لا يتمتع حي الفاتح بوجود أكبر جالية عربية في مدينة إسطنبول فحسب، بل يتمتع أيضًا بأكبر وجود لكل ما تحتاجه تلك الجالية العربية من خدمات ومطاعم ومراكز تعليم ونشاطات اجتماعية عربية، لدرجة أن ساكن الحي لا يضطره الأمر أصلًا لاستخدام اللغة التركية في تعاملاته اليومية، بل أحيانًا تجد الأتراك الموجودين في الحي يتعاملون مع ساكنيه إما بالعربية أو يفضلون توظيف من يتحدث اللغة العربية والتركية لسهولة التعامل مع ساكني الحي من تلك الجالية.
اليوم يأتي إليكم “نون بوست” بجولة مختلفة في حي الفاتح مع أحدث الواصلين إليه، ألا وهي المكتبات العربية.
إذا كنت من محبي القراءة باللغة العربية في بلد لا يتحدث العربية، فمن المؤكد أن مسألة شراء الكتب العربية أمر صعب بالنسبة إليك، يضطرك أحيانًا إلى توصية بعض الأصدقاء القادمين من بلدان عربية لشراء بعض الكتب، أو دفع الكثير من المال لشحن وتوصيل بعض الكتب التي تحتاجها من البلاد العربية إلى البلد التي تقيم بها.
قبل بضع سنوات من الآن، بدأت إسطنبول تكون مركزًا ثقافيًا جذابًا لدور النشر العربية التي قرر الكثير منها أن تبدأ باختبار سوق بيع الكتاب العربي في إسطنبول مع وجود جالية عربية وصلت للملايين بوصول عدد اللاجئين السوريين إلى ثلاثة ملايين سوري يرتكز العدد الأكبر منهم في إسطنبول.
لاقى العديد من أصحاب دور النشر العربية إقبالًا غير متوقع من القارئ العربي في إسطنبول على الكتاب العربي من خلال المعارض، وهي التجربة التي أدت إلى وجود أكثر من خمس مكتبات عربية في حي الفاتح بإسطنبول الآن، قام “نون بوست” بجولة مع أصحاب هذه المكتبات، لينقل لكم واقع بيع الكتب العربية في بلد غير عربي.
مكتبة توتيل.. طريق الكتاب العربي من إريتريا إلى إسطنبول
من داخل مكتبة توتيل
في حديثنا مع مدير المكتبة محمد مدني عن مكتبة “تويتل” العربية (إحدى أولى المكتبات العربية في إسطنبول المتخصصة في بيع الكتب العربية ضمن مشروع شركة “تويتل” للنشر والإنتاج الإعلامي)، أخبرنا عن المخاطرة التي تُخاطرها المكتبات العربية لبدء مثل هذه الصناعة في بلد غير عربي.
كان الافتتاح الرسمي لمكتبة “تويتل” في شهر فبراير/شباط 2016، كانت فكرة “إبراهيم توتيل” المعتقل السياسي الإريتري حتى الآن الذي تبنى مشاريع ثقافية واجتماعية وتعليمية في إريتريا كان من بينها مدارس لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، ولاقت إقبالًا من المجتمع الإريتري بما فيهم أعضاء التنظيم الحاكم، وهو ما أقلق النظام من نشاط “تويتل” مما تسبب في اعتقاله إلى يومنا هذا.
تبنت شركة “تويتل” الدولية مشروع أول مكتبة عربية في إسطنبول تعرض محتوى ثقافي إبداعي متنوع من الأدب والروايات والكتب المختلفة التي يقومون باستيرادها من بيروت والقاهرة، ذلك قبل أن تتحفظ مكاتب القاهرة في التعامل مع تصدير الكتب لإسطنبول بسبب الوضع السياسي، فصار اعتماد المكتبة على بيروت ودور النشر الخاصة بشركة “تويتل” نفسها.
في أثناء حديثنا مع مدير المكتبة محمد مدني
حينما سألنا مدني عن التحديات التي واجهتها مكتبة تويتل كونها المكتبة العربية الأولى، فكان رده بأن التحدي الأكبر كان في مخاطرة بيع كتاب عربي في بلد غير عربي، بالإضافة إلى القوة الشرائية للجالية العربية، حيث قال إن الغالبية العظمى للجالية العربية من اللاجئين، وهي الشريحة التي لن تقدر على تكلفة الكتاب العربي المرتفعة نسبيًا عن الكتاب العربي المُباع في بيروت أو القاهرة.
تبنت شركة “تويتل” الدولية مشروع أول مكتبة عربية في إسطنبول، تعرض محتوى ثقافي إبداعي متنوع من الأدب والروايات والكتب المختلفة
تكون تكلفة الكتاب العربي المنشور في إسطنبول أعلى قليلًا من الكتاب المنشور في الدول العربية، وذلك لأن التكلفة تتضمن مصاريف الشحن نتيجة استيراد الكتب من دور النشر في القاهرة وبيروت، وضريبة الجمارك والضرائب المفروضة على الكتب باعتبارها سلعة هي الأخرى.
تعتمد المكتبة على القراء العرب القادمين لزيارة إسطنبول زيارات قصيرة، أو العرب السائحين، حيث يقول مدني في حواره مع “نون بوست” إن هذه الشريحة من القراء لا تجد الكتاب العربي بوفرة إن كانت قادمة من بلاد أوروبية أو الولايات المتحدة، ولهذا فإن إسطنبول فرصة ذهبية بالنسبة إليهم لشراء الكتاب العربي.
يشعر مدني بالأمل حيال وضع الكتاب العربي ووجود المكتبات العربية في إسطنبول، حيث يرى أن إقبال الجالية العربية في تحسن ملحوظ منذ بداية مشروع مكتبة “تويتل” من العام الماضي، وخصوصًا بعدما قامت المكتبة برعاية نشاطات ثقافية وأمسيات شعرية وندوات ومحاضرات لكتاب وشعراء، ساعدت في لم شمل النخبة العربية القارئة في إسطنبول بالإضافة إلى التشجيع الثقافي من الجانب التركي، حيث شارك مدير إدارة الثقافة في بلدية إسطنبول بافتتاح المكتبة العام الماضي.
الشبكة العربية في إسطنبول
من داخل مكتبة الشبكة العربية
تعتبر مكتبة الشبكة العربية الموجودة أيضًا في حي الفاتح، من أكبر المكتبات العربية الموجودة في إسطنبول، حيث التقينا بأحد المسؤولين “محمد عبد العزيز” في المكتبة وتحدثنا معه عن عمل الشبكة العربية داخل مدينة إسطنبول والفرق بينه وبين فروع مكتبات الشبكة العربية في البلاد العربية التي أسسها نواف القديمي صاحب دار النشر والمكتبات الموجودة فروعها في بيروت والدار البيضاء والقاهرة وبيروت، حيث تكون المكتبة في إسطنبول الفرع الخامس للشبكة العربية.
بدأت حكاية الشبكة العربية بمعرض للكتاب في إسطنبول كان بمثابة اختبار لمدى إقبال قراء الجالية العربية في إسطنبول، شجع ذلك الإقبال فكرة افتتاح مكتبة عربية ثابتة في إسطنبول بدلًا من معرض سنوي يدوم لبضعة أيام، فكان الافتتاح الرسمي لمكتبة الشبكة العربية قبل أربعة أشهر من الآن.
لا يركز محتوى الكتب الموجودة في الشبكة العربية على الكتب التراثية أو الشرعية، إنما يركز بشكل أكبر على الكتب والروايات الأدبية والكتب الفكرية والفلسفية والسياسية، كما يركز على الدراسات الأكاديمية للباحثين، حيث لاقت المكتبة إقبالًا من طلاب الدراسات العليا والأكاديميين من العرب والأتراك متحدثي اللغة العربية على المحتويات التاريخية الخاصة بالدولة العثمانية والسياسة التركية وتاريخها.
تعتبر مكتبة الشبكة العربية الموجودة أيضًا في حي الفاتح، من أكبر المكتبات العربية الموجودة في إسطنبول
كان الاختلاف بين فروع الشبكة في الدول العربية وإسطنبول هو الاختلاف في نوعية المحتوى، حيث كان طلب القارئ العربي في تركيا يميل إلى كتب تخص القضية السورية أو كتب خاصة بالسياسة التركية أو تاريخ الدولة العثمانية خصوصًا بعد توتر العلاقات بين بعض الدول العربية والحكومة التركية، والوضع السياسي بين تركيا وسوريا، مما أثر على طلب القارئ العربي داخل إسطنبول جراء الظروف المحيطة به.
منشورات الشبكة العربية للأبحاث والنشر
وجدت المكتبة إقبالًا عربيًا على بعض الروايات التركية المترجمة للعربية مثل روايات للكاتبة التركية “إليف شفق” والكاتب التركي “أورهان باموك” في حين أنه لا يوجد إقبال تركي على روايات هؤلاء الكتاب، ولهذا تطلب مشروع المكتبة العربية دراسة جيدة لذوق القارئ العربي لأنه يختلف نسبيًا عن القارئ العربي في الدول العربية.
اتفقت الشبكة العربية مع مكتبة تويتل في القلق من مخاطرة بيع كتاب عربي في بلد غير عربي رغم وجود جالية عربية كبيرة في تركيا، فالتوقعات لم تخيب آمال المكتبة، فعلى الرغم من حاجز اللغة، هناك إقبال ملحوظ من الجالية العربية والأتراك المهتمين بالتاريخ والأدب والدراسات التشريعية.
في حديثه معنا قال لنا محمد عبد العزيز إن المكتبة تنشر منشورات الشبكة العربية للأبحاث والنشر الموجودة بشكل كبير وملحوظ لأي زائر للمكتبة، وهي أكثر المميزات التي تميز مكتبة الشبكة العربية، كما يميزها أيضًا خدمة توصيل الكتب بالبريد لكل محافظات تركيا ولا تقتصر في عملها فقط على إسطنبول.
كتاب سراي.. من دمشق إلى إسطنبول
من داخل مكتبة “كتاب سراي”
من مكتبة في دمشق إلى مكتبة عربية في إسطنبول، تحدث إلينا صاحب المكتبة إبراهيم كوكي عن أحدث مكتبة عربية كان افتتاحها قبل يومين في نفس الحي الذي يضم المكتبات العربية الأخرى، حي الفاتح بإسطنبول.
تتميز مكتبة “كتاب سراي” بأنها أكثر من مجرد مكتبة تبيع الكتب العربية في إسطنبول، بل تهدف أن تكون مجتمعًا شبابيًا عربيًا بعيدًا عن الجو التقليدي للمقاهي والمطاعم العربية الموجودة في إسطنبول، ولهذا كانت فكرة صاحب المكتبة أن يكون هناك مكان يجتمع فيه الشباب العربي، وخصوصًا محبي القراءة، بحيث يكون ملائمًا لهواياتهم واهتماماتهم الثقافية، بحسب ما أخبرنا صاحب المكتبة في حواره مع “نون بوست”.
صورة من داخل مكتبة “صفحات” في حي الفاتح بإسطنبول
وجدت مكتبة “كتاب سراي” جالية عربية متنوعة مقبلة على المكتبة في يوم الافتتاح، جالية كان فيها الفلسطيني والعراقي والمصري والسوري، حيث توقع أصحاب المكتبة أن يكون الإقبال من الجالية السورية فقط، إلا أن الإقبال كان متنوعًا بشكل فاجأ أصحاب المكتبة.
وجدت المكتبة تسهيلات من الجانب التركي حينما تم إنشاء المكتبة، حيث تُرفع الضرائب نهائيًا على الكتب في فترة المعارض، إلا أنها تعتبر بضاعة تجارية يفرض عليها الأتراك، الضرائب؛ مما يرفع من سعر الكتب العربية نسبيًا في إسطنبول، ولكن يستغل أصحاب مكتبة “كتاب سراي” فترة المعارض لجلب أكبر كمية من الكتب وذلك لانعدام الضرائب في تلك الفترة.
تتميز مكتبة “كتاب سراي” بأنها أكثر من مجرد مكتبة تبيع الكتب العربية في إسطنبول، بل تهدف أن تكون مجتمعًا شبابيًا عربيًا بعيدًا عن الجو التقليدي للمقاهي والمطاعم العربية الموجودة في إسطنبول
من داخل مكتبة “صفحات” في حي الفاتح
يحتوي حي الفاتح على كثير من المكتبات العربية الأخرى المتنوعة في المحتوى، مثل مكتبة “صفحات” التي يوجد بها محتوى مختلف مترجم للعربية من الأدب الإنجليزي والروسي والكتب المترجمة الأكثر شعبية من الأدب غير العربي، كما تتميز بالأمسيات الثقافية المقامة في المكتبة، وطباعة ونشر كتب عربية من كتاب الجالية السورية في إسطنبول لم يُنشروا من قبل.
كما يوجد في نفس الحي بعض المكتبات المختصة بالمحتوى الديني التشريعي، مثل مكتبة “دار الخير” الإسلامية أو مكتبة “إرشاد” التي تحتوي على كتب فكرية خاصة بالتراث الإسلامي أو المفكرين الإسلاميين، واتفق أصحاب المكتبات على شيء واحد، أن مستقبل الكتاب العربي في إسطنبول واعدًا بشكل لم تره أي مدينة غير عربية من قبل، وربما تبدأ دور النشر بالانتقال شيئًا فشيئًا للطباعة في إسطنبول بدلًا من الاستيراد من الخارج.