رغم مرور أكثر من شهر على بدء احتجاجات أطباء الجزائر، لم تفلح السلطات الحاكمة في البلاد التي اختارت الحل الأمني والقضائي والمراهنة على الوقت، في احتواء هذه الاحتجاجات، بل لحقتها أخرى مست قطاعات مختلفة؛ مما يشير إلى فشل خيارات السلطة.
احتجاجات مست قطاعات عديدة
في هذه الأيام، تبدو السلطات الجزائرية محاصرة من كل جانب بالحركات الاحتجاجية، في مشهد يوحي بأن البلاد تغلي فوق نار إضرابات تمس قطاعات مهنية واجتماعية واسعة، يشتكي أصحابها من تدني مستوى المعيشة وتدهور الأوضاع المهنية وظروف العمل، نتيجة سياسة التقشف المتبعة في البلاد منذ صيف سنة 2014.
رقعة الاحتجاج لم تقتصر على قطاع واحد بل شملت قطاعات مختلفة، فبالإضافة إلى احتجاجات “الأطباء المقيمين” الذين يواصلون إضرابهم منذ أكثر من شهر للمطالبة بتحسين ظروف عملهم ومرتباتهم وإلغاء قانون الخدمة المدنية والاستفادة من الإعفاء من الخدمة العسكرية، بعد تحول الجيش الجزائري إلى جيش احترافي.
يهدد أعوان الحرس البلدي، وهم عبارة عن شرطة بلدية استعانت بهم السلطة لمكافحة الإرهاب ووضعتهم تحت تصرف قوات الجيش والدرك في البلديات، بالزحف إلى العاصمة
نجد احتجاجات جنود الجيش المتقاعدين والمصابين في عمليات مكافحة الإرهاب الذين يعتبرون أنفسهم ضحايا ظلم السلطات التي يتهمونها بالاستنجاد بهم في مرحلة العشرية السوداء (سنوات التسعينيات)، قبل أن تتخلى عنهم عقب استعادة الأمن وردع الجماعات الإرهابية وتحقيق المصالحة الوطنية، ويمنع هؤلاء منذ أيام دخول العاصمة لتنظيم مسيرة فيها أمام مقر وزارة الدفاع.
قطاع التعليم بدوره يشهد فعاليات احتجاجية كبرى، حيث دخل الأساتذة في إضرابات متفرقة عن العمل نتيجة عدم استجابة وزارة التربية لمطالبهم الاجتماعية، وتقف الوزارة عاجزة عن إيجاد حل لهذه المعضلة، تمامًا مثلما تعجز وزارة التعليم العالي عن فك إضراب طلبة المدارس العليا المتواصل هو الآخر منذ ثلاثة أشهر.
قطاع النقل الجوي أيضًا، يقاسم باقي القطاعات نفس المشاكل، حيث تصر نقابة مضيفي الطيران بالخطوط الجوية الجزائرية التي لم تعد تقوى على تحمل كتلة الأجور المعتبرة والمناصب الزائدة، على الإضراب الذي يتجدد في كل مرة، بسبب احتجاجهم على عدم تطبيق الاتفاقية التي وقعوا عليها مع الإدارة فيما يخص زيادة الأجور؛ الأمر الذي أدى إلى حدوث اضطراب كبير في حركة السفر في مطار الجزائر الدولي.
احتجاجات الجنود المتقاعدين
فضلاً عن هؤلاء نجد احتجاجات أعوان الحرس البلدي الذين يطالبون بحقوقهم المادية والمعنوية مقابل جهودهم في مرحلة مكافحة الإرهاب، ويهدد أعوان الحرس البلدي، وهم عبارة عن شرطة بلدية استعانت بهم السلطة لمكافحة الإرهاب ووضعتهم تحت تصرف قوات الجيش والدرك في البلديات، بالزحف إلى العاصمة، بسبب مماطلة الحكومة في تنفيذ الاتفاقات التي عقدتها معهم في مفاوضات سابقة، وتتعلق بتحسين رواتبهم ومِنح التقاعد واحتساب سنوات خدمتهم في مكافحة الإرهاب والتكفل بعلاج المصابين منهم بعاهات في عمليات مكافحة الإرهاب وإعادة الاعتبار المعنوي لهم.
فشلت خيارات السلطة
في البداية، اختارت السلطات الجزائرية الحاكمة اللجوء إلى الحل الأمني لمواجهة هذه الاحتجاجات واحتوائها، حيث عمدت الشرطة في 3 من يناير/كانون الثاني الحاليّ إلى منع الأطباء بالقوة من الخروج في مسيرة في وسط العاصمة الجزائرية، بتعلة منع التظاهر في العاصمة، مما أسفر عن إصابة 20 طبيبًا بجروح، بحسب تنسيقية الأطباء المقيمين الجزائريين، الأمر الذي خلف احتقانًا كبيرًا في صفوف الأطباء.
ومنذ أيام، أغلقت السلطات الجزائرية، مداخل العاصمة والطرق المؤدية إليها، وعززت عمليات مراقبة الحافلات والسيارات المتوجهة إليها، لمنع دخول الأطباء وجنود الجيش المتقاعدين إلى العاصمة لتنفيذ اعتصامات ومسيرات غضب.
وتنتشر وحدات من الدرك والشرطة على طول الطرق السريعة عند المداخل الرئيسية الثلاث، الجنوبية والشرقية والغربية للعاصمة الجزائرية، لمنع دخول المحتجين، كما تنتشر قوات الشرطة في التقاطعات الكبرى للعاصمة، خصوصًا في منطقة البريد المركزي وقرب البرلمان وفي محيط مستشفى مصطفى باشا، وسط العاصمة، حيث يعتصم الأطباء المحتجون.
تعتبر السنة الحاليّة، حسب عديد من الخبراء، من أعقد وأصعب السنوات التي تمر بها الجزائر
ورغم هذا التوجه الأمني لم تعرف هذه الاحتجاجات هدوءًا بل زادت حدتها وانتشارها في البلاد، مما دفع بالسلطات إلى التوجه إلى الحل القضائي، حيث عمدت إلى إصدار أحكام تقضي ببطلان مثل هذه الإضرابات؛ الأمر الذي استنكرته أحزاب سياسية ومنظمات حقوقية باعتباره “استغلالاً للقضاء من أجل تحقيق مآرب سياسية”.
مع فشل الخيار الأمني والقضاء، تراهن السلطات الجزائرية على عامل الوقت لاحتواء هذه الاحتجاجات، فهي تعتقد أن المحتجين ستفتر حماستهم وستتراجع قواهم؛ مما سيجبرهم على العودة إلى منازلهم دون تحقيق أغلب مطالبهم، غير أن المحتجين ما فتئوا يؤكدون عزمهم مواصلة ما وصفوه بالمعركة المشروعة مع السلطة حتى تستجيب لكامل مطالبهم.
سنة صعبة
تعتبر السنة الحاليّة، حسب العديد من الخبراء، من أعقد وأصعب السنوات التي تمر بها الجزائر، نتيجة التدهور في القدرة الشرائية للجزائريين وصعود مؤشرات التضخم وارتفاع أسعار بعض المواد الاستهلاكية والخدمات بشكل لافت؛ الأمر الذي قد يؤدي إلى انفجار الوضع في البلاد ويزيد من الاحتقان الاجتماعي الذي تعرفه منذ سنوات.
فللعام الثالث على التوالي، تستقبل الجزائر السنة الجديدة بإجراءات اقتصادية قاسية، تمثلت بعض ملامحها في بدء العمل بالزيادات التي أقرتها الموازنة العامة للبلاد للسنة الحاليّة، وتتعلق هذه الزيادات بالبنزين والديزل المدعم والهواتف الجوالة المستوردة والأجهزة الكهربائية المنزلية، فضلاً عن مواد أخرى.
فشل الحل الأمني في مجابهة الاحتجاجات
يعبر العديد من الجزائريين، عن قلقهم الشديد من تزايد ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية التي لها علاقة حيوية بالحياة اليومية لهم، ويؤكد الجزائريون أن ما أقرته الموازنة العامة للبلاد للسنة الحاليّة لا يتناسب مع قدراتهم الشرائية في ظل الأوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة التي يمرون بها.
فضلاً عن هذه الأزمة الاقتصادية، تعرف البلاد أزمة سياسية نتيجة احتدام الجدال بين أذرع الحكم المختلفة في البلاد، الذي وصل حد تبادل الاتهامات بين قيادات الأحزاب الموالية (جبهة التحرير الوطني، التجمع الوطني الديمقراطي)، وذلك مع اقتراب نهاية الولاية الرابعة للرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة التي تنتهي السنة المقبلة.