ترجمة وتحرير نون بوست
عندما سحب أرييل شارون أكثر من ثمانية آلاف مستوطن يهودي من قطاع غزة في سنة 2005، كان هدفه الرئيسي هو تعزيز استعمار “إسرائيل” للضفة الغربية؛ حيث بدأ عدد المستوطنين يتزايد على الفور. لكن كان لـ “فك الارتباط” غرض آخر: تمكين سلاح الجو الإسرائيلي من قصف غزة متى شاءت “إسرائيل”، وهو شيء لم يكن بإمكانهم القيام به عندما كان المستوطنون الإسرائيليون يعيشون هناك.
ويبدو أن الفلسطينيين في الضفة الغربية كانوا محظوظين بشكل مروع، فهم محاصرون بالمستوطنين المصممين على سرقة أراضيهم – ولا يترددون على الإطلاق في استخدام العنف خلال هذه العملية – لكن الوجود اليهودي في أراضيهم جنبهم القصف والدمار الشامل الذي تنفذه “إسرائيل” في سكان غزة كل بضع سنوات.
وتصف الحكومة الإسرائيلية هذه الحلقات من العقاب الجماعي بـ”جز العشب”. ففي السنوات الخمس عشرة الماضية؛ شنت خمس هجمات على القطاع. وكانت الهجمات الأربع الأولى وحشية وقاسية، كما هو الحال دائمًا في عمليات مكافحة التمردات الاستعمارية؛ حيث قتلت الآلاف من المدنيين انتقامًا من إطلاق حماس الصواريخ وأخذ الرهائن.
لكن العملية الأخيرة، عملية السيوف الحديدية، التي انطلقت في 7 تشرين الأول/ أكتوبر ردًا على الغارة القاتلة التي شنتها حماس في جنوب “إسرائيل”، تختلف نوعيًا وليس فقط كميًا. فخلال الأشهر الثمانية الماضية؛ قتلت “إسرائيل” أكثر من 36,000 فلسطيني، ولا يزال هناك عدد لا يحصى تحت الأنقاض، وسيموت المزيد منهم بسبب الجوع والمرض.
وأصيب ثمانون ألف فلسطيني، والكثير منهم أصيبوا بإعاقات مستديمة. ويشكل الأطفال الذين قُتل والداهم – أو جميع أفراد أسرهم – فئة سكانية جديدة. ولقد دمرت “إسرائيل” البنية التحتية السكنية في غزة، ومستشفياتها وجميع جامعاتها. وتم تهجير معظم سكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، بعضهم نزح مرارًا وتكرارًا، وكثيرون فروا إلى مناطق “آمنة” ليتم قصفهم هناك. ولم ينجُ أحد: فقد قُتل عمال الإغاثة والصحفيون والممرضون بأعداد قياسية.
ومع ارتفاع مستويات المجاعة؛ خلقت “إسرائيل” عقبة تلو الأخرى أمام توفير الغذاء، في الوقت الذي تصر فيه على أن جيشها هو “الأكثر أخلاقية” في العالم.
إن الصور القادمة من غزة – المتاحة على نطاق واسع على تيك توك، والتي حاول مؤيدو “إسرائيل” في الولايات المتحدة حظرها – وعلى الجزيرة – التي أغلقت الحكومة الإسرائيلية مكتبها في القدس – تروي قصة مختلفة؛ قصة الفلسطينيين الجائعين الذين قُتلوا أمام شاحنات الإغاثة في شارع الرشيد في شباط/ فبراير، وسكان الخيام في رفح الذين احترقوا أحياء في الغارات الجوية الإسرائيلية، وصور النساء والأطفال الذين يعيشون على 245 سعرًا حراريًا في اليوم، وهذا ما يصفه بنيامين نتنياهو بأنه “انتصار الحضارة اليهودية-المسيحية ضد البربرية”.
يسبق العنف الإبادي أشكال أخرى من الاضطهاد، التي تهدف إلى جعل الضحايا بائسين قدر الإمكان، بما في ذلك النهب، والجيتوات، والتطهير العرقي وتجريدهم من إنسانيتهم بالعنصرية
لقد غيرت العملية العسكرية في غزة من شكل – وربما حتى معنى – الصراع في فلسطين؛ حيث يبدو أنه من المضلل – بل والمسيء – الإشارة إلى “صراع” بين شعبين بعد أن قام أحدهما بذبح الآخر بهذه الأعداد المذهلة. وينعكس حجم الدمار في المصطلحات المستخدمة: “إبادة المنازل” لتدمير المساكن؛ و”إبادة التعليم” لتدمير نظام التعليم بما في ذلك معلميه (تم قتل 95 أستاذًا جامعيًا)؛ و”إبادة البيئة” لتدمير الزراعة والمناظر الطبيعية في غزة.
وتصف سارة روي، الخبيرة الرائدة في شؤون غزة وهي نفسها ابنة أحد الناجين من المحرقة، هذه العملية بأنها “إبادة اقتصادية”، أي “التدمير الشامل للاقتصاد وأجزائه المكونة له”، وهو “الامتداد المنطقي”، كما تكتب، لعملية “إلغاء التنمية” المتعمدة من قبل “إسرائيل” لاقتصاد غزة منذ سنة 1967.
ولكن لنستخدم لغة اتفاقية الأمم المتحدة لسنة 1948؛ فهناك مصطلح أقدم لوصف “الأعمال المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لمجموعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية”، وهذا المصطلح هو الإبادة الجماعية؛ فهناك إجماع متزايد بين الحقوقيين الدوليين وخبراء حقوق الإنسان على أن “إسرائيل” قد ارتكبت إبادة جماعية – أو على الأقل أعمال إبادة جماعية – في غزة. وهذا هو رأي ليس فقط الهيئات الدولية، ولكن أيضًا الخبراء الذين لديهم سجل من التحفظ – بل في الواقع سجل من الحذر الشديد – عندما يتعلق الأمر ب”إسرائيل”، لا سيما أرييه نيير، أحد مؤسسي هيومن رايتس ووتش.
إن تهمة الإبادة الجماعية ليست جديدة بين الفلسطينيين، فأتذكر سماعها عندما كنت في بيروت سنة 2002، خلال هجوم “إسرائيل” على مخيم جنين للاجئين، وكنت أعتقد حينها أنها حصار قاسٍ لا يرحم. وكان استخدام كلمة “إبادة جماعية” يبدو لي آنذاك نموذجًا للتهويل الخطابي في نقاشات السياسة في الشرق الأوسط، باعتبارها أحد أعراض المنافسة المريرة والقبيحة على الضحية في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
وكانت اللعبة موجهة ضد الفلسطينيين بسبب تاريخ مضطهديهم: لقد منح تدمير اليهود الأوروبيين الدولة اليهودية الفتية رأس مال أخلاقي في أعين القوى الغربية. وبدت مطالبة الفلسطينيين بتطبيق وصف الإبادة الجماعية – لما حدث معهم – كأنها محاولة لمعادلة الكفة، وهو شيء لا يمكن لكلمات مثل “الاحتلال” وحتى “الفصل العنصري” أن تحققه.
هذه المرة الأمر مختلف؛ ليس فقط بسبب القتل العشوائي لآلاف النساء والأطفال، ولكن لأن حجم الدمار جعل الحياة نفسها شبه مستحيلة لأولئك الذين نجوا من قصف “إسرائيل”.
لقد أشتعلت هذه الحرب بعد هجوم حماس غير المسبوق، لكن الرغبة في إلحاق المعاناة بغزة، وليس فقط بحماس، لم تنشأ في 7 تشرين الأول/ أكتوبر. هذا هو قول غلعاد، ابن أرييل شارون، في سنة 2012: “نحن بحاجة إلى تسوية أحياء كاملة في غزة؛ بل تسوية كل غزة. فالأمريكيون لم يتوقفوا عند هيروشيما – واليابانيون لم يستسلموا بسرعة كافية، لذا ضربوا ناغازاكي أيضًا. لا ينبغي أن يكون هناك كهرباء في غزة، ولا بنزين أو مركبات متحركة، ولا شيء”. واليوم، يبدو هذا وكأنه نبوءة.
غالبًا ما يسبق العنف الإبادي أشكال أخرى من الاضطهاد، التي تهدف إلى جعل الضحايا بائسين قدر الإمكان، بما في ذلك النهب، وحرمانهم من الحقوق المدنية، والجيتوات، والتطهير العرقي وتجريدهم من إنسانيتهم بالعنصرية.
جميع هذه الأشكال كانت جزءًا من علاقة “إسرائيل” بالشعب الفلسطيني منذ تأسيسها. ما يدفع الاضطهاد إلى الانزلاق نحو القتل الجماعي غالبًا ما يكون الحرب، خصوصًا الحرب التي تُعَرِّف بأنها معركة وجودية من أجل البقاء؛ كما رأينا في الحرب على غزة. إن تصريحات قادة “إسرائيل” (وزير الدفاع، يوآف غالانت: “نحن نحارب حيوانات بشرية، وسنتصرف بناءً على ذلك”، والرئيس إسحاق هرتسوغ: “إنها أمة بأكملها تتحمل المسؤولية”) لم تخفِ نواياهم بل قدمت دليلًا دقيقًا. وكشفت صور السيلفي البهيجة التي التقطها الجنود الإسرائيليون وسط خراب غزة أيضًا أن تدميرها كان مصدرًا للمتعة بالنسبة للبعض على الأقل.
قد تكون أساليب “إسرائيل” تشبه بشكل أقرب أساليب الفرنسيين في الجزائر، أو نظام الأسد في سوريا، أكثر من أساليب النازيين في تريبلينكا أو مرتكبي الإبادة الجماعية الهوتو في رواندا، لكن هذا لا يعني أنها لا تشكل إبادة جماعية. ولا يعني ذلك أن “إسرائيل” قد قتلت “فقط” جزءًا من سكان غزة. فما الذي يتبقى لأولئك الذين ينجون؟ حياة بائسة، كما يسميها جورجيو أغامبين: وجود مهدد بالجوع والفقر والتهديد المستمر بالغارة الجوية التالية (أو “الحادث المأساوي”، كما وصف نتنياهو حرق 45 مدنيًا في رفح).
ليس من المستغرب أن الإسرائيليين قد فسروا 7 تشرين الأول/ أكتوبر كتكملة للهولوكوست، أو أن قادتهم شجعوا هذا التفسير: فكلاهما يلتزمان بقراءة لاهوتية للتاريخ قائمة على التكرار الأسطوري
قد يجادل مؤيدو “إسرائيل” بأن هذه ليست محرقة، لكن الاعتقاد بأن أفضل طريقة لتكريم ذكرى الذين ماتوا في أوشفيتز هي التغاضي عن القتل الجماعي للفلسطينيين لكي يشعر اليهود الإسرائيليون بالأمان مرة أخرى هو واحد من الانحرافات الأخلاقية الكبرى في عصرنا.
في “إسرائيل”؛ يصل هذا الاعتقاد إلى مستوى العقيدة. قد يكون نتنياهو محتَقَرًا من قبل نصف السكان، ولكن حربه على غزة ليست كذلك، ووفقًا لاستطلاعات الرأي الأخيرة؛ فإن الأغلبية الكبيرة من الإسرائيليين يعتقدون إما أن رده كان مناسبًا أو أنه لم يكن كافيًا. وهم غير قادرين أو غير راغبين في النظر إلى ما وراء فظائع 7 تشرين الأول/ أكتوبر، ويرى معظم اليهود الإسرائيليين أنفسهم أن لديهم كل الحق في شن الحرب حتى تدمير حماس، حتى – أو بالأحرى خاصة – إذا كان هذا يعني التدمير الكامل لغزة.
إنهم يرفضون فكرة أن سلوك “إسرائيل” نفسه – خنق غزة، واستعمار الضفة الغربية، واستخدام الفصل العنصري، والاستفزازات في المسجد الأقصى، والإنكار المستمر لتقرير المصير الفلسطيني – قد يكون أدى إلى غضب 7 تشرين الأول/ أكتوبر. وبدلاً من ذلك؛ يصرون على أنهم مرة أخرى ضحايا معاداة السامية من قبل لـ”العماليق”، الأمة العدوة للإسرائيليين.
إن عدم قدرة الإسرائيليين على رؤية أو رفضهم لرؤية مسؤوليتهم في أحداث 7 تشرين الأول/ أكتوبر هو شهادة على مخاوفهم ورعبهم الذي ورثوه عن أجدادهم، التي أُعيد إشعالها بالمجازر، لكنه يكشف أيضًا إلى أي مدى يعيش اليهود الإسرائيليون في ما أسماه جان دانيال “السجن اليهودي”.
وكانت الطموحات الأصلية للحركة الصهيونية تهدف إلى تحويل اليهود إلى فاعلين تاريخيين: سياديين، شرعيين، يتمتعون بحس القوة والفاعلية. ولكن ميل اليهود الإسرائيليين إلى رؤية أنفسهم كضحية أبدية، بجانب عادات أخرى من الشتات، كانت أقوى من الصهيونية نفسها، ووجد قادة “إسرائيل” في هذا الانعكاس درعًا أيديولوجيًّا قويًّا ومصدرًا للتماسك.
وليس من المستغرب أن الإسرائيليين قد فسروا 7 تشرين الأول/ أكتوبر كتكملة للهولوكوست، أو أن قادتهم شجعوا هذا التفسير: فكلاهما يلتزمان بقراءة لاهوتية للتاريخ قائمة على التكرار الأسطوري؛ حيث يُفهم أي عنف ضد اليهود – بغض النظر عن السياق – ضمن استمرارية الاضطهاد؛ فهم غير قادرين على التمييز بين العنف ضد اليهود كيهود، والعنف ضد اليهود فيما يتعلق بممارسات الدولة اليهودية. (بشكل مثير للسخرية، تجعل هذه الرؤية للتاريخ القتل المنظم في الهولوكوست أقل تميزًا، لأنه يظهر ببساطة وكأنه مذبحة كبيرة).
ما يعنيه هذا، في الممارسة العملية، هو أن أي شخص ينتقد “إسرائيل” لسياساتها قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر، أو لمجازرها في غزة، يمكن اعتباره معاديًا للسامية، وصديقًا لحماس وإيران وحزب الله، أو من العماليق.
اليوم؛ يتم الدفاع علنًا في “إسرائيل” عن كارثة 1948 باعتبارها ضرورة، ويُنظر إليها كمشروع غير مكتمل، بل وبطولي
ويعني ذلك أيضًا أن أي شيء تقريبًا يصبح مبررًا في ساحة المعركة؛ حيث يتزايد عدد الجنود في الوحدات القتالية من المستوطنين المتطرفين. وليس من غير المألوف أن تسمع اليهود الإسرائيليين يدافعون عن قتل الأطفال؛ حيث إنهم سيكبرون ليصبحوا إرهابيين (وهو نفس الحجة التي يستخدمها بعض الفلسطينيين بأن قتل طفل يهودي إسرائيلي يعني قتل جندي مستقبلي في الجيش الإسرائيلي). السؤال هو: كم عدد الأطفال الفلسطينيين الذين يجب أن يموتوا قبل أن يشعر الإسرائيليون بالأمان؛ أو ما إذا كان اليهود الإسرائيليون يعتبرون إزالة السكان الفلسطينيين شرطًا ضروريًا لأمنهم.
إن فكرة “التهجير” الصهيونية – طرد السكان العرب – أقدم من “إسرائيل” نفسها، فقد تبناها كل من بن غوريون وخصمه فلاديمير جابوتنسكي، الصهيوني التصحيحي الذي كان معلمًا لوالد نتنياهو، وأدت مباشرة إلى عمليات الطرد خلال حرب 1948. لكن حتى الثمانينيات وصعود المؤرخين الجدد، نفت “إسرائيل” بشدة أنها ارتكبت تطهيرًا عرقيًا، مدعية أن الفلسطينيين قد غادروا أو “فروا” لأن الجيوش العربية الغازية شجعتهم على ذلك.
وعندما كانت تُستدعى أحداث طرد الفلسطينيين وتدمير قراهم؛ كما في رواية إس. يزهار القصيرة “خربة خيزعة” سنة 1949 وقصة أ.ب. يهوشواع “في مواجهة الغابات” سنة 1963، كان ذلك مع شعور بالأسى وتبرير محمل بالذنب. لكن – كما يشير الصحفي الفرنسي سيلفان سيبيل في كتابه “دولة إسرائيل ضد اليهود” – فإن “العار السري الكامن وراء الإنكار” قد تلاشى.
اليوم؛ يتم الدفاع علنًا في “إسرائيل” عن كارثة 1948 باعتبارها ضرورة، ويُنظر إليها كمشروع غير مكتمل، بل وبطولي. بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية، وإيتمار بن غفير، وزير الأمن الوطني، كلاهما مدافعان بلا خجل عن التهجير.
ما نشهده في غزة هو شيء أكثر من الفصل الأكثر دموية في تاريخ “إسرائيل” وفلسطين: إنه تتويج لنكبة 1948 وتحول “إسرائيل” – الدولة التي كانت في يوم من الأيام ملاذًا للناجين من معسكرات الموت – إلى دولة مذنبة بالإبادة الجماعية.
كتب لينين: “هناك عقود لا يحدث فيها شيء، وهناك أسابيع تحدث فيها عقود”. لقد شهدت الأشهر الثمانية الماضية تسارعًا غير عادي في الحرب الطويلة التي تشنها “إسرائيل” ضد الفلسطينيين. فهل كان يمكن أن تكون تاريخ الصهيونية مختلفًا؟ بنيامين نتنياهو رجل ضحل ذو خيال محدود، مدفوع إلى حد كبير بشهيته للسلطة ورغبته في تجنب الإدانة بالاحتيال والرشوة (محاكمته جارية بشكل متقطع منذ أوائل سنة 2020).
لكنه أيضًا أطول رئيس وزراء خدم في تاريخ “إسرائيل”، وأيديولوجيته التوسعية والعنصرية هي السائدة في “إسرائيل”. وكانت “إسرائيل” دائمًا إيثنوقراطية قائمة على امتياز اليهود، وقد أصبحت تحت إدارته دولة قومية رجعية، وبلدًا ينتمي الآن رسميًا بشكل حصري إلى مواطنيه اليهود.
أو كما جاء في قانون الدولة القومية لسنة 2018، الذي يكرس التفوق اليهودي: “الحق في ممارسة تقرير المصير الوطني في دولة إسرائيل هو حق حصري للشعب اليهودي”، ولهذا فليس من المستغرب أن يعلن الفلسطينيون ومؤيدوهم: “فلسطين ستكون حرة من النهر إلى البحر”. وما يسمعه العديد من الصهاينة كدعوة للتطهير العرقي أو الإبادة الجماعية هو، بالنسبة لمعظم الفلسطينيين؛ هو في الحقيقة دعوة لإنهاء التفوق اليهودي على كامل الأرض، وإنهاء لحالة عدم الحرية التامة.
وليس من المستغرب أن تصبح كلمة “صهيوني” لدى اليسار الطلابي؛ صفة لوصف أولئك الذين يعارضون الحقوق المتساوية والحرية للفلسطينيين، أو الذين – حتى لو ادعوا تأييد فكرة دولة فلسطينية – يستمرون في الاعتقاد بأن رغبات اليهود الإسرائيليين – بفضل اضطهاد أسلافهم في أوروبا – تفوق رغبات العرب الأصليين في فلسطين.
ولكن – كما يذكرنا شلومو ساند في كتابه “شعبين لدولة واحدة؟” – كانت هناك صهيونية أخرى معارضة؛ وهي “الصهيونية الثقافية” التي دعت إلى إنشاء دولة ثنائية القومية قائمة على التعاون العربي-اليهودي، والتي ضمت بين أعضائها أحاد هعام، ويهودا ماغنيس، ومارتن بوبر وهانا آرندت.
وفي سنة 1907؛ اتَّهم الصهيوني الثقافي يتسحاق إبشتاين الحركة الصهيونية بأنها نسيت “تفصيلًا صغيرًا: أن هناك في أرضنا المحبوبة شعبًا كاملًا مرتبطًا بها منذ مئات السنين ولم يفكر أبدًا في مغادرتها”. لقد تصور إبشتاين وحلفاؤه – الذين أسسوا بريت شالوم، “التحالف من أجل السلام” في سنة 1925 – صهيون كمكان للنهضة الثقافية والروحية.
وحذروا من أن أي محاولة لإنشاء دولة يهودية حصريًا ستجعل الصهيونية تتحول إلى حركة استعمارية كلاسيكية وتؤدي إلى حرب دائمة مع العرب الفلسطينيين. وبعد أعمال الشغب العربية سنة 1929؛ ندد سكرتير بريت شالوم، هانز كون، بالحركة الصهيونية الرسمية لتبنيها “موقف الضحايا الجرحى” ولتجنبها “أقل نقاش مع الناس الذين يعيشون في هذا البلد. لقد اعتمدنا تمامًا على قوة السلطة البريطانية. لقد وضعنا لأنفسنا أهدافًا كان من المحتم أن تتدهور إلى صراع”.
لكن هذا لم يكن حادثًا: كان الصراع مع العرب ضروريًا للتيار الرئيسي للصهيونية. وبالنسبة لمناصري “الصهيونية القوية”، كما جادل أمنون راز-كراكوتزكين؛ فإن إنشاء دولة يهودية في فلسطين سيسمح لليهود ليس فقط بتحقيق “إنهاء المنفى” ولكن أيضًا – وبشكل متناقض – بإعادة اختراع أنفسهم كمواطنين في الغرب الأبيض، أو وفقًا لكلمات هرتزل؛ كـ”حصن لأوروبا ضد آسيا”.
وكانت رؤية بريت شالوم للمصالحة والتعاون مع السكان الأصليين غير قابلة للتفكير لمعظم الصهاينة، لأنهم اعتبروا العرب في فلسطين متطفلين على أرض يهودية مقدسة. وكما قال بن غوريون: “لا نريد أن يكون الإسرائيليون عربًا. إنه واجبنا أن نحارب العقلية المشرقية التي تدمر الأفراد والمجتمعات”. وفي سنة 1933؛ انحلت بريت شالوم، وبعد عام؛ غادر كون فلسطين في حالة من اليأس، مقتنعًا بأن الحركة الصهيونية كانت في مسار تصادمي مع الفلسطينيين والمنطقة.
وكانت حركة بن غوريون أيضًا على مسار تصادمي مع أولئك الذين تعاطفوا مع فكرة إقامة ملاذ ثقافي يهودي في فلسطين، مثل كون وأرندت، لكنهم رفضوا الرؤية المتطرفة والإقصائية والإقليمية للدولة المرتبطة بإنشاء “إسرائيل” في سنة 1948. وسيجد منتقدو “إسرائيل” من اليهود والذين تعود جذورهم إلى الصهيونية الثقافية لماغنيس وبوبر – أو إلى حزب العمال اليهودي المناهض للصهيونية – أنفسهم يتعرضون للتشهير باعتبارهم هراطقة وخونة.
ففي كتاب “قضيتنا فلسطين”؛ يوضح جيفري ليفين كيف تم إقصاء منتقدي “إسرائيل” من اليهود الأمريكيين من المؤسسات اليهودية في العقود التي تلت قيام الدولة. فبعد حرب 1948؛ تميزت الصحافة اليهودية الأمريكية بتغطية واسعة ومتعاطفة إلى حد كبير لمحنة اللاجئين الفلسطينيين: فلم تكن “إسرائيل” قد أعلنت بعد أنها لن تستقبل لاجئًا واحدًا.
وكتب ويليام زوكرمان، محرر النشرة الإخبارية اليهودية، في سنة 1950: “إن قضية اللاجئين العرب هي قضية أخلاقية تتجاوز الدبلوماسية. إن الأرض التي تُدعى الآن “إسرائيل” تنتمي إلى اللاجئين العرب بما لا يقل عن أي إسرائيلي. لقد عاشوا على تلك الأرض وعملوا عليها… لمدة ألف ومئتي سنة… وحقيقة أنهم فروا مذعورين ليست مبررًا لحرمانهم من منازلهم”. ولكن تحت الضغط الإسرائيلي؛ فقد زوكيرمان وظيفته كمراسل في نيويورك لصالح الجريدة اليهودية اللندنية. وقد ابتهج أرثر لوري، القنصل العام الإسرائيلي في نيويورك، بقرار فصله: “ميتزفاه [عمل صالح] حقيقي”.
لم يكن زوكيرمان وحده من لقي هذا المصير. ففي سنة 1953؛ تلا الحاخام الأمريكي الإصلاحي موريس لازارون صلاة للتوبة في مخيم شاتيلا للاجئين في بيروت، معلنًا “لقد أخطأنا” وداعيًا إلى إعادة مئة ألف لاجئ فورًا: كأعضاء في “قبيلة الأقدام الهائمة”، وقال إن على اليهود الوقوف مع لاجئي فلسطين. وكان الخبير الرئيسي في الولايات المتحدة بشأن اللاجئين الفلسطينيين، دون بيريتس، يعمل لصالح اللجنة اليهودية الأمريكية. وبعد حرب 1948؛ عمل مع مجموعة كويكر التي وزعت الطعام والملابس على الفلسطينيين المشردين الذين يعيشون تحت الحكم العسكري الإسرائيلي.
وقد شعر بيريتس بالرعب عندما اكتشف “موقفًا تجاه العرب يشبه موقف العنصريين الأمريكيين”؛ فكتب كتيبًا عن اللاجئين للجنة اليهودية الأمريكية. ورد المسؤولون الإسرائيليون بمحاولة طرده من العمل، وأوصت إستر هيرليتز، قنصل “إسرائيل” في نيويورك، بأن “تفكر السفارة في حفر قبر له” في الكلية اليهودية في بنسلفانيا حيث كان يدرّس.
ولم يكن بيريتس راديكاليًا: لقد أراد ببساطة أن يخلق ما أسماه “منبرًا لا يعبّر من خلاله عن مديح “إسرائيل” فحسب؛ بل عن قلق نقدي بشأن العديد من المشاكل التي تورطت فيها الدولة الجديدة”، وعلى رأسها “مشكلة اللاجئين العرب، وحالة الأقلية العربية في إسرائيل”. وبدلاً من ذلك، واجه “بيئة عاطفية” جعلت “من الصعب خلق جو للنقاش الحر كما هو الحال في الجنوب اليوم لمناقشة العلاقات بين الأعراق”.
ومن بين الحالات الأكثر إيضاحًا التي يرويها كتاب ليفين هي الحملة لتشويه سمعة فايز الصايغ، الناطق الفلسطيني الرئيسي في الولايات المتحدة في الخمسينيات وأوائل الستينيات. لقد وُلِد صايغ في طبريا، وكتب ليفين: “فهم الصايغ بشكل حاد أن أي تودد عربي مع معادي السامية يلطخ قضيتهم”؛ ولذلك تجنب النازيين الجدد والنشطاء المعادين لليهود الذين كانوا يتوجهون إليه.
وتعاون مع الحاخام المناهض للصهيونية، إلمر بيرغر، من المجلس الأمريكي لليهودية، الذي كان قد أثبت نفسه بالفعل كناقد للصهيونية في كتابه سنة 1951 “تاريخ متحيز لليهودية”؛ حيث هاجم الحركة لتبنيها “مرسوم هتلر للفصل” وخيانة رسالة اليهودية العالمية. ووُصف من قبل ناشط مؤيد لـ “إسرائيل” بأنه “أحد أكثر الجدليين كفاءة الذين اضطرت اليهودية الأمريكية للتصدي لهم”، وكان الصايغ يعتبر خطيرًا بشكل خاص لأنه لم يكن من السهل وصفه بأنه معادٍ للسامية.
وفي جهودهم لمكافحة هذا الحليف العربي لحاخام بارز – وإن كان مثيرًا للجدل – الذي لم يخضع أبدًا للخطاب المعادي للسامية، اضطر النشطاء الصهاينة لاختراع تهمة جديدة: أن معاداة الصهيونية هي بحد ذاتها شكل من أشكال معاداة السامية. وطورت رابطة مكافحة التشهير هذه الحجة إلى كتاب في سنة 1974 – ولكن، كما يوضح ليفين – كانت هذه الحجة متداولة بالفعل قبل عشرين سنة.
وانتقل الصايغ في النهاية إلى بيروت، حيث انضم إلى منظمة التحرير الفلسطينية. وبعد حرب الأيام الستة في سنة 1967، خضعت الجالية اليهودية الأمريكية لما أطلق عليه نورمان بودهوريتز “الصهينة الكاملة”. وكما يجادل جوشوا ليفر في كتابه الجديد “الألواح المحطمة”؛ فقد أصبحت المؤسسة اليهودية أكثر “تخصصًا، وخطابهم أكثر حدة في الدفاع عن المصلحة الذاتية اليهودية”.
وتستمر هذه المؤسسة في ممارسة النفوذ في المؤسسات الأمريكية من السلطة والتعليم العالي: حيث إن سقوط كلودين جاي، رئيسة جامعة هارفارد، الذي دبره الملياردير الصهيوني بيل أكمان، هو مجرد مثال واحد على ذلك. وكما يكتب ليفر؛ فإن التبني غير النقدي للصهيونية قد “أدى إلى قصر نظر أخلاقي” فيما يتعلق بقمع “إسرائيل” للفلسطينيين. إن إنكار اليسار المتطرف لارتكاب حماس أي فظائع في 7 تشرين الأول/ أكتوبر يتوازى مع إنكار الإبادة الجماعية من قبل اليهود الأمريكيين الذين يدعون أن هناك الكثير من الطعام في غزة وأن تجويع الفلسطينيين هو ببساطة شكل من أشكال العرض المسرحي.
جاذبية “إسرائيل” تقتصر إلى حد كبير على اليهود المتدينين واليمين المتطرف والقوميين البيض والسياسيين الديمقراطيين من الجيل القديم مثل جو بايدن
لقد قاومت أقلية من اليهود الأمريكيين قصر النظر الأخلاقي هذا دائمًا. وكانت هناك موجات متتالية من المقاومة، أثارتها حوادث سابقة من وحشية “إسرائيل”: كحرب لبنان، والانتفاضة الأولى، والانتفاضة الثانية. لكن أكثر موجات المقاومة تأثيرًا قد تكون تلك التي نراها الآن في جيل من الشباب اليهود الذين يجدون أن التعرف على دولة غير ليبرالية بشكل صريح وعنصرية علانية، يقودها حليف مقرب من دونالد ترامب؛ أمر لا يُطاق. كما كتب بيتر بينارت في سنة 2010، طلبت المؤسسة اليهودية من اليهود الأمريكيين أن “يتركوا ليبراليتهم عند باب الصهيونية”، ليجدوا أن “العديد من الشباب اليهود قد تركوا صهيونيتهم بدلاً من ذلك”.
إن الصراع الذي وصفه بيتر بينارت ليس جديدًا. ففي سنة 1967، كتب آي. إف. ستون: “إن إسرائيل تخلق نوعًا من الفصام الأخلاقي بين يهود العالم. في العالم الخارجي؛ تعتمد رفاهية اليهود في العالم الخارجي على الحفاظ على مجتمعات علمانية غير عنصرية وتعددية. وفي إسرائيل؛ تجد اليهودية نفسها تدافع عن مجتمع لا يمكن فيه تقنين الزواج المختلط؛ حيث يتمتع غير اليهود بمكانة أقل من اليهود، وحيث يكون المثالي عنصريًا وإقصائيًا. ويجب على اليهود أن يقاتلوا في أماكن أخرى من أجل أمنهم ووجودهم ضد المبادئ والممارسات التي يجدون أنفسهم يدافعون عنها في إسرائيل”.
وبالنسبة للعديد من الشباب الليبراليين اليهود الأمريكيين، أثبت هذا التناقض أنه لا يطاق: حيث يشكل الطلاب اليهود نسبة غير عادية من المحتجين في الجامعات.
وحاولوا أيضًا تطوير ما يسميه ليفر “تعبيرات جديدة عن الهوية والمجتمع اليهودي … غير مرتبطة بالنزعة العسكرية الإسرائيلية”. ويعبر البعض، مثل ليفر، عن تآلفهم مع اليهودية التقليدية، بل وحتى الأرثوذكسية، بسبب بُعدها عن الليبرالية المطلقة لليهودية الأمريكية، رغم أنهم يستنكرون انتهاكات “إسرائيل” لحقوق الإنسان.
لقد تبنى الأكثر تطرفًا بينهم “قومية الاغتراب الناعمة”؛ حيث تنصلوا من أي روابط مع إسرائيل، وأعلنوا دعمهم لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، واحتضنوا رموز النضال الفلسطيني. لقد شعر ليفر بالقلق من فشل بعض اليهود في انتقاد هجمات 7 تشرين الأول/ أكتوبر، ويتهمهم بـ”عدم الاكتراث بحياة اليهود الآخرين، الذين صادف أن أجدادهم فروا إلى الدولة اليهودية الناشئة والمحاصرة، بدلًا من الولايات المتحدة”.
إن الاستجابة الباردة لأحداث 7 تشرين الأول/ أكتوبر التي يجدها النقاد مثل ليفر مزعجة للغاية، خصوصًا عندما يتم التعبير عنها من قبل اليهود اليساريين، وقد لا تعكس القسوة بقدر ما تعكس عملًا واعيًا للتنصل، ونابعًا من الشعور بالخجل والإحساس بالتواطؤ غير المرغوب مع دولة تصر على الولاء من اليهود في جميع أنحاء العالم، بالإضافة إلى رفض ادعاء الحركة الصهيونية بأن اليهود يشكلون شعبًا واحدًا موحدًا ذو مصير مشترك.
ويعد كتاب ليفر هو نقد للسجن اليهودي، مكتوب من داخل جدرانه: يؤكد على أن “التخلي” عن “إسرائيل” مستحيل لأنه سيضم قريبًا أغلبية يهود العالم، وهو “ثورة في الظروف الأساسية للوجود اليهودي”. إن أولئك الذين يعطون الأولوية لانتمائهم إلى مجتمع علماني أوسع يسعون إلى تحرير أنفسهم من السجن تمامًا، حتى لو كان ذلك يعرضهم لخطر النبذ باعتبارهم “لا يهود”.
بالنسبة لهؤلاء الكتاب والنشطاء – الذين تجمع العديد منهم حول مجلة “جويش كرانتس” المعاد إحياؤها ومنظمة “جويش فويس فور بيس” الناشط – فإن الوفاء بمبادئ اليهودية الأخلاقية يتطلب منهم تبني ما يسميه كراكوتزكين “وجهة نظر المطرودين”، الذين – منذ سنة 1948 – كانوا فلسطينيين وليسوا يهودًا.
كتب إدوارد سعيد عن الفلسطينيين في سنة 1986: “ليس لدينا أينشتاين معروف، ولا شاغال، ولا فرويد أو روبنشتاين ليحمينا بتراث من الإنجازات المجيدة،. ولم نتعرض للهولوكوست ليحمينا بتعاطف العالم. نحن “آخرون”، أو بكلمة أخرى؛ خطأ في هندسة التوطين والنزوح”. لا يزال الفلسطينيون “آخرين” في الحسابات الأخلاقية للولايات المتحدة والقوى الغربية، فبدون دعمهم لم يكن بإمكان “إسرائيل” أن تنفذ هجومها على غزة.
لكن بإمكانهم الآن التذرع بالإبادة الجماعية الخاصة بـ “إسرائيل”، وعلى الرغم من أن هذه الحجة قد لا توفر لهم الحماية بعد؛ إلا أنها فعلت الكثير لتقليص رأس المال الأخلاقي الإسرائيلي المتآكل بالفعل. لقد حققت المطالبات الفلسطينية بالأرض والعدالة – المترسخة بالفعل في ضمير الجنوب العالمي – اختراقات غير عادية في ضمير الغرب الليبرالي، وكذلك في ضمير اليهود الأمريكيين، ويعود الفضل في ذلك إلى حد كبير إلى سعيد وغيره من الكتاب والناشطين الفلسطينيين.
إن ولادة حركة عالمية معارضة لحرب “إسرائيل” على غزة، ومدافعة عن حقوق الفلسطينيين، إن لم يكن لشيء آخر، فهو علامة على أن “إسرائيل” خسرت الحرب الأخلاقية بين أصحاب الضمائر الحية. وفي حين أن القضية الفلسطينية مرتبطة بالعدالة الدولية والتضامن بين الشعوب المضطهدة والحفاظ على نظام قائم على القواعد، فإن جاذبية “إسرائيل” تقتصر إلى حد كبير على اليهود المتدينين واليمين المتطرف والقوميين البيض والسياسيين الديمقراطيين من الجيل القديم مثل جو بايدن الذي حذر من “طفرة شرسة” في معاداة السامية في أمريكا في أعقاب الاحتجاجات، ونانسي بيلوسي التي ادعت أنها اكتشفت “مسحة روسية” فيها.
عندما نزل مؤسس جماعة “الفتيان الفخورون”، غافين ماكلينيس، ورئيس مجلس النواب، مايك جونسون، إلى حرم جامعة كولومبيا في نيويورك للدفاع عن الطلاب اليهود من المتظاهرين “المعادين للسامية” (من بينهم يهود يقيمون حفلات تحرير اليهود)، بدوا وكأنهم عقدوا اجتماع لم شمل في 6 كانون الثاني/يناير [عيد الغطاس]. وعلى الرغم من كل ادعاءاتهم بالعزلة في بحر من التعاطف مع فلسطين، إلا أن المؤيدين اليهود لإسرائيل، مثلهم مثل الدولة نفسها، لديهم حلفاء أقوياء في واشنطن وفي الإدارة وفي مجالس الجامعات.
إن الردود العسكرية المفرطة على المخيمات في جامعة كولومبيا، وجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، وأماكن أخرى، إلى جانب الردود الغاضبة من الحكومات البريطانية، والألمانية، والفرنسية على المظاهرات في لندن، وباريس، وبرلين، هي مؤشر على التأثير المتزايد للحركة.
وكما قال ريجيس دوبري: “الثورة تثير الثورة المضادة”. فيعتبر إخلاء مخيمات التضامن من قبل الشرطة تطورًا مقلقًا لأي شخص يهتم بحرية التعبير وحرية التجمع، وهو تذكير بأن خطاب “الأماكن الآمنة” يمكن أن يُستغل بسهولة من قبل اليمين. كما أن مشروع القانون الخاص بمعاداة السامية الذي تم تمريره مؤخرًا في مجلس النواب الأمريكي يهدد بخنق الخطاب المؤيد لفلسطين في الجامعات الأمريكية، حيث قد تصبح إدارات الجامعات مسؤولة عن عدم تطبيق تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست لمعاداة السامية، الذي يخلط بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية.
ومثل الإجراءات المناهضة لمقاطعة “إسرائيل” التي تبنتها أكثر من ثلاثين دولة؛ فإن قانون التوعية بمعاداة السامية هو تعبير عما أسمته سوزان نيمان، عند الكتابة عن قمع ألمانيا لدعم حقوق الفلسطينيين، بـ”المكارثية المحبة لليهود”، وسيؤدي بالتأكيد إلى المزيد من معاداة السامية، لأنه يعامل الطلاب اليهود كأقلية متميزة تحتاج مشاعرهم بالأمان إلى حماية قانونية خاصة. ويضيف إلى الطابع غير الواقعي للنقاش في الولايات المتحدة أن تهديد معاداة السامية يتم تسليحه من قبل الإنجيليين اليمينيين الذين تحالفوا مع القوميين البيض ومعادي السامية الفعليين، في حين يذعن السياسيون الديمقراطيون الليبراليون.
وبعد أن قام ضابط شرطة في مدينة نيويورك بإنزال العلم الفلسطيني في كلية سيتي واستبداله بالعلم الأمريكي، قال العمدة إريك آدامز: “لوموني على فخري بكوني أمريكيًا… نحن لا نتنازل عن طريقتنا في الحياة لأي شخص”. كان هذا بالطبع تعبيرًا سخيفًا عن كراهية الأجانب، ومن الصعب تخيل آدامز أو أي سياسي أمريكي يدلي بمثل هذا التصريح عن أولئك الذين يلوحون بالعلم الأوكراني. (قامت شرطة نيويورك بتصوير عملية إخلاء حرم جامعة كولومبيا كفيديو ترويجي، كما لو كانت غارة لمكافحة الإرهاب).
لفت الطلاب الانتباه إلى الأمور التي بدت وكأنها تستعصي على منتقديهم: فاحشة الحرب الإسرائيلية على غزة؛ وتواطؤ حكومتهم في تسليح “إسرائيل” وتسهيل المذبحة؛ ونفاق ادعاء أمريكا بالدفاع عن حقوق الإنسان
لكن ذلك يدل على العنصرية غير الرسمية، التي غالبًا ما تكون ممزوجة بالتحيز ضد المسلمين والعرب، والتي لطالما كانت موجهة ضد الفلسطينيين، فقد كان يُطلق على سعيد لقب “أستاذ الإرهاب”، وعلى قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة كولومبيا “جامعة بيرزيت على نهر هدسون”. وبذلت باري فايس – كاتبة العمود السابقة في صحيفة نيويورك تايمز التي تعتبر نفسها “محاربة لحرية التعبير”، والتي كانت قد بدأت مسيرتها الجامعية في جامعة كولومبيا – محاولات لإقالة أعضاء هيئة التدريس في قسم دراسات الشرق الأوسط.
كما أن الحملة ضد الباحثين الفلسطينيين، والتي ساعدت في إرساء الأساس الفكري للهجوم على المخيمات، مفيدة. لقد أخطأ عرفات عندما قال إن أعظم سلاح للفلسطينيين هو رحم المرأة الفلسطينية: بل إنه معرفة وتوثيق ما فعلته “إسرائيل” وما تفعله بالشعب الفلسطيني. ومن هنا جاء نهب “إسرائيل” لمركز الأبحاث الفلسطيني أثناء غزو لبنان عام 1982 والاعتداءات على الأساتذة الذين قد يسلطون الضوء على تاريخ يفضل البعض إخفاءه.
هل انزلق بعض الخطاب في الجامعات الأمريكية إلى معاداة السامية؟ هل تعرض بعض اليهود المؤيدين لـ “إسرائيل” للمضايقات الجسدية أو اللفظية؟ نعم؛ على الرغم من أن مدى المضايقات المعادية لليهود لا يزال غير معروف ومحل خلاف. هناك أيضًا سؤال، كما كتب شاؤول ماغيد في كتاب “ضرورة النفي”، حول ما إذا كانت “المظلة الواحدة لمعاداة السامية” تصف كل هذه الحوادث على أفضل وجه، كما يتساءل ماغيد: “ما هي معاداة السامية إذا لم تعد مصحوبة بالقمع؟ ما الذي يشكل معاداة السامية عندما يكون اليهود في الواقع هم المضطهدون؟”.
في خضم كل هذا الاهتمام بالضعف اليهودي المتزايد، لم يكن هناك الكثير من النقاش حول ضعف الطلاب الفلسطينيين والعرب والمسلمين، ناهيك عن وجود لجنة أكاديمية أو مشروع قانون سياسي لمعالجة ذلك. فعلى عكس اليهود؛ عليهم أن يثبتوا حقهم في مجرد التواجد في الحرم الجامعي. فالفلسطينيون – خاصةً إذا ما شاركوا في الاحتجاجات – يخاطرون بأن يُنظر إليهم على أنهم “متسللون” ومتسللون من أرض أجنبية. وفي تشرين الثاني/نوفمبر الماضي؛ أطلق متعصب عنصري النار على ثلاثة طلاب فلسطينيين كانوا يزورون أقاربهم في فيرمونت؛ أحدهم سيصاب بالشلل مدى الحياة، فيما لم يرد بايدن على هذا الهجوم أو غيره من الهجمات على المسلمين بالقول إن “الصمت تواطؤ”، كما فعل بشأن معاداة السامية.
في الواقع، كان رفض الصمت، ورفض التواطؤ، هو الذي قاد الطلاب من جميع الخلفيات إلى الشوارع للاحتجاج، مع ما يحمله ذلك من مخاطر على مستقبلهم أكثر بكثير مما كان عليه الحال خلال احتجاجات 2020 ضد عمليات القتل التي قامت بها الشرطة. إن معارضة العنصرية ضد العنصرية ضد السود يتبناها الليبراليون النخبويون؛ أما معارضة حروب “إسرائيل” ضد فلسطين فلا. لقد تحدى هؤلاء الطلاب عمليات الاختراق، وازدراء إدارات جامعاتهم، وعنف الشرطة، وفي بعض الحالات الطرد، فقد أعلنت شركات محاماة بارزة أنها لن توظف الطلاب الذين شاركوا في المخيمات الجامعية.
كانت المؤسسة السياسية والصحافة السائدة محتقِرَة إلى حد كبير، فقد قلل المعلقون الليبراليون من شأن الطلاب ووصفوهم بأنهم “أثرياء”، على الرغم من أن العديد منهم، وخاصة في الكليات الحكومية، جاؤوا من خلفيات فقيرة ومن الطبقة العاملة. وزعم البعض أن الاحتجاجات كانت في النهاية تتعلق بأمريكا وليس بالشرق الأوسط. (كانت تتعلق بكليهما).
كما اتُّهم المتظاهرون أيضًا بأنهم جعلوا اليهود يشعرون بعدم الأمان من خلال إدانتهم الطقوسية للصهيونية، وبأنهم كانوا متحمسين للغاية، وبأنهم انخرطوا في خيال التمرد على غرار عام 1968، وتجاهلوا قسوة حماس أو حتى برروها في بعض الأحيان، وبأنهم أضفوا طابعًا رومانسيًا على الكفاح المسلح في دعواتهم إلى “عولمة الانتفاضة”، وبأنهم مسكونون بحماسة مانوية أعمتهم عن تعقيدات الحرب التي تشمل أطرافًا متعددة، وليس فقط “إسرائيل” وغزة.
هناك بالطبع قدر من الحقيقة في هذه الانتقادات؛ مثل عبارة “أوقفوا تمويل الشرطة”، فإن عبارة “من النهر إلى البحر” جذابة في مطلقها، ولكنها أيضًا غامضة بشكل خطير، وهي وقود للخصوم اليمينيين الذين يبحثون عن أدلة على دعوات “الإبادة الجماعية” ضد اليهود.
وكان هناك – كما هو الحال دائمًا – بُعد مسرحي للاحتجاجات؛ حيث تخيل بعض الطلاب أنفسهم جزءًا من نفس الدراما التي تتكشف في غزة، وخلطوا بين إزالة مخيم (المناطق المحررة) في العراء وبين التدمير العنيف لمخيم للاجئين. لكن الهجوم على المتظاهرين – سواء بسبب “الثراء” أو العداء المفترض لليهود أو التعصب لليهود – لم يكن تصويرًا منصفًا لحركة واسعة النطاق تضم الفلسطينيين واليهود، والأمريكيين من أصل أفريقي واللاتينيين، والمسيحيين والملحدين.
وعلى الرغم من كل أخطائهم؛ لفت الطلاب الانتباه إلى الأمور التي بدت وكأنها تستعصي على منتقديهم: فاحشة الحرب الإسرائيلية على غزة؛ وتواطؤ حكومتهم في تسليح “إسرائيل” وتسهيل المذبحة؛ ونفاق ادعاء أمريكا بالدفاع عن حقوق الإنسان والنظام الدولي القائم على القواعد بينما تمنح “إسرائيل” تفويضًا مطلقًا؛ والحاجة الملحة لوقف إطلاق النار.
كما لم تخيفهم مقارنة نتنياهو البشعة للاحتجاجات بالتعبئة المعادية لليهود في الجامعات الألمانية في ثلاثينيات القرن الماضي (حيث لم يكن أحد يقيم صلوات الفصح). وإذا فاز ترامب فسيتم إلقاء اللوم عليهم، إلى جانب الناخبين العرب والمسلمين الذين لا يستطيعون حمل أنفسهم على التصويت لرئيس سلّح بيبي، لكنهم يستحقون الثناء لحشدهم الدعم لوقف إطلاق النار والمساعدة في تغيير الرواية حول فلسطين.
سيكون دمار غزة بالنسبة لهم كما كان النضال ضد حرب فيتنام والفصل العنصري في جنوب أفريقيا وحرب العراق بالنسبة للأجيال السابقة. لن تكون صورتهم للطفلة التي قتلت على يد دولة الإبادة الجماعية هي آن فرانك بل هند رجب، الطفلة ذات الست سنوات التي قُتلت بنيران الدبابات الإسرائيلية بينما كانت تجلس في سيارة تتوسل للمساعدة، محاطة بجثث أقاربها المقتولين. عندما يهتفون “كلنا فلسطينيون”، فإنهم يتأثرون بنفس مشاعر التضامن التي دفعت الطلاب في عام 1968 إلى الهتاف “نحن جميعًا يهود ألمانيا” بعد طرد الزعيم الطلابي اليهودي الألماني دانيال كوهن بنديت من فرنسا. هذه مشاعر لا يمكن لأي مجموعة من الضحايا أن تبقى إلى الأبد المستفيد الأكبر منها، ولا حتى أحفاد اليهود الأوروبيين الذين قضوا في معسكرات الموت.
“غزة 2035″، وهو اقتراح وزعه مكتب نتنياهو، يتصورها كمنطقة تجارة حرة على غرار الخليج. أما جاريد كوشنر فيضع عينيه على مشاريع تطوير شاطئ البحر، واليمين الإسرائيلي مصمم على إعادة إنشاء المستوطنات
وكما جادل المؤرخ إنزو ترافيرسو، فإن نسخة معينة من إحياء ذكرى الهولوكوست، والتي تتمحور حول المعاناة اليهودية والتأسيس “المعجزة” لإسرائيل، كانت “دينًا مدنيًا” في الغرب منذ سبعينيات القرن الماضي. لم يكن الناس في الجنوب العالمي أبدًا من رعايا هذه الكنيسة، لأسباب ليس أقلها أنها ارتبطت بالدفاع الانعكاسي عن دولة “إسرائيل”، التي توصف في ألمانيا بأنها “ستاتسراون“”.
بالنسبة لكثير من اليهود – الغارقين في رواية الصهيونية عن الاضطهاد اليهودي والخلاص الإسرائيلي، والمشجعين على الاعتقاد بأن عام 1939 قد يكون قاب قوسين أو أدنى – فإن حقيقة أن الفلسطينيين، وليس الإسرائيليين، ينظر إليهم معظم الناس كما كان اليهود أنفسهم في يوم من الأيام – كضحايا للقمع والاضطهاد، كلاجئين عديمي الجنسية – لا شك أنها صدمة. ومن الطبيعي أن يكون رد فعلهم هو توجيه الحديث مرة أخرى إلى الهولوكوست، أو إلى أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر.
لا ينبغي تجاهل هذه المخاوف، ولكن كما كتب جيمس بالدوين في أواخر الستينيات: “لا يتمنى المرء … أن يقول له يهودي أمريكي أن معاناته كبيرة مثل معاناة الزنوج الأمريكيين. إنها ليست كذلك، ويعرف المرء أنها ليست كذلك من نبرة صوته التي يؤكد لك أنها كذلك”.
والسؤال هو كيف يمكن لهذه الحركات أن تساعد – إن ساعدت على الإطلاق – في إنهاء الحرب في غزة، وإنهاء الاحتلال ومصفوفة السيطرة القمعية التي تؤثر على جميع الفلسطينيين، بمن فيهم المواطنون الفلسطينيون في “إسرائيل”، الذين يشكلون خُمس السكان. وفي حين أن عدالة القضية الفلسطينية لم تحظَ قط باعتراف أوسع أو أكثر شمولية، ولم تحظَ حركة المقاطعة (التي يصفها المدافعون عن “إسرائيل” بأنها “معادية للسامية” و”إرهابية”) بدعم مماثل، فإن الحركة الوطنية الفلسطينية نفسها في حالة فوضى شبه كاملة.
فالسلطة الفلسطينية هي سلطة بالاسم فقط، وهي شرطي درك افتراضي لإسرائيل، وهي موضع ازدراء وسخرية من قبل أولئك الذين يعيشون في ظلها، وهي غير قادرة على حماية الفلسطينيين في الضفة الغربية من موجة هجمات المستوطنين والعنف العسكري الذي أدى إلى مقتل خمسمائة فلسطيني في الأشهر الثمانية الماضية وأدى إلى سرقة أكثر من 37,000 فدان من الأراضي، وهو ما يمثل زحفًا مستمرًّا نحو وضع غزة. فالفلسطينيون داخل “إسرائيل” يخضعون للمراقبة المشددة ويتعرضون لخطر الاتهام بالخيانة على الدوام، ويتركون تحت رحمة العصابات الإجرامية التي تستبد بالبلدات العربية بشكل متزايد.
يبدو مستقبل غزة أكثر قتامة، حتى في حال التوصل إلى هدنة طويلة الأمد أو وقف إطلاق النار. “غزة 2035″، وهو اقتراح وزعه مكتب نتنياهو، يتصورها كمنطقة تجارة حرة على غرار الخليج. أما جاريد كوشنر فيضع عينيه على مشاريع تطوير شاطئ البحر، واليمين الإسرائيلي مصمم على إعادة إنشاء المستوطنات.
أما بالنسبة للناجين من العدوان الإسرائيلي، فيتوقع العالم السياسي ناثان براون أنهم سيعيشون في “مخيم خارق”؛ حيث – كما كتب في كتاب “الطوفان”، وهو مجموعة مقالات عن الحرب الحالية – “من المرجح أن يتم التعامل مع القانون والنظام… – إذا تم التعامل معهما على الإطلاق – من قبل لجان المخيمات والعصابات التي نصبت نفسها بنفسها”، مضيفًا: “لا يبدو هذا اليوم وكأنه اليوم التالي للصراع بقدر ما هو شفق طويل من التفكك واليأس”.
التفكك واليأس هما، بالطبع، الظروف التي تشجع “الإرهاب” الذي تدعي “إسرائيل” أنها تحاربه. وسيكون من السهل على الناجين من غزة أن يستسلموا لهذا الإغراء، خاصة وأنهم لم يعطوا أي أمل في حياة أفضل، ناهيك عن دولة أفضل، بل مجرد محاضرات حول السبب الذي يجعلهم يحولون القطاع إلى دبي القادمة بدلاً من بناء الأنفاق.
على مدار الشهور الثمانية الماضية؛ أصبحت فلسطين بالنسبة لليسار الطلابي الأمريكي والبريطاني ما تمثله أوكرانيا بالنسبة لليبراليين: رمزًا للنضال النقي ضد العدوان. ولكن كما يتجاهل المعجبون بزيلينسكي العناصر غير الليبرالية في الحركة الوطنية، كذلك يميل مؤيدو فلسطين إلى التغاضي عن وحشية حماس، ليس فقط ضد اليهود الإسرائيليين بل ضد منتقديها الفلسطينيين، وكما كتب إسحاق دويتشر أنه في حين أن “قومية المستغلين والمضطهدين” لا يمكن “وضعها على نفس المستوى الأخلاقي السياسي الذي توضع فيه قومية الفاتحين والظالمين”، إلا أنه “لا ينبغي النظر إليها دون نقد”.
كتب رشيد الخالدي في كتاب “حرب المئة عام على فلسطين” (2020) أنه عندما زار الناشط الباكستاني إقبال أحمد قواعد منظمة التحرير الفلسطينية في جنوب لبنان “عاد بنقدٍ أزعج أولئك الذين طلبوا نصيحته. وفي حين أنه كان من حيث المبدأ مؤيدًا للكفاح المسلح ضد الأنظمة الاستعمارية مثل النظام الجزائري… إلا أنه تساءل عما إذا كان الكفاح المسلح هو المسار الصحيح للعمل ضد خصم منظمة التحرير الفلسطينية تحديدًا، إسرائيل”.
استغلت الدولة التي تسمي نفسها دولة “ناشئة” أسلحتها للمراقبة في صفقات مربحة مع الديكتاتوريات العربية وتقدم التدريب على مكافحة التمرد لفرق الشرطة الزائرة
كما رأى أحمد أن “استخدام القوة لم يؤدِ إلا إلى تعزيز الشعور بالضحية الموجود مسبقًا والمتفشي بين الإسرائيليين، في حين أنه وحّد المجتمع الإسرائيلي وعزز أكثر النزعات القتالية في الصهيونية وعزز دعم الجهات الخارجية”. لم ينكر أحمد حق الفلسطينيين في الانخراط في المقاومة المسلحة، لكنه كان يعتقد أنه يجب ممارستها بذكاء؛ لخلق انقسامات بين اليهود الإسرائيليين الذين يجب التوصل معهم في نهاية المطاف إلى تسوية، أي إلى تسوية جديدة تحررية تقوم على التعايش والاعتراف المتبادل والعدالة.
من الصعب اليوم تخيل قيام تحالف بين الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين التقدميين من النوع الذي كان يلمع خلال الانتفاضة الأولى. فالجماعات التي تسعى إلى العمل المشترك بين الفلسطينيين والإسرائيليين لا تزال موجودة، لكنها أقل من أي وقت مضى ومُحاصرة بشدة: فقد اختفى تقريبًا دعاة ثنائية القومية التي رسمتها شخصيات مختلفة مثل جودا ماغنيس وإدوارد سعيد، وطوني جودت وعزمي بشارة.
ومع ذلك؛ يتساءل المرء عما كان سيقوله أحمد عن الغارة المذهلة التي شنتها حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر، وهو هجوم جريء على القواعد الإسرائيلية تحول إلى مجازر بشعة في حفل صاخب وفي المستوطنات. لا يمكن إنكار تأثيرها على المدى القصير: فقد أعادت عملية “طوفان الأقصى” قضية فلسطين إلى جدول الأعمال الدولي، وأدت إلى تخريب تطبيع العلاقات بين “إسرائيل” والسعودية، وحطمت أسطورة الاحتلال الخالي من التكاليف وأسطورة “إسرائيل” التي لا تقهر.
ولكن يبدو أن مهندسيها، يحيى السنوار ومحمد ضيف، لم يكن لديهما على ما يبدو خطة لحماية شعب غزة مما سيأتي بعد ذلك. فهما مثل نتنياهو، الذي ظهرا معه مؤخرًا على قائمة المطلوبين لدى المحكمة الجنائية الدولية، هما تكتيكيان لا يرحمان، قادران على ممارسة العنف الوحشي المروع ولكنهما لا يمتلكان رؤية إستراتيجية، فقد وعد الضيف في بيانه الصادر في 7 تشرين الأول/أكتوبر بأن “الغد سيكون مختلفًا”؛ وقد كان محقًا. لكن هذا الاختلاف – بعد الحماسة الأولية التي أحدثها اقتحام السجون – يمكن رؤيته الآن على أنقاض غزة.
فبعد ثمانية أشهر من السابع من تشرين الأول/أكتوبر، لا تزال فلسطين في قبضة وتحت رحمة دولة يهودية غاضبة وحاقدة أكثر من أي وقت مضى ملتزمة بمشروعها الاستعماري ومحتقرة للانتقادات الدولية، تحكم شعبًا تحول إلى غريب في أرضه أو ناجين لا حول لهم ولا قوة، في انتظار وصول حصص الإعاشة القادمة.
لقد استغلت الدولة التي تسمي نفسها دولة “ناشئة” أسلحتها للمراقبة في صفقات مربحة مع الديكتاتوريات العربية وتقدم التدريب على مكافحة التمرد لفرق الشرطة الزائرة، لكن نزعتها العسكرية الغريزية لا تترك مجالاً لمبادرات جديدة، فلا يمكن لـ “إسرائيل” أن تتخيل مستقبلاً مع جيرانها أو مع مواطنيها الفلسطينيين لا تعتمد فيه على القوة.
إن “الجدار الحديدي” ليس مجرد استراتيجية دفاعية: إنه منطقة راحة “إسرائيل”. فسياسة حافة الهاوية التي يتبعها نتنياهو مع إيران وحزب الله هي أكثر من مجرد محاولة للبقاء في السلطة؛ إنها امتداد كلاسيكي لسياسة موشيه ديان “الدفاع النشط”، فلن يتوقف العنف إلا إذا قطعت الولايات المتحدة تسليم الأسلحة وأجبرت “إسرائيل” على التوقف.
ومن غير المرجح أن يحدث هذا في أي وقت قريب: فمن المقرر أن يلقي نتنياهو خطابًا أمام الكونغرس في 24 تموز/يوليو، بعد تلقيه دعوة من الحزبين الجمهوري والديمقراطي لمشاركة “رؤيته للدفاع عن الديمقراطية ومكافحة الإرهاب وإقامة سلام عادل ودائم في المنطقة”. وقد قوبلت دعوة بايدن لوقف إطلاق النار برفض مهين آخر من قبل نتنياهو، الذي يعلم أن الإدارة الأمريكية ليست على وشك تعليق المساعدات العسكرية أو الالتزام بأي من “خطوطها الحمراء”.
لكن حركة الاعتصام، والمعارضة المتزايدة في أوساط القادة الديمقراطيين التقدميين من رشيدة طليب إلى بيرني ساندرز، تنذر بمستقبل لن توفر فيه واشنطن الأسلحة والغطاء الدبلوماسي لجرائم “إسرائيل” بعد الآن. ويبقى أن نرى ما إذا كان الفلسطينيون سيتمكنون من التمسك بأراضيهم حتى ذلك اليوم، في مواجهة المتعصبين من المستوطنين والمطهرين العرقيين الذين استولوا على الدولة الإسرائيلية.
المصدر: موقع لندن لمراجعات الكتب