المهمة المستحيلة.. لماذا يفشل المبعوثون الأمميون في البلدان العربية؟
بدأت مسيرة المبعوثين الأمميين إلى الدول العربية مع الحرب اللبنانية، ثم تكررت في السودان والعراق والصومال ثم ليبيا، وليس أخيرًا في الأزمة السورية واليمنية.
أزمات لفتت انتباه الأمم المتحدة التي سارعت كعادتها لتعيين مبعوثين ضمن مهام أممية قيل إنها ستؤدي دورًا إطفائيًا لإخماد نيران الحرائق العربية هنا وهناك، غير أن الحصاد جاء بعيدًا عن الآمال المعقودة.
أثبتت السنوات الماضية التي أعقبت ثورات الربيع العربي فشلاً معلنًا وآخر ضمنيًا للمبعوثين الأمميين، مما يدفع للتساؤل عن أسباب ذلك الفشل والأسباب الممكنة لتلافيه.
مبعوثو ليبيا.. الجري في ماراثون مزنٍ
اختلفت الصورة في ليبيا عن باقي دول الربيع العربي، وسرَّعت التقارير عن انتهاكات العقيد الراحل معمر القذافي التدخل الدولي الممهور بختم حلف الناتو، وبعد أسابيع من اندلاع ثورة ليبيا يوم 17 من فبراير/شباط 2011، عينت الأمم المتحدة وزير الخارجية الأردني الأسبق عبد الإله الخطيب مبعوثًا أمميًا خاصًا للعمل عن كثب مع الحكومات الإقليمية والمجتمع الدولي لتنسيق رد سريع وفعال وضمان الانتقال إلى نظام حكم ديمقراطي في ليبيا.
ومع استمرار الثورة الليبية وتحولها إلى مسلحة، أجرت الأمم المتحدة تغييرًا في مقاربتها للوضع الليبي فأنشأت في سبتمبر/أيلول 2011 “بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا” (أونسميل)، وتبدلت المعطيات بعد سقوط طرابلس في أيدي الثوار أواخر أغسطس/آب 2011، وعُين البريطاني إيان مارتن رئيسًا للبعثة لرعاية المسار الديمقراطي.
المشهد تعقد أكثر بحضور اللبناني طارق متري، وأعلن بعد توليه مهام منصبه بشهور أن انتخابات ليبيا “لم تكن مثالية” نظرًا للصعوبات الأمنية، وفي 19 من يونيو/حزيران 2013 انتقد قانون العزل السياسي معتبرًا أنه “يكرس الإقصاء”، وشدد على ضرورة الجلوس للحوار، لكنه عاد في يوليو/تموز 2014 ليؤكد أن القوى الليبية المتصارعة “ضيعت فرصة الحوار“.
كثير من الأطراف الليبية أكدت أن ارتفاع مستوى العنف كان بسبب سياسة ومبادرات المبعوث الأممي
ومع تعقد الأزمة الليبية وانشطار مؤسساتها وأحزابها، باشر الإسباني برناردينو ليون الوساطة خلفًا لسابقه متري، لكنه لم يتمكن من إيجاد مخرج، خاصة بعد أن رفضت الأطراف الليبية المسودات الثلاثة التي اقترحها ليون.
وبعد أربعة ممثلين، شغل الألماني مارتن كوبلر منصب المبعوث الأممي لدى ليبيا، لكنه فشل في إنفاذ الاتفاق السياسي الموقع برعاية الأمم المتحدة بين الأطراف الليبية منذ ديسمبر من عام 2015، لينهي ولايته التي امتدت من أكتوبر/تشرين الأول 2015 وحتى يونيو/حزيران 2017، وسط تساؤلات وانتقادات بشأن قدرته على حلحلة الأوضاع التي تشهد انسدادًا سياسيًا وتصعيدًا عسكريًا كبيرًا.
المبعوث السادس حتى الآن، واللبناني الثاني بعد “متري”، كان غسان سلامة الذي تبدو مهمته شبه مستحيلة، نظرًا لتواصل الأزمة السياسية في البلاد، وما زادها تعقيدًا دعوة حكومة الوفاق الوطني إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية في مارس/آذار المقبل، وما لقيه من معارضة من مجلس النواب بطبرق، بل إنّ كثيرًا من الأطراف أكدت أن ارتفاع مستوى العنف كان بسبب سياسة ومبادرات المبعوث الأممي.
مبعوثو اليمن.. البحث في كومٍ من الرمال المتحركة
بعد أقل من شهرين من اندلاع الثورة في اليمن يوم 11 من فبراير/شباط 2011؛ دخلت دول خليجية على خط الوساطة، وقدمت “المبادرة الخليجية” للتوسط بين المحتجين ونظام المخلوع الراحل علي عبد الله صالح، ويبدو أنها كانت تعي أن الفوضى باليمن ستؤثر على أمنها القومي.
وبرز أيضًا في الوساطة بين صالح والمحتجين اسم البريطاني من أصل مغربي جمال بن عمر الذي عُين مبعوثًا دوليًا (أبريل/نيسان 2011 – أبريل/نيسان 2015)، وبدأ ابن عمر مهمته منذ تعيينه بترحيب من مختلف الأطراف اليمنية سياسيًا وشعبيًا.
ومع مرور الوقت، فقد ابن عمر ثقة بعض الأطراف بعد اتهامه بالتساهل مع الحوثيين، ومن ثم فشلت مهمته، ودخلت البلاد في أتون حرب أهلية، وشن تحالف بقيادة السعودية عملية “عاصفة الحزم” يوم 26 من مارس/آذار 2015 ضد انقلاب الحوثيين، ليقدم ابن عمر بعدها استقالته بعد خمس سنوات من الخطوات المتعثرة في الرمال المتحركة.
وبعد غرق اليمن في الاحتراب جيء بالمبعوث الأممي الجديد الموريتاني إسماعيل ولد شيخ أحمد لإنقاذ الموقف، إلا أنه في رأي النقاد لم يقدّم شيئًا جديدًا لحل الصراع الداخلي في اليمن سوى “الجولات المكوكية غير ذات الفائدة على الأرض”.
وبعد ثلاثة أعوام تقريبًا، شكل ولد الشيخ أحدث حلقة في سلسلة تنحي مبعوثي الأمم المتحدة، وجاءت الاستقالة بعد الضغوطات الدولية على الأمم المتحدة بوقف الحرب ورفع الحصار ودخول المساعدات الإنسانية إلى اليمن، وفشل الأمم المتحدة في وضع السعودية بالقائمة السوداء، وعدم كفاءة التحالف العربي عسكريًا في ميادين القتال.
رحل ولد الشيخ وجاء البريطاني مارتن غريفثتس خلفًا له، لكن بقي الملف اليمني لغزًا للأمم المتحدة والتحالف العربي، فهل ينجح المبعوث الجديد خلال المفاوضات القادمة في حله؟
مبعوثو سوريا.. المشي في حقل من الألغام
دفع واقع الثورة السورية لإرسال بعثة مراقبين شكلتها الجامعة العربية في ديسمبر/كانون الثاني 2011 برئاسة الدبلوماسي السوداني السابق محمد الدابي “لتفقد الأوضاع بسوريا”، واستمر عمل الفريق قرابة الشهر.
لم يجف حبر استقالة الدابي حتى عيّنت الأمم المتحدة الأمين العام السابق للمنظمة الدولية كوفي عنان مبعوثًا عربيًا ودوليًا مشتركًا (23 من فبراير/شباط 2012 – الثاني من أغسطس/آب 2012) وقدم خطة للسلام ووقف الحرب في البلاد، لكنه اصطدم بأفق مسدود سياسيًا وأمنيًا وعسكريًا، مما دفعه لتقديم استقالته في الثاني من أغسطس/آب 2012.
استقالة عنان طرحت تساؤلات كثيرة عن إدارته لمهمته وللأزمة، ثم تكرر الأمر نفسه مع الدبلوماسي الجزائري الأخضر الإبراهيمي (الأول من سبتمبر/أيلول 2012 إلى 31 من مايو/أيار2014)، الذي أعلن فشل مهمته بعد وصول مفاوضات “جنيف 2” إلى طريق مسدود.
خلال جولات جنيف الأربعة راوح دي ميستورا مكانه دون تحقيق تقدُّمٍ يُذكر أو يكسر الجمود في الأزمة السورية
إقرار الإبراهيمي بفشله لم يمنع الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون من تعيين مكانه السياسي والدبلوماسي السويدي ستيفان دي ميستورا في يوليو/تموز 2014؛ ليكشف تعيينه أزمة المبعوثين الأمميين إلى سوريا وإضاعتهم البوصلة وضلالهم طريق الحل.
وبدا دي ميستورا المبعوث الثالث إلى سوريا، وكأنه يدور في حلقة مفرغة منذ خلافته للأخضر الإبراهيمي، وسجل هو الآخر فشلًا واضحًا في أداء أيّ دور إيجابي، ولم يتمكن من تحقيق خفض لمستوى العنف حتى في بعض المواقع التي كانت أطراف الصراع لديها بعض الاستعداد للوصول إلى هذه الغاية.
وخلال جولات جنيف الأربعة راوح دي ميستورا مكانه دون تحقيق تقدُّمٍ يُذكر أو يكسر الجمود في الأزمة السورية، فالأمم المتحدة ومبعوثوها أطالوا الأزمات، ويكسبون الوقت ويستخدمون جملًا دبلوماسيةً وعباراتٍ لبقةً لإرضاء الأطراف، ولا شيء من ذلك تحقق سوى الاحتفالات والمؤتمرات الصحفية التي باء آخرها بالفشل في سوتشي منذ أيام قليلة.
فشل أم إفشال؟
أثبتت السنوات الماضية فشل هيئة الأمم المتحدة في حل النزاعات الدولية إلّا في بعض النزاعات التي كانت الولايات المتحدة الأمريكية طرفًا فيها في العقديْن الأخيرين، والمثال الساطع هو الصراع العربي الإسرائيلي منذ قرار التقسيم عام 1947 إلى يومنا هذا، وما يزيد على سبعة عقود من الفشل الذريع في حل هذا الصراع.
الفشل يتكرر اليوم، حتى أصبح المشترك في نتائج الجهود التي يبذلها المبعوثون الدوليون إلى بلدان ثورات الربيع العربي التي تعاني من الأزمات، أنها تصل إلى طريق مسدودة، بما يشكل فشلًا للأمم المتحدة والمجتمع الدولي، وإحباطًا شخصيًا للمبعوثين الذين يُختارون عادة استنادًا إلى قدراتهم وخبراتهم ومعرفتهم بواقع الأزمات.
وأظهر فشل المبعوثين إلى كل من سوريا واليمن وليبيا أزمتهم في إمكانية إيجاد حلول سياسية لأزمات بلدان ثورات الربيع العربي التي أرسلوا إليها، وترجع أسباب الفشل، في جميع الحالات المذكورة، بالأساس إلى افتقار المجتمع الدولي لإرادة موحدة في التعاطي مع الأزمات التي تعصف ببعض البلدان العربية.
ومثلت الانقسامات البينية العربية والإقليمية عاملًا سلبيًا على هذا الصعيد، فأي قرارات تصدر عن الأمم المتحدة تحتاج إلى إجماع دولي على تطبيقها، وتعاون عربي وإقليمي لا يمكن من دونه أن تنجح الجهود المنظمة الدولية وتترجم قراراتها.
لعل من بين أسباب أزمة المبعوثين أنهم لا ينظرون إلى جذور وأسباب الأزمات الحاليّة
وإن كانت أسباب الفشل في إيجاد حل أممي للأزمات التي تعصف ببلدان الثورات العربية تعود في الأصل إلى تناقضات واختلافات الدول الفاعلة في المجتمع الدولي، وافتقار المجتمع الدولي لإرادة موحدة في التعاطي معها، فإن الانقسام في مجلس الأمن الدولي – خاصة تصلب الموقف الروسي – أفضى إلى تشكيل دور أممي معيق لحل الأزمات.
وتري قراءات أن الجانب الآخر للفشل يكمن في بعض المبعوثين أنفسهم، نظرًا لقلة إلمامهم بظروف الأزمات وطبيعة المناطق التي يزرونها سريعًا ويخرجون من تعقيداتها بشكل أسرع، ويرى منتقدو تلك المهام أن فشل جهودها يعود إلى انحياز من القائمين عليها لأطراف في الأزمة على حساب أخرى.
ولعل من بين أسباب أزمة المبعوثين أنهم لا ينظرون إلى جذور وأسباب الأزمات الحاليّة، ففي الحالة السورية مثلاً تعامل جميع المبعوثين الأمميين إلى سوريا مع القضية السورية بوصفها نزاعًا مسلحًا بين طرفين، ولم يأخذوا في الحسبان التعامل مع المسألة السورية من جانبيها الأخلاقي والإنساني، بل كان المبعوثون يساوون بين الضحية والجلاد.
المبعوثون الأمميون أيضًا ملتزمون بالدفاع عن مصالح الولايات المتحدة قبل كلّ شيء آخر، ولأنّ الولايات المتحدة عادةً ما تكون مع طرف ضد طرف آخر في الأزمات المختلفة، فالنتيجة تكون واضحة، أي فقدان هؤلاء المبعوثين للقدرة على إنتاج حلول تستجيب لمصالح الأطراف المنخرطة في الصراع، الأمر الذي يسهل الوصول إلى الحلول.
وتستمر أزمات لعالم العربي منتظرة مهام مبعوثين مختلفين تنتهي جهودهم إلى ضوء ما في آخر النفق.