في معظم حروبها ضد الفلسطينيين، اعتمدت العقيدة العسكرية الإسرائيلية على الانتصارات القصيرة والحاسمة، واتخاذ تدابير مصممة لتحديد نتائج المفاوضات مسبقًا حسب قواعد اللعب الإسرائيلية، فريق قوي أمام فريق ضعيف، بجانب أن هذا الفريق القوي مدعوم سياسيًا وعسكريًا من قوى عالمية.
إن استراتيجية التفاوض التي استخدمها الإسرائيليون طوال العقود السابقة درسها المؤرخ الإسرائيلي آفي شلايم في كتابه “الجدار الحديدي”، ويوضح شلايم أن الجدار الحديدي عبارة عن عقيدة استراتيجية ارتكز عليها الصهاينة، وتنص على أن أي مفاوضات للاحتلال مع الفلسطينيين يجب أن تتم في ظل ظروف عدم تكافؤ القوى، حيث تكون “إسرائيل” الطرف الأقوى الذي يملي إرادته ويحدد ما يمكن التحدث به وما يمكن أن يتم تبادل الضغط بشأنه.
عنصر رئيسي آخر في استراتيجية الجدار الحديدي هو دفع الفلسطينيين إلى اليأس وعدم ترك أي بصيص أمل لهم، ففي أثناء المفاوضات سيقدم الجانب الاسرائيلي طلبات وهو يعلم أن المفاوض الفلسطيني لن يرضى بها، وبالتوازي مع المفاوضات سيحسن الاحتلال موقفه من خلال العمل الميداني على الأرض من أجل زيادة الضغط على المفاوض الفلسطيني وأن تظل له اليد العليا.
ثم في جولات أخرى من المفاوضات سيفرض الاحتلال طلبات أقل من الأولى بحيث ييأس المفاوض الفلسطيني ويرضخ لشروط الاحتلال، وبهذا يكون المحتل قد نجح في ثني المقاومة عن مواصلة القتال، والأهم إبعادها عن مناقشة الملفات الرئيسية كالانسحاب والمستوطنات والحدود مثلًا، وبالنهاية يحقق الاحتلال صفقة تلبي بشكل أساسي مطالبه، بمعنى آخر؛ إن الفلسطينيين محكوم عليهم دائمًا بقبول ما رفضوه في السابق، وليجدوا أنفسهم يواجهون مرة بعد أخرى محاولات ابتزاز وتقديم تنازلات جديدة من أجل مستقبل غير محدد.
أصبحت استراتيجية الجدار الحديدي التي تبنتها جميع الحكومات الإسرائيلية بغض النظر عن لونها السياسي حجر الزاوية في معظم المفاوضات، وفي الواقع، يمكن النظر إلى تاريخ “إسرائيل” باعتباره تطبيقًا لهذه الإستراتيجية.
لكن بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول نجد أن هذه الاستراتيجية فشلت في إرغام الفلسطينيين على الخضوع، أو سحق إرادة المقاومة، بل يلاحظ أن معركة طوفان الأقصى لم تغير من قواعد الحرب فحسب، بل غيرت أسلوب وطريقة المفاوضات كذلك.
فبعد أن تحمل الفلسطينيون وطأة ما يزيد على 3 عقود من المفاوضات الفاشلة، تحاول المقاومة اليوم رغم كل الجهود لإضعافها والضغط عليها، تطبيق الدروس المستفادة من المفاوضات السابقة للفصائل الفلسطينية مع الاحتلال، ومن الواضح أنها تتعامل بأسلوب مختلف عن السابق، فكيف كانت المفاوضات في السابق وما الذي تكشفه مفاوضات المرحلة الحاليّة؟
المرحلة الأولى: البحث عن ضوء
من الممكن القول إن الخط الزمني للمفاوضات بين حماس والاحتلال مرّ بـ3 مراحل، المرحلة الأولى كانت بعد وقت قصير من اندلاع الانتفاضة الأولى ومنذ أن ظهرت حماس للعلن في 1987 حتي 2006.
خلال هذه الفترة، ركزت حماس على أسر جنود صهاينة ومبادلتهم بأسرى فلسطينيين، لكن لم تنجح معظم هذه المفاوضات نتيجة الوضع الخانق على الأرض، ومنذ 1987 حتى 2006 قامت حماس بـ8 عمليات أسر لجنود الاحتلال كانت تسعى من خلالها إلى الدخول في مفاوضات مع الاحتلال من أجل تحرير آلاف الأسرى الفلسطينيين.
وفاتحة عمليات الأسر التي قامت بها المقاومة كانت خلال الفترة 1988-1989 إذ تمكنت من القيام بعمليتين منفصلتين، في الأولى أسرت العريف إيلان سعدون، وفي الثانية أسرت الرقيب في وحدة القوات الخاصة الإسرائيلية آفي سسبورتس، وكان الهدف الذي أعلنته المقاومة هو التفاوض لتبادل الأسرى.
لكن بعد وقت قصير اعتقلت قوات الاحتلال الشيخ أحمد ياسين، واتهمته باختطاف وقتل سسبورتس وسعدون وحكمت عليه بالسجن المؤبد، أدى رفض الاحتلال الاستجابة للمفاوضات إلى إعلان المقاومة قتل الجنديين، ولم يتمكن الاحتلال من العثور على جثة إيلان سعدون إلا بعد مرور 7 أعوام على قتله.
ثم في 18 سبتمبر/أيلول 1992، أسرت القسام الجندي آلون كرفاتي قرب مخيم البريج وسط قطاع غزة، واضطرت لقتله بعد تجريده من لباسه العسكري ومصادرة سلاحه. وبعدها بقليل وفي عملية أسمتها المقاومة “الوفاء للشيخ أحمد ياسين” استطاعت أسر ضابط حرس الحدود الإسرائيلي نسيم طوليدانو في ديسمبر/كانون الأول 1992.
وطالبت القسام في ذلك الحين بتبادل طوليدانو بالشيخ أحمد ياسين، لكن رفض الاحتلال التفاوض، فقامت المقاومة بقتل طوليدانو بعد انتهاء المهلة التي حددتها. ورد الاحتلال على عملية القتل من خلال اعتقال 1300 من أعضاء حماس، وإبعاد 415 من قيادات حماس والجهاد الإسلامي إلى مرج الزهور في جنوبي لبنان.
وفي 20 أبريل/نيسان 1993 نجحت المقاومة في أسر الملازم شاهار سيماني، لكنه قاوم عملية الأسر وقتل على إثرها. ثم في أكتوبر/تشرين الأول 1994 أسرت المقاومة الجندي نخشون فاكسمان ومرة أخرى طالبت بالإفراج عن الشيخ أحمد ياسين و200 آخرين من السجون الإسرائيلية مقابل الجندي، لكن رفض الاحتلال الدخول في مفاوضات.
وحدثت توترات بين رابين وياسر عرفات رغم أن الأخير أدان أسر فاكسمان وأمر قوات الأمن الفلسطينية ببذل كل جهد ممكن للعثور عليه، لأنه اعتبر أن أسر الجندي الصهيوني يمثل إهانة شخصية له.
وعلى مدى الأيام القليلة التالية، اتخذت قوات الأمن التابعة لعرفات إجراءات صارمة واعتقلت أكثر من 400 من كوادر حماس، وبنهاية المطاف أدت تحقيقات السلطة الفلسطينية إلى تحديد مكان فاكسمان وأرسلت المعلومات إلى الجيش الإسرائيلي.
فذهبت قوات كوماندوز خاصة من جيش الاحتلال إلى مكان احتجاز الجندي، لكنها فقدت عنصر المفاجأة، ما أعطى جنود المقاومة الوقت الكافي لإطلاق النار على فاكسمان، وبعد تبادل كثيف لإطلاق النار، قُتل قائد القوة المقتحمة وأصيب 12 من جنود الاحتلال، واستشهد أفراد خلية حماس الذين فضلوا الموت على الاعتقال.
دفعت عملية فاكسمان السلطة الفلسطينية إلى قمع نشاط حماس بالتعاون مع “إسرائيل”، وهذه الفترة وصفها إبراهيم غوشة (مؤرخ وسياسي فلسطيني راحل، وقيادي سابق في حماس) بالتفصيل في مذكراته، وحسب غوشة فقد شكلت هذه الفترة نقطة تحول في العلاقة بين حماس والسلطة الفلسطينية، وأصبحت حماس تُعامل من السلطة الفلسطينية كملف أمني.
مع ذلك ورغم الحصار الأمني من السلطة الفلسطينية، استطاعت المقاومة في صيف عام 1996 أسر الجندي شارون أدري من مدينة القدس المحتلة، لكن كالعادة لم يقبل الاحتلال الدخول في المفاوضات وكانت الظروف غير ملائمة للاستمرار في أسر الجندي، فقتلته المقاومة.
قصة الأسير الإسرائيلي فاكسمان الذي قتلته نيران صديقة
ثم في عام 2005 أسرت خلية تابعة للقسام عضوًا في الشاباك الإسرائيلي يدعى ساسون نورائيل، وأصدرت حماس مقطع فيديو في 27 سبتمبر/أيلول 2005 يظهر فيه نورائيل وهو يتحدث باللغة العربية ويدعو إلى مبادلته بأسرى فلسطينيين في سجون الاحتلال. لكن سلطات الاحتلال رفضت التفاوض مع القسام وداهمت مكان احتجاز نورائيل، فقتلته المقاومة.
في الواقع، حاولت المقاومة خلال تلك المرحلة الدخول في مفاوضات مع الاحتلال بهدف تبادل أسراه بالأسرى الفلسطينيين وتحقيق إنجازات تتعلق بالقضية الفلسطينية، لكن المفاوضات القصيرة وعمليات أسر جنود الاحتلال لم تؤدِ إلى تحقيق أهداف المقاومة المعلنة، ورغم أن الاحتلال أظهر نفسه دائمًا بمظهر القوي المتغلب الذي لا يفاوض الإرهابيين، ولكن هذه العمليات شكلت زلزالًا للمجتمع الصهيوني.
المرحلة الثانية: محطة فارقة
“في ملف جلعاد شاليط لم تكن اسرائيل الجانب القوي في هذه المفاوضات، إنما حماس هي من كانت الجانب القوي”… يسرائيل حسون نائب رئيس الشاباك السابق
بعد أقل من 5 أشهر من تشكيل حماس الحكومة الفلسطينية على إثر فوزها الساحق في الانتخابات التشريعية، نفذ جناحها العسكري عملية أطلق عليها “الوهم المتبدد”، وقد نقلت الصراع مع الاحتلال في محطة مختلفة تمامًا. ففي صباح يوم الأحد 25 يونيو/حزيران 2006 وبالقرب من معبر كرم أبو سالم على الحدود الشرقية لمدينة رفح، اخترقت فرقة فلسطينية مسلحة من قطاع غزة الحدود عبر نفق يبلغ طوله 300 متر كانت قد حفرته مسبقًا.
ثم بعد عبور الحدود بفتره زمنيه قياسية، قسم المقاتلون أنفسهم إلى 3 مجموعات، الأولى لمهاجمة برج مراقبة، والثانية لتدمير ناقلة جند مدرعة، والثالثة للهجوم على دبابة ميركافا وأسر طاقمها، وبعد تبادل لإطلاق النار بين المقاتلين الفلسطينيين وجنود الاحتلال، انتهى الأمر باستشهاد اثنين من المقاتلين الفلسطينيين ومقتل جنديين إسرائيليين وجرح 5، ثم أسر العريف جلعاد شاليط من داخل الدبابة.
وبعد أقل من 15 دقيقة من الهجوم، انسحبت المجموعة الفلسطينية إلى غزة مع الأسير عبر النفق دون التمكن من تعقبهم، وأصبح شاليط أول جندي إسرائيلي تحتفظ به المقاومة الفلسطينية لمدة طويلة منذ أسر الرقيب نحشون فاكسمان في عام 1994.
كتائب القسام تكشف عن وحدة الظل
صُدم الاحتلال من العملية، وعندما فشلت كل وسائله في الوصول إلى شاليط، بدءًا من الغارات الجوية والعمليات العسكرية وحتى شن حرب شاملة، إلى الإغراءات والأموال الفلكية، اضطر الاحتلال بنهاية المطاف إلى التفاوض مع المقاومة التي يصنفها إرهابية، بعد أن وصل لقناعة بأنه لن يستطيع استعادة شاليط لا بمجهود عسكري ولا استخباراتي.
فكيف سارت أول تجربة مفاوضات للمقاومة مع الاحتلال التي استمرت على مدار أكثر من 5 سنوات؟ مع العلم أن حماس في ذلك الوقت كانت حديثة عهد بالمفاوضات مع الاحتلال وخاضتها وهي في سدة الحكم.
في الواقع، أدارت حماس التفاوض بحرفية شديدة، وبدأت المفاوضات أولًا مع وسطاء فرنسيين وأوروبيين وأيضًا مع محاولات تركية، لكن لم تكن مفاوضات جادة بالقدر الذي وصلت إليه مع الوسيط الألماني وضابط المخابرات جيرهارد كونراد.
ومن بداية المفاوضات رفضت المقاومة الإدلاء بأي معلومات عن شاليط دون ثمن، وكانت تسرب المعلومات قطرة قطرة، فمقابل شريط فيديو لمدة دقيقتين من شاليط، اشترطت المقاومة أن يفرج الاحتلال عن 20 أسيرة فلسطينية. ومن الملاحظ أن حماس في كل مفاوضاتها مع الاحتلال، أعطت الأولوية للنساء، فكن في أول القائمة وأول المطالب.
إفراج عن أسيرات مقابل معلومات عن شاليط
وعندما حاول الوسيط الألماني جيرارد كونراد المراوغة والعمل لصالح الاحتلال، أوقفت المقاومة التفاوض معه رغم أنها على مدار عام ونصف جلست مع هذا الوسيط الألماني أكثر من 70 لقاء.
في معظم الأحيان انتهت المفاوضات عبر قنوات مختلفة دون تحقيق اختراق للوصول إلى معلومة عن مكان الجندي الأسير، إذ أثبتت المقاومة قدرة كبيرة على مواجهة أساليب المخابرات الإسرائيلية، بجانب التيقظ في التعامل مع الأطراف العربية والأوروبية التي تدخلت لصالح الاحتلال.
وقد سُربت تقارير تقول إن مدير المخابرات المصرية وقتها عمر سليمان وأجهزة الأمن المصرية كانوا يستجوبون كل فلسطيني يخرج من غزة للعلاج في مصر، لا سيما بعد حرب 2009، حتى يكشفوا أي معلومة عن مكان شاليط، وحتى حركة فتح والأمن الفلسطيني بذلوا كل جهدهم لمعرفة مكان شاليط.
نظرة عن قرب للمفاوضات بين الفصائل الفلسطينية والاحتلال
ورغم الموقف السلبي لنظام مبارك وعمر سليمان بالوقوف جانب الاحتلال، وضغط وسطاء المخابرات المصرية على المقاومة للقبول بثمن بخس، صمدت المقاومة، فحين مارس عمر سليمان ضغطًا على وفد حماس من أجل القبول بالصيغة التي عرضها، ولوح بإمكانية أن تسوء المفاوضات مع رحيل حكومة أولمرت، رد وفد حماس قائلًا: “نطمئنك يا سيادة الوزير إذ أُغلق الملف وجاء نتنياهو سنأخذ الثمن الذي نريد”.
وهذا يدل على أن المقاومة استقرأت المشهد بشكل صائب، ولديها معرفة عميقة بالعدو والأهم عدم التسرع كما أراد عمر سليمان، وربما ذلك راجع لتصدر الجناح العسكري لحماس في هذه المفاوضات بعد أن كانت في البداية تدار بشكل أساسي من المكتب السياسي.
وحتى اللحظات الأخيرة في يوم إتمام الصفقة، لم تثق المقاومة بالاتفاق مع الجانب الإسرائيلي، فيذكر الأسير المحرر عبد الحكيم حنيني أن كتائب القسام ضاعفت من احتياطاتها الأمنية تحسبًا للغدر وقامت بعمليات تمويهية عند تسليم شاليط من أجل تضليل العدو.
فكانت قوافل السيارات العسكرية المتشابهة تأتي الى المعبر ثم تغادر تحسبًا لأي خيانة إسرائيلية، ورافقت شاليط فرقة كاملة من الاستشهاديين، وكان قرار القسام إذا كان هناك أي خيانة، فستفجر الفرقة نفسها.
لقد أجبرت المقاومة الاحتلال على دفع ثمن باهظ، فكانت تلك الصفقة التي أطلق عليها “وفاء الأحرار” هي الأضخم بين صفقات المقاومة وبداية لمرحلة مفاوضات جديدة، وقد تعهدت المقاومة ساعتها بأسر المزيد من الجنود الإسرائيليين، وقال أبو عبيدة المتحدث باسم القسام “لن نستسلم حتى تبييض السجون، لقد انتهى فصل ولكن هناك فصول أخرى”.
وفي الحقيقة لم تنجح المقاومة في الإفراج فقط عن أكثر من ألف أسير من كل جغرافيا فلسطين مقابل جندي واحد، بل إن العديد من المفرج عنهم هم من قادوا طوفان الأقصى وأسقطوا أسطورة “إسرائيل” في 7 أكتوبر/تشرين الأول.
استراتيجية حماس الجديدة في التفاوض بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول
“إن ملف الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال سيكون هو الصاعق والمفجر لتلك المفاجئات القادمة للعدو”… مروان عيسى نائب قائد أركان كتائب القسام
لا شك أن مفاوضات شاليط كانت استثنائية وقفزة في تاريخ المفاوضات مع الاحتلال، واستطاعت المقاومة التغلب على الخلل الهائل في توازن القوى مع الاحتلال، وبالفعل أسست هذه المفاوضات لما بعدها، وهو ما تنبهت له الأوساط الإسرائيلية التي رأت الصفقة غير متوازنة، وقالت “إسرائيل” إن ما دفعته من ثمن لن يتكرر.
وقد وصف المحلل الإسرائيلي دان شوفتان صفقة شاليط بأنها “أعظم انتصار حققه الإرهاب منذ نشأة إسرائيل”. ومن الملاحظ أن الاحتلال بعد هذه الصفقة حاول أن يغلق كل الطرق لإمكانية بقاء ورقة الأسرى بيد المقاومة، إذ تخشى الحسابات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية من تكرار صفقة شاليط.
ومنذ عدة سنوات والمقاومة تطالب بالإفراج عن الأسرى الفلسطينيين، ففي أوائل عام 2021، أعلنت القسام أسر 4 جنود إسرائيليين خلال حرب 2014، لكن المفاوضات لم تستمر بسبب محاولة “إسرائيل” خلط الأوراق وإضافة شرط إعادة إعمار المنازل التي دمرتها في غزة مقابل أسراها.
وهو الأمر الذي رفضته المقاومة وأصرت بعد ذلك على عدم الدخول في المفاوضات قبل الإفراج عمن أفرج عنهم الاحتلال في صفقة شاليط ثم أعاد اعتقالهم مرة أخرى. وعلى لسان السنوار أمهلت المقاومة الاحتلال وقتًا محدودًا لإتمام صفقة تبادل الاسرى وإلا ستجد طريقة أخرى لتحرير الأسرى الفلسطينيين.
ورغم أن “إسرائيل” اعتادت أن تفاوض عندما يكون ميزان القوى لصالحها، وتحاول اليوم إعادة بناء الجدار الحديدي الذي تحدث عنه آفي شلايم، وترسيخ فكرة التعامل مع الفلسطينيين من موقع قوة عسكرية لا يمكنهم التغلب عليها لتحقيق أهدافهم السياسية، لكن الميزان تغير لحد كبير بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فأسهم المقاومة تضاعفت ومشروعية الاحتلال اهتزت حتى في عين المحتلين أنفسهم، والمفاوض الفلسطيني اليوم ورغم كل الدمار والجرائم التي لا تطاق، أضحى أكثر وعيًا بكثير عن السابق وأطول نفسًا وصبرًا وتحملًا، خاصة مع التجارب التي مرت بها المقاومة في مفاوضة الاحتلال.
ويمكننا أن نرصد 5 دروس أساسية خرجت بها المقاومة من مفاوضاتها السابقة مع الاحتلال، وتحاول حاليًّا تطبيقها بحرفية شديدة:
الدرس الأول: هو أن المقاومة على الأرض يجب أن تتحرك بالتوازي مع المفاوضات على الطاولة، لقد حاول الاحتلال في أحيان كثيرة تكثيف الجهد العسكري في وقت المفاوضات بهدف الضغط على المقاومة وجعلها في موقف ضعيف، بجانب استخدام المساعدات الإنسانية الغذائية وشريان الحياة الرئيسي للقطاع كملفات قابلة للابتزاز والمساومة في المفاوضات!
وهذا إضافة لاستهداف عائلات المفاوضين وأقاربهم كوسيلة ضغط، لكن يبدوا واضحًا أن هذا الضغط الذي ما زال مستمرًا حتى اللحظة لم يدفع المقاومة لأخذ منحى الاستسلام، لقد تجاوزت معظم الصدامات.
الدرس الثاني: التركيز على اتفاق دائم بدلًا من اتفاق مؤقت لوقف إطلاق النار، لا تريد المقاومة أن تقوم بمجرد عقد صفقة مع الاحتلال للإفراج عن الأسرى وبعدها يستأنف الاحتلال الإبادة وينشغل الناس مرة أخرى بنفس سيناريو ظروف الحصار الصعبة التي خلقها الاحتلال.
د.غازي حمد عضو لجنة التفاوض
الدرس الثالث: هو أن الاتفاقيات لا معنى لها دون الوفاء بتنفيذها، وهنا تسعى المقاومة لإدخال ضمان لأي اتفاق بينها وبين الاحتلال، فنتيجة للماضي القريب المليء بالاتفاقيات التي تم التفاوض بشأنها ولكن اخلف الاحتلال العهود ولم يلتزم بما وقّع عليه، أصبح المقاومون يدركون أن أي اتفاق مع الاحتلال دون ضامن لتنفيذه، لا معنى له في الأساس.
خاصة أن نتنياهو لا يلتزم بكلمته، فهو من أكثر ساسة الاحتلال الذين لم يلتزموا بالاتفاقات التي وقّع عليها، وفي أحيان كثيرة استخدم الاتفاقيات من أجل التلاعب والتملص وإعادة التفسير على ما يهوى.
الدرس الرابع: استغلال عامل الوقت والابتعاد عن المفاوضات في الوقت المناسب، فحين قصف الاحتلال مستشفى الشفاء انسحبت المقاومة من المفاوضات وقطعت التواصل لعدة أيام مع الوسطاء، ومن الواضح أن حماس لم تتماه مع الألاعيب الإسرائيلية، وحاليًّا لم تبدِ المقاومة المرونة التي أبدتها في البداية، خاصة بعد اجتياح رفح. ولذا من الممكن القول أن سياسة التفاوض تحت الضغط العسكري لن تجدي نفعًا مع المقاومة.
الدرس الخامس: إدخال وسطاء آخرين في المفاوضات غير الوساطة المصرية، والتعامل مع الجانب المصري باعتبار الوضع الجغرافي، وهذا الدور الجديد للوسطاء الجدد كدخول قطر على خط المفاوضات، قد خدم المقاومة، بحيث إذا ما مورس عليها ضغط من الوسيط المصري يكون لديها قنوات تواصل أخرى.
خاصة أن قطر خاضت بالفعل وساطات ناجحة أنهت صراعات وأزمات في جغرافيات عدة. ويلاحظ أن الدور المصري حاليًّا بات دورًا إجرائيًا بينما تفاصيل المفاوضات تحدث في الدوحة.
مدرسة المقاومة أم مدرسة أوسلو
إن المفاوضات كما أجرتها حماس في كل جولة مع الاحتلال تجري كطرف لا ينظر لنفسه على أنه أقل من الكيان الصهيوني، طرف فارض لما يريد لا تنفذ إرادة الخصم فيه، وليس كمفاوضات الأطراف الأخرى التي قدمت تنازلات كثيرة وبسهولة، وظهر أنها غير كفء ولا تملك أي خبرة أو دهاء سياسي لكسب ما يصب بخدمة الشعب الفلسطيني، وبالنهاية قادت الشعب الفلسطيني من مأساة إلى أخرى.
إسماعيل هنية: شعبنا لن يستسلم والمقاومة ستواصل الدفاع عن حقوقنا في وجه هذا العدو المجرم#حرب_غزة pic.twitter.com/UrQ6sjBYyL
— قناة الجزيرة (@AJArabic) June 8, 2024
ومع مرور أكثر من 3 عقود على طريق أوسلو، وفشل الجولات الـ3 الرئيسية من المفاوضات بشأن التوصل إلى اتفاق دائم، يظل السؤال اليوم، إلى أين ذهب الفلسطينيون وماذا حصدوا؟ فمنذ أوسلو والضغوطات مستمرة على الجانب الفلسطيني لتقديم المزيد من التنازلات، و”إسرائيل” كل يوم تحصل على مبادرات وعروض سخية من الأنظمة العربية.
بجانب استمرار الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة لاتفاقات أوسلو وتوسع النشاط الاستيطاني بشكل منهجي ومكثف، والوضع اليوم على الأرض في القدس الشرقية والضفة الغربية يغلي على ضوء الهجمات المستمرة التي يشنها المستوطنون ضد الفلسطينيين وممتلكاتهم.
الأمر الذي يفتح تساؤلات عن النتائج المؤلمة على الأرض وفشل مفاوضات السلطة الفلسطينية في تحقيق ولو الحد الأدنى من طموحات ومطالب الشعب الفلسطيني، فضلًا عن ضمان وقف النشاط الاستيطاني طوال العقود الماضية، والإخفاقات المتكررة على طاولة المفاوضات، التي للأسف عمقت الاحتلال الإسرائيلي، وقوضت من مصداقية ومكانة السلطة الفلسطينية.
في المقابل، قدمت المقاومة نموذجًا مختلفًا في المفاوضات رغم الضغوطات التي مورست عليها، فالطريقة التي تجري بها المفاوضات فعالة وتعزز من دورها كمدافع عن القضية الفلسطينية مقابل جهات أخرى تماهت مع الاحتلال ولم تنجح في الإفراج خلال السنوات الماضية عن أي أسير فلسطيني.
بجانب ذلك، أثبتت المقاومة أن لديها إرادة قوية على التفاوض والتصدي لمكر الصهاينة وتمثيل الفلسطينيين وعدم التنازل عن حقوقهم الأساسية، من المهم أن ننظر إلى الوراء على مدى الـ33 عامًا الماضية من المفاوضات وإلى إرث اتفاقيات أوسلو ومفاوضات الرئيس محمود عباس ودبلوماسيته، لمعرفة الجهود التي تقوم بها المقاومة حاليًّا في المفاوضات.
وإذا كانت مفاوضات شاليط بعد أكثر من 5 سنوات من القدرة العالية من التفاوض والصبر الاستراتيجي قد حررت من قادوا طوفان الأقصى وأسقطوا أسطورة الجيش الذي لا يقهر في 7 أكتوبر/تشرين الأول، فليس من المستبعد أن تنجر “إسرائيل” إلى عملية تفاوض أخرى وتتكرر “وفاء الأحرار” من جديد.