى آخر، منوهة أنه كان من الممكن أن يتم تحرير كل الأسرى بإبرام صفقة تبادل مع المقاومة، لكن الكيان الإسرائيلي رفض من أجل الاستمرار في تدمير غزة وتدمير الشعب الفلسطيني، لافتة إلى أن هناك “نية واضحة وضوح الشمس لارتكاب إبادة جماعية تحولت إلى فعل”.
جريمة أخلاقية جديدة
دومًا ما كان يتهم الاحتلال المقاومة بأنها تستغل شاحنات المساعدات وسيارات الإسعاف ووكالة الأونروا لنقل عناصرها بداخلها، كذلك توظيفها لنقل الأسلحة الخاصة بها والتي يزعم تهريبها من الجانب المصري عبر معبر رفح والأنفاق الحدودية، واستنادًا إلى تلك الاتهامات كانت تقصف طائرات المحتل تلك السيارات وتسقط العشرات ما بين قتيل وجريح.
ورغم عدم ثبوت أي من تلك التهم حتى اليوم رغم تجاوز الحرب شهرها الثامن، فإن الكيان المحتل لا يتوقف عن هذا المسار الذي يبرر من خلاله انتهاكاته وجرائمه الوحشية التي يستهدف بها المشافي ودور العبادة والأجهزة الطبية والإسعافية ومراكز الإيواء، في ظل تصديق مطلق من الحليف الأمريكي لتلك الروايات الكاذبة.
اليوم وبحسب ما نشرته وسائل إعلام إسرائيلية وشهود عيان فلسطينيين، فإن الفرقة التي شاركت في عملية تخليص الأسرى كانت تختبئ في إحدى شاحنات المساعدات الداخلة للقطاع، وهو ما ساعدها على الدخول بأريحية إلى مخيم النصيرات دون اعتراض أو مقاومة، في جريمة أخلاقية جديدة تُضاف إلى سجل الاحتلال الإجرامي.
وواجهت الفرقة الإسرائيلية المشاركة في تلك العملية مقاومة شرسة رغم دخولها السري غير الأخلاقي، أسفرت عن مقتل قائدها أرنون زامورا، ولولا الدعم الذي تلقته تلك الفرقة من اللواء السابع والأسطول الثالث عشر ودوريات المظلية الإسرائيلية التي شكلت حزامًا ناريًا من القذائف المتتالية لحماية المركبة التي كانت تقل الأسرى، لتغيرت نتائج المعركة ولما استطاع الاحتلال الوصول بأسراه على قيد الحياة على أقل تقدير لا سيما بعدما تعطلت مركبتهم في أثناء السير.
تورط أمريكي
بينما تصدح أصوات الرئيس الأمريكي جو بايدن ووزير خارجيته ومستشاريه بالعمل لأجل التهدئة وإنهاء الحرب والدفع لإدخال المساعدات الإنسانية لإنقاذ المحاصرين من الجوع الفتاك، إذ بالممارسات الواقعية تنسف كل تلك المزاعم شكلًا ومضمونًا، يد تقدم الغذاء وأخرى تقتل الأطفال والنساء، لسان يطالب بالتهدئة وآخر يُشعل الموقف.
ولولا الدعم الأمريكي الشامل، عسكريًا وسياسًا واقتصاديًا، ما كان لجيش الاحتلال ولا حكومته الاستمرار في تلك الحرب في ظل الخسائر الفادحة التي تُكبدها المقاومة لهم ليل نهار، الأمر الذي يجعل الولايات المتحدة شريكًا أساسيًا وضلعًا محوريًا في جرائم الإبادة التي يشنها الاحتلال ضد سكان غزة.
ومنذ اليوم الأول للحرب، وعلى مدار أكثر من 8 أشهر كاملة، كانت أمريكا حاضرة في كل مجزرة يرتكبها جيش الاحتلال، إما بجسر التسليح الذي لا يتوقف لجيش الاحتلال ودعمه بأحدث أنواع الأسلحة الفتاكة، وإما بغض الطرف عن الانتهاكات المرتكبة والادعاء بأنها لا ترقى لمستوى جرائم الحرب، فضلًا عن الدفاع عن ملاحقة الكيان المحتل قضائيًا وسياسيًا أمام المحاكم والمنظمات الدولية.
وفي مجزرة النصيرات الأخيرة التي راح ضحيتها 210 شهداء معظمهم من الأطفال والنساء كانت الولايات المتحدة حاضرة بكل قوة، وهو ما أكدته وسائل إعلام إسرائيلية وأمريكية، حين أشارت إلى مشاركة خلية أمريكية من القوات الخاصة في عملية تخليص الأسرى، واستغلال الرصيف البحري الذي دشنته أمريكا على شواطئ غزة في دعم جيش الاحتلال لوجستيًا وعسكريًا.
وبحسب ما نقلته شبكة “سي إن إن” الأمريكية عن مسؤول أمريكي لم تسمِّه فإنّ “خلية أمريكية في إسرائيل ساهمت في عملية تحرير أربعة رهائن وعملت مع القوات الإسرائيلية في عملية تحريرهم”، وهو ما أكده كذلك موقع “أكسيوس”.
وفي السياق ذاته نقلت صحيفة “نيويورك تايمز” عن خبراء أسلحة أن جيش الاحتلال استخدم في عملياته الأخيرة، ومنها عملية النصيرات، القنابل الأمريكية الموجهة من طراز “جي بي يو-39” (GBU-39) في الغارات الجوية على غزة، وهي القنابل النوعية التي تزن الواحدة منها 250 رطلًا، وتلحق خسائر فادحة وجسيمة بالمدنيين.
عن أي انتصار يتحدثون؟
تكشف الحفاوة التي استقبل بها الوسط الإسرائيلي، السياسي والعسكري، الأسرى الأربعة الذي تم تخليصهم من قبضة المقاومة بعد 246 يومًا من الحرب، فشل خلالها جيش الاحتلال في تحرير أسير واحد على قيد الحياة، عن المأزق الذي يعاني منه نتنياهو وحكومته، والذي دفعه بطبيعة الحال لتسول أي إنجاز ميداني ينعش به الخزينة المعنوية الفارغة للجنود بعدما تملكت منهم روح اليأس والقلق والإحباط من العمليات الميدانية.
ويعلم المنصفون من النخبة الإسرائيلية أن hsjuh]m 4 أسرى من إجمالي قرابة 130 بقبضة حماس بعد 8 أشهر من الحرب التي كُبد فيها جيش الاحتلال خسائر فادحة على المستويات كافة، لا يمكن أن يكون انتصارًا بأي شكل من الأشكال، فهو اعتراف ضمني بالفشل طيلة الأشهر الماضية في مقابل صمود أسطوري يحسب للمقاومة التي نجحت في الاحتفاظ بالأسرى كل هذا الوقت على قيد الحياة رغم التدمير الوحشي والقصف الإجرامي الذي لم يترك مترًا واحدًا في القطاع.
ويعكس هذا الاحتفاء بتلك العملية النوعية والذي تجسد في بيانات وتصريحات المتحدث العسكري لجيش الاحتلال ووزراء حكومة الحرب حالة الهزيمة النفسية التي يعاني منها قادة الاحتلال الباحثين عن أي سبيل للخروج من عنق الزجاجة قبل الوصول إلى مرحلة الاختناق الكامل.
كما أن الصور التي التُقطت للأسرى المخلصين، وحالتهم الصحية والنفسية الجيدة، والتي بدت في ملامحهم وكلامهم، تكشف عن أخلاقيات المقاومة التي حافظت عليهم وتعاملت معهم بأسلوب إنساني راق، مقارنة بالوحشية والإجرام الإسرائيلي في تعامله مع الأسرى الفلسطينيين، المفارقة التي تنسف مزاعم نتنياهو الواهية عن أخلاقيات جيش الاحتلال والتي أسقطت حرب غزة القناع عنها وفضحت عنصريته وإجرامه الحيواني.
وفي الأخير تبقى مجزرة النصيرات شاهدًا جديدًا على إجرام الاحتلال ضد الإنسانية، وازدواجية الولايات المتحدة الفجة، وعوار المجتمع الدولي المأزوم، ووسامًا على صدر المقاومة التي قدمت بصمودها ونضالها صورة أخلاقية مشرفة عن الدفاع الشرعي والأسطوري عن الأرض والعرض في مواجهة محتل غاشم مدعوم من الجميع.