في مشهد يعيد الأجواء إلى مارس 2015 خرج الرئيسان المصري عبد الفتاح السيسي، والسوداني عمر البشير، ورئيس الوزراء الإثيوبي هايلي ماريام ديسالين، لإعلان التوصل إلى اتفاق مرضي لجميع الأطراف بشأن سد النهضة، وذلك عقب جلسة مباحثات جمعت أطراف الأزمة على هامش حضورهم قمة الاتحاد الإفريقي التي عقدت في أديس أبابا مؤخرًا.
الاتفاق المزمع التوصل إليه بين القادة الثلاث وإن لم يتم الإفصاح عن تفاصيله، غير أن تسريبات لبعض بنوده خرجت لوسائل الإعلام أثارت حالة من الجدل داخل الشارع المصري على وجه الخصوص، بين من يراها نقلة إيجابية تتماشى مع تطمينات السيسي بأنه لا أزمة من الأساس، وآخرون رأوها انتكاسة جديدة تحمل تهديدًا لمستقبل مصر المائي لا سيما خلال السنوات الثلاثة القادمة حتى امتلاء خزان السد.
السيسي يطمئن بلا ضمانات واضحة
“لا توجد أزمة من الأساس بخصوص سد النهضة بين مصر والسودان وإثيوبيا”، بهذا التصريح الذي يعد الأول من نوعه، أراد السيسي أن يبعث برسالة طمأنة للمصريين عقب اجتماعه مع طرفي الأزمة في أديس أبابا، مضيفًا “أنا أطمئن جميع المواطنين في الدول الثلاثة على حسن العلاقات والتعاون، فنحن نتحدث كدولة واحدة وكصوت واحد، وسد النهضة لن يترتب عليه أي ضرر لمواطني أي دولة فيما يتعلق بقضية المياه”.
تصريحات اعتبرتها وسائل الإعلام المصرية انتصارًا لمسار التفاوض المتعثر بشأن سد النهضة، ورغم أن الرئيس المصري لم يفصح عما دار في الاجتماع ولا إلى ما تم الاتفاق عليه، غير أن الأذرع الإعلامية التي كانت ترافق السيسي في زيارته تعاملت مع تلك التصريحات من باب “كلمة شرف” دون حاجة إلى التفاصيل.
السيسي والبشير وديسالين ظهروا أمام كاميرات وسائل الإعلام التي انتظرتهم خارج قاعة الاجتماعات، وهم متشابكو الأيدي في إشارة إلى الروح الودية التي سادت عملية المفاوضات، ليخرج بعدها وزير الخارجية المصري سامح شكري، معلنًا أنه تم الاتفاق خلال القمة الثلاثية على الانتهاء من الدراسات الفنية الخاصة بسد النهضة خلال شهر واحد.
يذكر أن هذه القمة هي الأولى منذ إعلان القاهرة تجميد مفاوضات سد النهضة، في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، لرفضها تعديلات أديس أبابا والخرطوم على دراسات المكتب الاستشاري الفرنسي بشأن أعمال ملء السد وتشغيله.
https://www.youtube.com/watch?v=nwhD–U-nos
القاهرة تتراجع
القمة الثلاثية في أديس أبابا جاءت بعد أيام قليلة من قمة ثنائية جمعت بين السيسي وديسالين في القاهرة في 18 من يناير/كانون الأول الحاليّ التي أسفرت عن تعهدات شفهية من رئيس الوزراء الإثيوبي بعدم الإضرار بالمصالح المصرية، من دون أي حراك واقعي على الأرض.
المسؤولان حينها اكتفيا بإعلان تفاؤلهما بشأن مستقبل العملية التفاوضية وطمأنة كلا الشعبين بعدم الإضرار بأي منهما، غير أن القاهرة اقترحت حينها مشاركة البنك الدولي كوسيط في مفاوضات السد، والاتفاق على حل جميع القضايا الفنية الخاصة بالسد خلال شهر، وهو ذات الاقتراح الذي ألمح إليه الجانب المصري في ديسمير/كانون الأول الماضي.
ولكن عقب مغادرة ديسالين القاهرة فوجئ المصريون برفضه لهذا المقترح وهو ما أكدت عليه الخرطوم أيضًا، ومع ذلك تراجعت مصر عن هذا الطلب خلال قمة أديس أبابا، وهو ما جاء على لسان وزير خارجيتها بأنه “لا وسيط ” في المفاوضات، واستمرار عمل اللجنة الثلاثية المشكلة من أطراف الأزمة.
التنازل عن 15% من حصة مصر
لم تفصح القاهرة عن تفاصيل الاتفاق الجديد الموقع مع أديس أبابا والخرطوم غير أن بعض المقربين من دوائر صنع القرار كشفوا النقاب عن بعض البنود التي تضمنها هذا الاتفاق، كما جاء على لسان السفير صلاح حليمة نائب رئيس المجلس المصري للشؤون الإفريقية في تصريحات صحفية له نقلتها صحيفة “البوابة نيوز” الموالية للنظام الحاكم.
حليمة كشف أن الاتفاق نص على أن إثيوبيا ستخزن 15 مليار متر مكعب من المياه سنويًا في سد النهضة، مما يتطلب تنازل السودان عن 7.5 مليار متر مكعب، ومصر عن 7.5 مليار متر مكعب (15% من حصتها) لمدة ثلاث سنوات، وهذه المياه التي كان سيزرع بها الأرز، لذلك سيقوم البنك الدولي بتعويض مصر عن هذه المياه، وستدفع إثيوبيا ثمن ذلك من كهرباء سد النهضة بعد ذلك.
وأضاف نائب رئيس المجلس المصري للشؤون الإفريقية أنه وبعد مرور السنوات الثلاثة ستزيد حصة مصر من مياه النهر إلى 59 مليار متر مكعب، وإذا حدث أي ضرر جسيم في حصة مصر ستقوم إثيوبيا بتعويضه، دون تفاصيل ذلك أو حتى ضمانات التزام الطرف الآخر به.
في 2015 أعطت القاهرة الشرعية الدولية والقانونية لبناء السد الذي ظل محل سجال طيلة عقود ماضية، مما مهد الطريق أمام إثيوبيا للحصول على التمويل والدعم الدولي لبنائه
تباين في الآراء
انقسم الشارع المصري حيال ما تم تسريبه من بنود أولية للاتفاق الجديد إلى قسمين:
الأول: فريق يرى أن ما حدث نقلة نوعية في كسر جمود المفاوضات تحسب للدبلوماسية المصرية، خاصة مع اعتراف إثيوبيا بحصة مصر الـ55.5 مليار متر مكعب سنويًا التي طالما اعترضت عليها قبل ذلك، كذلك ما لفت إليه البعض بأن الاتفاق بين القاهرة والخرطوم قد يتيح لمصر استكمال مشروع قناه جونجلي – جنوب السودان – بتمويل الدول الثلاثة وتقاسم المياه التي سيتم توفيرها (3.5 مليار متر لكل دولة).
هذا الفريق يستند في موقفه على ما يثار بشأن اعتماد عدد من المشروعات البديلة لتقليل حجم التأثر بهذا الفاقد من المياه على رأسها مشروعات تحلية المياه ومعالجة مياه الصرف الصحي وغير ذلك من التحركات التي تلجأ إليها السلطات المصرية لطمأنة الشعب المصري وامتصاص غضبه جراء الفشل في إثناء أديس أبابا عن بناء السد.
الثاني: فريق يرى أن ما حدث بمثابة كارثة جديدة تضاف لإخفاقات مصر في مسار تفاوضها بخصوص السد، مما يهدد مستقبلها المائي ويعرض مواطنيها لسنوات من القحط والعطش والجوع في آن واحد.
فالاتفاق يقتضي أن تتنازل مصر عن 15% من حصتها لمدة 3 سنوات كاملة، هذه النسبة كانت المخصصة لزراعة الأرز، مما يعني – وفق تفسيرات بعض الخبراء – امتناع الجانب المصري عن زراعة محصول الأرز (الأكثر استخدامًا من المصريين) لمدة 3 سنوات كاملة، ليبقى السؤال: من أين تعوض مصر هذا الفاقد من حصتها من المياه؟ كذلك من أين ستوفر محصول الأرز خلال السنوات الثلاثة المتفق عليها؟
نظرًا لعدم وجود تفاصيل كافية لتفسير بنود الاتفاق وفروعها، تكون القراءة في ضوء ما تم تسريبه وفقط من معلومات، تلك التي تشير إلى قيام البنك الدولي بتعويض مصر عن هذه المياه، دون تحديد كيفية ذلك، وهل سيكون في صورة قروض أم منح؟ وهل يعد ذلك تهديدًا لأمن مصر الزراعي حين يتم منع زراعة أحد أبرز المحاصيل المصرية؟
خبير الموارد المائية نادر نور الدين، حذر من التماشي مع إثيوبيا في هذا المسار الذي من المقرر أن يفرزه الاتفاق الجديد، لافتًا إلى أنه بعد 3 سنوات من توقف زراعة الأرز تخرج كل أراضي شمال الدلتا (1.5 مليون فدان) عن الإنتاجية وتصبح أراضي بور عالية الملوحة ولن يمكن إعادة استصلاحها!
أما فيما يتعلق بمسألة تسديد إثيوبيا لمصر ثمن الأرز من عائد بيع الكهرباء، تحدى البروفيسور الإثيوبي الأمريكي أسفو بينيني، لو أنتج سد النهضة ثلث كمية الكهرباء المعلنة، واصفًا ما تروج له أديس أبابا بأنه “نصب على دول الجوار”، كما نقل عنه خبير الموارد المائية.
شبح اتفاق المبادئ 2015 يطارد المصريين
بين 2015 و2018
نفس الصورة تقريبًا، وذات تشابك الأيدي، ورسائل الطمأنة الثلاثية، تلك التي خرج عليها مشهد القادة الثلاث عقب انتهاء اجتماعهم في أديس أبابا قبل يومين، هي نفسها الصورة الشهيرة التي التقطت لهم في الخرطوم، مارس/آذار 2015، حين تم التوقيع على اتفاق المبادئ.
ففي 2015 أعطت القاهرة الشرعية الدولية والقانونية لبناء السد الذي ظل محل سجال طيلة عقود ماضية، مما مهد الطريق أمام إثيوبيا للحصول على التمويل والدعم الدولي لبنائه، إضافة إلى إنهائه صلاحية اتفاقية 1902 المبرمة بين الدولة المصرية والإمبراطورية الإثيوبية التي كانت تحفظ حقوق مصر في مياه النيل وتمنع أي تعدٍ على حصتها.
تطمينات أديس أبابا حينها وتعهداتها للقاهرة لم تتجاوز الكلمات التي كتبت أو قيلت بها، واستمرت إثيوبيا في بناء السد دون مراعاة لتحفظات الجانب المصري وشروطة الفنية، ومع ذلك ها هي القاهرة تكرر نفس المشهد في 2018 حين أعطت الجانب الإثيوبي الحق في احتجاز 7.5 مليار متر مكعب من حصة مصر لمدة 3 سنوات بهدف بناء خزان السد رغم ما يعانيه المصريون في الأساس من عجز مائي نتيجة زيادة معدلات الاستهلاك.
الاتفاق نص على أن إثيوبيا ستخزن 15 مليار متر مكعب من المياه سنويًا في سد النهضة، مما يتطلب تنازل السودان عن 7.5 مليار متر مكعب، ومصر عن 7.5 مليار متر مكعب (15% من حصتها) لمدة ثلاث سنوات
تساؤلات عدة طرحها العديد من الخبراء عن الضمانات التي فرضتها مصر على الجانب الإثيوبي لإلزامه بما نص عليه الاتفاق، وما الذي يضمن للمصريين أنه بعد مرور 3 سنوات وبعد تنازل مصر عن 15% من حصتها أن تفرج أديس أبابا عن هذه النسبة مرة أخرى فضلاً عن زيادتها؟ وما المقابل الذي ستحصل عليه القاهرة نظير هذا التنازل إن كان هناك من يشكك في قدرة السد على إنتاج كمية الكهرباء المطلوبة للوفاء بهذا الالتزام؟
ورغم كل هذا وبينما تعزف القاهرة بإعلامها على أنغام الانتصار الدبلوماسي الذي حققته بالاتفاق الأخير بعد ما يزيد على 17 جولة مفاوضات فاشلة، تواصل إثيوبيا بناءها للسد دون توقف، إضافة إلى ذلك فقد ضمنت موافقة الجانب المصري على تقليص حصته لأجل ملء خزان السد، بعد أن حصلت على اعتراف شرعي قانوني به من خلال اتفاق 2015.