طرقت الباب، فتح لي حسين ورحب بي ودعاني للدخول، كانت حوائط البيت مليئة بألواحٍ مزخرفةٍ بآياتٍ من القرآن و”بورتريهات” قديمة خمنت أنها لأسلافه، ورسمة زيتية كبيرة تزين وجهة البيت من الداخل عبارة عن صحاري وقت الشفق، يتوسطها فارس يسقط من على حصانه، وجنود يرمونه بالسهام وقائدهم يراقب الفارس المقتول وحيدًا”.
كل نوافذ البيت مفتوحة، وأبواب الغرف كلها مواربة، ضوء المصابيح شديد جدًا على الرغم من أنها الثانية ظهرًا. جاءت هذه الدعوة بعدما توطدت علاقتنا في أثناء مشروع التخرج في كلية الهندسة، كان هادئًا جدًا ونموذجًا مطابقًا لهذا الطالب المجتهد المنعزل، حتى حضرنا أنا ومجموعة من زملائي إلى مكتب رئيس القسم.
– الدكتور: أنتوا هتكونوا مع بعض في مشروع واحد ويوسف عبد الرحمن وحسين علي هيكونوا مسؤولين عن التحكم لما تخلصوا.
بعد خروجنا من مكتب الدكتور التفت إليه أمازحه: أنت شيعي يلا؟ إيه الاسم ده؟
– حسين : لا.. أنا من أهل البيت.
ضحكت فابتسم وكان بابًا لنتعرف بعضنا البعض، بعدها أصبحنا رفاقًا في الجامعة.
كادر من فيلم الأفوكاتو
نذهب للسينما معًا في العطلات الأسبوعية فقط كي لا يختل النظام الصارم الذي وضعه حسين وقد بدأ ينعكس عليّ شيئًا فشيئًا، آخر هذه الأفلام كان “الأفوكاتو” للمخرج رأفت الميهي في أول عرض له في نوفمبر 1983.
دار بيننا نقاشًا طويلًا عن الفيلم، قد نال استحسان كلانا.. مع أننا نختلف فيما بيننا في السمات الشخصية إلا أن كلانا شغوف كل الشغف بالسينما، وهذا كان كافيًا لكسر الحاجز النفسي بيننا، وتدريجيًا أصبح لنا ما يسمح ليدعوني لبيته وكذلك كنت.
أجلسني صديقي وما كانت إلا دقائق وجاء الأخ الأكبر لحسين وعرف نفسه لي قائلًا: “أهلًا وسهلًا.. أنا حسن أخو حسين”، ورحب بي وعاد إلى غرفته، همست في أذن صاحبي قائلًا: أنت متأكد أنك مش شيعي يلا؟ ضحك كأنه أول مرة يعرف الضحك وقال: “هتفهم بعدين، اصبر يا لحوح”.
وإذا بصوت على الباب، قال حسين: حضر أبي، ألقى السلام على من في الدار، وهو في طريقه لغرفته لحظني فاستدار وعاد وإذا به “عبد الجبار السجان” أقصد الفنان علي الشريف الذي قام بدور السجان في فيلم “الأفوكاتو”، كانت مفاجأة لي حينها، لم يخبرنا حسين أن أباه يعمل في السينما حتى.
ابتسم لي الرجل ورحب بي: أزيك يا يوسف؟ كانت ملامحه دافئة كل الدفء وصوته الأجش هذا كان بردًا وسلامًا، كأنه رجل غير الذي أراه على الشاشة.
استأذن ليغير ملابسه، استطرق إلى غرفته ودخل وترك الباب مواربًا كما كان.
انفجرت في صديقي: إزاي مقولتليش إن أبوك يبقى علي الشريف؟
رد بابتسام: ما أنت عرفت أهو يا عم وهتقعد معاه، مش كان نفسك تشوف “دياب” في فيلم “الأرض“! هييجي دلوقتي واسأله عن دياب، وأردف ضاحكًا: وبعدين أنت وشك مقلوب كدة ليه!
كادر من فيلم الأرض.. علي الشريف يمينًا، في دور “دياب”
كنت سعيدًا لملاقاة دياب وشغوفًا لكل ما قد يحكيه لنا عمنا علي الشريف عن هذا الفيلم وغيره مما مثل فيه.
لكن كيف؟!
كادر من فيلم “حب في الزنزانة”
حسين قال لي إن أباه يعمل كمحاسب في البنك، هل كان يكذب! أم أنه فعلًا محاسب؟ ولكن كيف للمعلم شمشون – دوره في فيلم حب في الزنزانة – أن يكون محاسبًا في أحد البنوك.
كل هذا يدور في خلدي وحسين ينظر إليّ والضحك لا يفارقه وكأنه أخذ بثأره في تلك المواقف حين كانت الغلبة لي.
حتى حضرعمنا بعد أن خلع عن كاهليه البزة الرسمية وارتدى جلبابًا بلديًا، وما كاد يجلس حتى رأى وجه ابنه الباسم وما كانت عليّ من دهشةٍ وهيبةٍ، فقال: هو عملها فيك؟ وانطلق ضاحكًا حتى جلس، تبسمت وبدأت الأجواء تهدأ شيئًا فشيئًا وحل دفء ضحكاته علينا.
– عم علي: قوم يا حسين شوف الأكل خلينا نتغدى.
– حسين: حاضر.
التفت إليّ قائلاً: “تعرف تلاعبني شطرنج؟ ولا آخرك تلاعب الغلبان ده”!
شعرت أن الرجل يعرفني قبل هذا، استدرت جهة المطبخ وقلت: في إيه يا حسين؟
ضحك عمنا ونده ليحضر له أحدهم الرقعة وقطع الشطرنج، وبالفعل جاء الشقيق الأصغر لحسين ووضع أمامنا الشطرنج وقال: “اتفضل يا بابا”، رد عمنا: “شكرًا يا علي”، وبدأ يرص قطعه وأنا في ذهول، فسألت: مين علي؟ هو مش حضرتك اسمك علي! مين علي التاني، هو في إيه؟
فرد مبتسمًا: ما أنا علي وهو علي زين العابدين.
قلت: أنا قلت من الأول أنكوا شيعة والله.
انفجر ضاحكًا وبات يضرب كفًا بكفٍ، فشعرت وكأنه بات صديقًا لي، ذاب التكلف والهيبة من قلبي، وبدأت أرص قطعي على الرقعة، وبدأ هو الكلام في أثناء اللعب: “تعرف! أحسن واحد لعبت معاه شطرنج كان الدكتور أمين العالم، كان عبقري الراجل ده، لما قالي إنه بيعرف يلعب، حوشت الصابون وعملتلهم منه قطع شطرنج، مفيش حد غلبه أبدًا في الزنزانة وكان…”.
قاطعته قائلًا: ثواني معلش.. أنت تعرف محمود أمين؟ زنزانة إيه؟ إنت كنت مسجونًا معاه؟ أنا مش فاهم حاجة.
رد مبتسمًا: ما أنت لو كنت سبتني أحكي كنت هكملك يا لحوح”، قلت: لحوح! هو حسين قالك دي كمان؟!
– عمنا : لا.. ما هو باين عليك.
– خلاص أنا أسف كمل ومش هقاطعك تاني خالص.
– عمنا: ما علينا المهم، أمين العالم بقى يا سيدي أتعرفت عليه في جامعة القاهرة، كان هو دكتور في كلية الآداب وأنا طالب لسة في كلية الهندسة.
كدت أقاطعه مرة أخرى بعد سماعي (كلية الهندسة)، لكنه انتبه فأردف قائلًا: “أيون ما أنا كنت في الهندسة الأول بس سبتها عشان أشتغل في السياسة، ما هو كان أدامي حل من اتنين، يا أحضر اجتماعات الحزب، يا أذاكر عشان أنجح، وقتها اخترت الحزب والعمل العام وحولت تجارة عشان أتفرغ لأنشطة الحزب وحال الناس”.
أحسست أنني في دوامة، كيف لدياب الفلاح الغلبان أن يكون المهندس الذي ترك الهندسة واستكمل في كلية التجارة ليتفرغ للعمل العام وأنشطة الحزب، ثم سألته: أي حزب كان؟ رد قائلاً: الحزب الشيوعي المصري، شفت بقى! ما أنا أبقى أول شيعي شيوعي في الدنيا، وانطلق في الضحك.
عجيب هذا الرجل كم كانت ضحكته رائعة، يضحك فيهتز جسده بالكامل، قلبه يخفق بالحب حتى وهو يحكي عن السجن وما كان فيه، ضحكت كما لو أنني أصابتني عدواه، وأخد هو يُنبهني للشطرنج: “ركز بقى عشان هتخسر أهو”.
قلت: “أنا قرأت شعر لمحمود أمين وكان أجمله قصيدة “طفل القرى”.
فسبقني مرردًا في حنين:
“… قادمًا من بياض السريرة
ذاهبًا في بقايا الرماد
يسترُ الليل عريه
والمنافي بلاد …”
وما كاد يُكمل حتى أتانا حسين ودعانا للطعام، قال لي عم علي وقتها: “ناكل وبعدين نشوف أنت مندهش كده ليه”، قام كلانا لنلبي نداء الطعام، وقد وضع على منضدةٍ منخفضة وسأل: “بتسموها إيه عندكم دي؟”، أجبت: “طبلية، بنسميها طبلية في الفلاحين، وللأسف دلوقيت منشفهاش غير لما نروح البلد”.
رد في مرارة : “آآآه،غلطان أبوك يا ولدي، غلطان”، وأردف: “عندنا في الصعيد نسميها “خوان”، شوف بقى! الأيام تشيلني، توديني، لازم الجلابية البلدي والخوان بتاع أبوي وصور جدي وأعمامي اللي شايفهم على الحيطة دول، ده اللي ينسى أصله يتوه يا يوسف”.
كنت منتشيًا من كلام العم علي، فلم أعبأ بما قدم لي من طعامٍ، وأخذت أسأله: “أنت حفظت شعر أمين العالم في السجن؟”.
رد يداعبني: كُل يا لحوح ولما نخلص أكملك حكاية السجن والدكتور أمين.
ضحك حسين وقتها قائلًا: والله ما قلتله على موضوع لحوح ده.
بدأت أنتبه للطعام لكن بالي مع هذا الرجل العجيب، وشغوفًا أن يُكمل لي ما بدأ، أستأذن العم علي ليغسل يده معللًا: “أنا معرفش أكل زي الأول عشان القولون، بالهنا والشفا ليكم”.
كان حسين وأخويه يؤخرون تناولهم للطعام حتى لا يفرغوا قبلي فأقوم مستعجلًا قبل أن أشبع وهذا كان درب أبي مع أخوته قبل أن ينتقل بنا إلى الحضر، مثل هذه الأشياء أنتبه لها في بيت علي الشريف فأزداد ولعًا بالرجل وحياته، كيف له أن يُحافظ على تراثه في تلك المدينة المزدحمة التي تسابق فيها الناس على المال ونسوا من أين أتوا وكيف عاش أسلافهم.
عُدنا لرقعة الشطرنج وذهب حسين ليحضر الشاي، وفي تلك المرة بدأ عم علي يحكي دون أن أسأله عن أمين العالم والسجن: “لما خرجنا من السجن، أمين صعبت عليه نفسه فقبل عرض من جامعة باريس وراح يدرس هناك الأدب العربي، مش إحنا كنا أولى بيه طيب! كلمني من هناك وقال لي إنه مخنوق ومحتاج يرجع مصر، وفعلًا رجع، كنت مبسوط أوي، بس الظاهر إن الحكومة مكنتش مبسوطة زينا، المهم شوية ومستحملش المضايقات، قرر يسافر تاني، المرة دي راح إنجلترا، واشتغل دكتور مساعد في جامعة أوكسفورد، العالم كله كان بيحترمه وإحنا منعرفوش حتى”.
وأردف قائلاً وكأن في حلقه مرارة: “بلده طردته مرتين يا يوسف”، كدت أغتم لما بدا عليه من التأثر، لكنه أدرك هذا فتبسم وقال: “أمين كان كلامه مجعلص كده وحتى شعره كان بالفصحى، فطبعًا مفلتش من لسان فؤاد نجم”.
وقبل أن أسأل عن نجم قال لي: “يا أخي أنا مستغرب كان يخرج من السجن ويدخل وقلبه ميتغيرش، في مرة الشاويش سأله: أنت جيت ليه تاني يا عم أحمد؟ قال له: الأكل عندكوا ببلاش يا مغفل”.
قطع كلامه عن السجن ليحرك قطع الشطرنج وقال: “كش مات”.
في الحقيقة لم أكن منتبهًا أصلًا للرقعة وما عليها، لكنني عرضت عليه يلعب معي مرة أخرى كي أضمن أنه سيظل يحكي ما كان له في السجن، والحق أنه فعل.
أحضر حسين الشاي وجلس يسمع ما – ربما – لم يسمعه من أبيه من قبل، سألته: “طب أنت قعدت قد إيه في السجن؟”.
رد : “قعدت 6 سنين”.
صعقت من المدة وسألت: أنت عملت إيه عشان يسجنوك الفترة دي كلها؟
رد مبتسمًا: “كان كفاية تقول بس (لا) على أي حاجة، ده أنتوا دلوقتي في نعمة يا بني، طب أضحكك، في مرة حكالي فؤاد نجم عن عم محمد السوفييتي، وده يبقي غفير مزلقان في محطة فرعية قريبة من “بركة السبع”، الراجل كان قاعد هو وعياله ومراته في كشك المزلقان، بتوع الصيانة جابوا خشب الفلنكات عشان يصلحوا السكة، وكان خشب الفلنكات بالنسبة لنجارين الموبيليا كأنه دهب.
ناظر المحطة رفض استلام الخشب ليتسرق ويروح في داهية، قال لهم خلوها في عهدة الغفير، جابوا عمك محمد يبصم على استلامه الخشب، بالليل مهندس الصيانة جه هو والعمال بتوعه عشان يسرقوا الخشب، عمك محمد شافهم قال: “عندك يا راجل أنت وهو أنتوا مين؟ وبتشيلوا الخشب ليه؟ رد المهندس: مالكش دعوة أنت، أنا المهندس المسؤول، قاله: خلاص! هاتولي الورقة اللي بصمت عليها.
المهندس: عنيا، اديني بياناتك.
خد بياناته، وأتاري المهندس مش حرامي بس، حرامي ومخبر كمان، فكتب في عمك محمد تقرير “إنه معادي للوجود السوفييتي في مصر”، فقبضوا عليه ورموه في المعتقل، كان يمشي في القلعة يقول: “الله يخربيتك يا سوفييت ويخربيت أمك، خربت بيتي يا بن الكلب”.
كل ده كان فاكر سوفييت ده يبقي بني آدم زينا، فسمناه “محمد السوفييتي”، تفتكروا يقعد قد إيه عم محمد في الموال ده؟ قعد 3 سنين، قعد 3 سنين وهو ميعرفش يعني إيه سوفييت! آه يا ولاد على الظلم، آه”.
ساد الصمت لثوانٍ في المكان بعد ما ظهر على عم علي التأثر ونبهه حسين لتناول دواء القولون، وفاجأة ضحك بصوتٍ عالٍ وقال: “معادٍ للوجود السوفييتي”، وكررها بين ضحكاته.
كفتني ضحكاته كي أحيد فأسأله عن بداياته في التمثيل، فحكى لي كيف استغل عبد الرحمن الشرقاوي وحسن فؤاد فترة السجن التي لا يعرف أحد غير الله متى ستنتهي، فعملا مسرحيات ومراجعات فكرية لبعض الأدب الغربي واستطاعا أن يُنفذاها في محبسهم في بعض الأوقات الساكنة دون تعذيب أو تعسف.
سكن صوته وبدأ يسترجع الذكريات في حنينٍ قائلًا: “أنا اتعرفت على حسن فؤاد في السجن، وكان مجنونًا ملأ حيطة الزنزانة رسم.
“رسام كاريكاتير مشهور وفنان تشكيلي وحاجة آخر ألاجة، في مرة لسانه طول شوية، مكدبوش خبر، تاني يوم كان شرفنا في المعتقل، وإحنا في الزنزانة وقع على مسرحية لصلاح عبدالصبور اسمها “مأساة الحلاج“، أعدها وبدأ يسكن الأدوار، كان فيه من ضمن شخصيات المسرحية “الست بدور” وهي اسم على غير مسمى تمامًا، لقيت حسن معاه أشرب “غترة”، وقالي وهو مش قادر يمسك نفسه من الضحك: “أنت اللي هتعمل دور بدور يا علي”، بدأت البروفات وقد كان، ومن يومها وإحنا مفترقناش أبدًا”.
سألته مازحًا: يعني السجن كان فيه حاجات حلوة أهو؟
الفنان التشكيلي حسن فؤاد
رد بتلقائية: “كفاية حسن فؤاد في زنزانة واحدة، كان عوض ليا عن الظلمة والحيطان الضيقة والرطوبة اللي كانت بتاكل فينا”.
سكت برهة وانتبه لرقعة الشطرنج ونقل قطعة وهو يتأوه قائلًا: “لما خرجنا من السجن، كان حسن أشجع مني، رجع لشغله وحياته بسرعة، بس أنا مكنتش عارف أعمل إيه، زهرة شبابي ضاعت في سجن عبد الناصر وفجأة لقيت نفسي 32 سنة! الحياة برا السجن بقت مخيفة أكتر من جوا، والمستقبل المظلم المبهم بقي بيروعني أكتر من ظلمة الزنزانة”.
شحب لون حسين وكأنه لأول مرة يسمع تلك القصة، لكن عم علي نظر لحسين بنظرة تختصر كل الحب والدفء وقال: “الحكاية لسة فيها حاجات حلوة يا ولدي”.
ما كنت أعرف أن القدر سيلقي بي في طريق رجل في روعة علي الشريف..
يتبع..