في الوقت الذي تشهد فيه الساحة السياسية السنية مزيدًا من التفكك والانشطار، على خلفية ظاهرة الانشقاقات السياسية التي بدأت تشهدها الخريطة السياسية السنية مؤخرًا، ما زال المجتمع السني في العراق يواجه تحديات مرحلة ما بعد “داعش”، فإلى جانب الصعود الكبير لإيران وحلفائها في العراق، ما زالت العديد من القضايا التي تهم المجتمع السني بانتظار الحل، بدءًا من أزمة النزوح واللجوء إلى أزمة الإخلاء القسري للمناطق والتغيير الديموغرافي، وأزمة فقدان المركزية السياسية في المناطق التي يشكل فيها المجتمع السني أغلبية واضحة، وهو ما وضع المجتمع السني أمام تحديات كبيرة في المرحلة المقبلة.
يمكن القول بأن المجتمع السني لم يكن بأفضل حال قبل إقالة رئيس مجلس النواب العراقي، محمد الحلبوسي، من رئاسة المجلس، إلاّ إن إقالته فتحت الطريق واسعًا أمام مزيد من التفكك الذي تعاني منه الساحة السياسية السنية، إذ يمكن تتبع مسار تصاعد ظاهرة الانشقاقات السياسية السنية في مرحلة ما بعد إقالة الحلبوسي من رئاسة المجلس، لتتضح أهمية المركزية السياسية التي كان يمثلها موقع رئاسة المجلس داخل المجتمع السني، مع ضرورة التأكيد هنا بأن الحلبوسي رغم وجوده في رئاسة المجلس، لم يكن ملتزمًا بقضايا المجتمع السني، والتي شكلت بدورها محور برنامجه الانتخابي، شأنه في ذلك شأن بقية القوى السياسية السنية.
إن نظرة بسيطة لطبيعة التصدع السني حول إمكانية التوافق على شخصية سنية لرئاسة المجلس، خلفًا للحبلوسي، تشير بما لا يقبل الشك إلى أن القوى السياسية السنية تواجه معضلة رئيسية في كيفية التوافق على الاستحقاق السياسي للمكون، مع ضرورة التأكيد بأن هذا الواقع لا يعكس أزمة القوى السياسية السنية فحسب، بقدر ما يعكس إرادة سياسية لتعميق هذا الخلاف السني السني.
والحديث هنا عن دور قوى الإطار التنسيقي، التي ترغب بجعل حالة الخلاف السني – السني حول رئاسة المجلس، فرصة حقيقية لزيادة مكاسبها السياسية في المرحلة المقبلة، فبدعمها عملية التفكك والانشقاق داخل الساحة السياسية السنية، ستتعامل مع قوى ضعيفة ومفككة، ومن ثم دعم النجاح السياسي الذي حققته في الانتخابات المحلية الأخيرة في المناطق السنية، بمزيد من المكاسب في الانتخابات البرلمانية المقبلة.
توالي التصدع السياسي
بعد مضي أقل من شهرين على الانشقاق الذي حدث في الساحة السياسية السنية، عندما أعلن خمسة نواب عن تشكيلهم تحالفًا سياسيًا جديدًا يحمل اسم تحالف “الصدارة”، أعلن 11 نائبًا من تحالف “تقدم” الذي يتزعمة الحلبوسي، انشقاقهم عن التحالف، معلنين تشكيل تحالف سياسي جديد يحمل اسم تحالف “مبادرة”، ليشكل إعلان هذا التحالف ضربة قوية للحلبوسي الذي يطمح في الحفاظ على منصب رئيس البرلمان، من خلال دعمه لترشيح محمود المشهداني، باعتبار أن تحالف “تقدم” يمثل الأغلبية السنية داخل البرلمان العراقي، وهو ما سيجعل هذا الواقع معرضًا للتغيير بعد الانشقاق الأخير.
إعلان بعض نواب تحالف “تقدم” الانشقاق، هو بمثابة انقلاب داخلي على الحلبوسي، فمثل هذه الخطوة كانت متوقعة في ظل الجهود التي تبذلها بعض قوى الإطار التنسيقي لإغراء نواب تحالف “تقدم” للانشقاق عنه، من أجل إضعاف دور الحلبوسي داخل العملية السياسية، فعلى ما يبدو أن القرار داخل الإطار التنسيقي هو إنهاء دور الحلبوسي، وهو مسار كان متوقعًا منذ انسحاب زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، من العملية السياسية، وترك باقي أطراف التحالف الثلاثي، والحديث هنا عن السنة والأكراد، دون خيارات أمام صعود قوى الإطار التنسيقي.
والعلاقات الجيدة التي تجمع بعض القوى السنية، وتحديدًا (العزم والحسم والسيادة) مع قوى الإطار التنسيقي، جعلت قوى الإطار تمارس دورهًا في إظهار هذا التحالف الثلاثي على أنه الممثل الحقيقي للأغلبية السنية، عبر دعم مرشح هذا التحالف، سالم العيساوي، في الانتخابات الأخيرة لاختيار رئيس البرلمان، وكذلك دعم جهود تفكيك تحالف “تقدم” من الداخل، إذ يمكن القول إنه بالوقت الذي ستؤثر فيه مثل هذه الانشقاقات على وضع تحالف “تقدم” داخل العملية السياسية، إلاّ أنها ستعزز من قوة باقي الأطراف السنية داخل الساحة السياسية.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك تحديات كبيرة يواجهها تحالف “تقدم” بالوقت الحاضر، وخشية الحلبوسي تتمثل في إمكانية اتساع مثل هذه الانشقاقات في الأيام المقبلة، فحسب مصادر داخلية بتحالف “تقدم” تتركز الجهود الحالية للحبلوسي على إعادة ترميم ما حصل، والتمسك بالاستحقاق الدستوري لتحالف “تقدم” بمنصب رئيس البرلمان، ومن ثم الاستعداد المبكر للانتخابات البرلمانية المقبلة.
مشيرةً إلى أنه رغم أن ما يحدث يمثل تهديدًا حقيقيًا لمستقبل التحالف والحلبوسي، فإنه من جهة أخرى قد يمثل فرصة لكسب مزيد من الشعبية داخل الشارع السني، فيما لو أحسنت قيادة التحالف توظيف هذه الهجمة، وجعلها جزءًا من المظلومية السنية التي يواجهها الشارع السني اليوم.
ماذا بعد؟
يمثل الإعلان عن تشكيل تحالف سياسي جديد في الساحة السنية، والحديث هنا عن تحالف “مبادرة”، أحد أبرز حالات التشرذم الذي تعاني منه الساحة السياسية السنية، وتحديدًا بعد الإطاحة بالحلبوسي من رئاسة البرلمان، فغياب المركزية السنية التي كان يمثلها الحلبوسي في أثناء وجوده بمنصب رئيس البرلمان، شجعت الكثير من الشخصيات السياسية السنية على التحرر من قبضته السياسية.
وهو ما أحسنت قوى الإطار التنسيقي توظيفه، فهي إلى جانب نجاحها في إبعاد الحلبوسي عن رئاسة البرلمان، شجعت على الانشقاقات المستمرة داخل الساحة السنية، كي يسهل عليها التعامل مع قوى ضعيفة ومشتتة، وليس لها ثقل برلماني حقيقي، وهو ما برز واضحًا في جلسة اختيار رئيس جديد للبرلمان نهاية الشهر الماضي.
إن المستقبل السياسي لتحالف “تقدم” ومن بعده الحلبوسي أصبح على المحك، خصوصًا بعد توالي الضربات التي تعرض لها، في مقابل صعود سياسي لقوى سنية أخرى، والحديث هنا عن السيد خميس الخنجر رئيس تحالف “السيادة”، والسيد مثنى السامرائي رئيس تحالف “عزم”، والسيد ثابت العباسي رئيس تحالف “حسم”، وهي قيادات لا تحظى بعلاقات جيدة مع قيادات الإطار التنسيقي فحسب، بل بعلاقات إقليمية متميزة أيضًا، وتحديدًا تركيا وإيران.
وهو ما يجعلها أمام فرصة لملء الفراغ الذي سيخلفه الحلبوسي وتحالف “تقدم”، فيما لو تم توسيع هذا الفراغ في الفترة المقبلة، فرغم ما حدث، منذ إقالة الحلبوسي وحتى انشقاق بعض النواب من تحالف “تقدم” وإعلان تشكيل تحالف “مبادرة”، ما زال الحلبوسي يملك فرصة للبقاء وإعادة ترميم ما حصل، لكن مثل هذه العودة متوقفة على تماسك ما تبقى من تحالف “تقدم”، والأوراق التي من الممكن أن يلعبها الحلبوسي في الفترة المقبلة.