تتميز الأمسيات الشتوية بأجوائها الهادئة والنسمات الباردة التي تحمل في طياتها الحيوية والنشاط رغم البرد القارس أحيانًا، فالشتاء يفضله الشعراء والأدباء بشكل خاص لأنه يمثل عندهم فصل الإبداع والتألق وساعات الليل الطويل التي تحفزهم على الإنتاج الأدبي والكتابة الإبداعية.
ذات أمسية شتوية دافئة نوعًا ما، قررت رفقة اثنين من الأصدقاء التوجه إلى عاصمة إفريقية كانت مجاورة لبلدي التي انقسمت مؤخرًا إلى دولتين، كان هدفنا من الرحلة مهمة عمل سريعة، تقع العاصمة المقصودة في منتصف القارة السمراء تقريبًا لكنها تميل إلى الشرق في المنطقة التي تعرف بـ”القرن الإفريقي”.
كانت الساعة تشير إلى تمام الثامنة صباحًا عندما نبه الكابتن إلى اقتراب الطائرة من الهبوط في مطار “جومو كينياتا” الدولي في العاصمة الكينية نيروبي، اعتدلنا في مقاعدنا وأخذت أسترق النظر إلى الفضاء الخارجي، السماء ملبدة بالغيوم رغم أن الوقت شتاء وليس الصيف الذي تشتهر ربوع إفريقيا فيه بهطول الأمطار الغزيرة، ومع ذلك هبط بنا الطائر الميمون في سلاسة تامة دون أدنى متاعب من الغيوم الداكنة التي تظلل سماء العاصمة بأكملها.
خرجنا من الطائرة ووجدنا الجو معتدلًا مائلًا إلى البرودة، إلا أن ابتسامات أطقم الموظفين في المطار وترحيبهم بالقادمين كان كافيًا لأن نشعر بالأمان والدفء من الرهق الذي لازمنا في الرحلة الطويلة التي استمرت زهاء 6 ساعات.
المطار يبدو لا بأس به من ناحية البنية التحتية، توجد سوق حرة تحتوي على المنتجات التقليدية، ومنها الشاي الكيني الشهير بالإضافة إلى الصناعات الجلدية والتحف التي تصنع يدويًا، إلى جانب عشرات المقاهي ومحلات الصرافة لتبديل العملات وشركات السياحة التي تقوم بعمل الحجوزات الفندقية وتأمين سيارات الأجرة للراغبين.
سلاسة وسهولة في إجراءات الدخول
مضت إجراءات الدخول في المطار بسلاسة على غير ما كنا نتوقع، فقد وجدنا معاملة راقية ولوحات إرشادية تنبهنا لأخذ تأشيرة عند الوصولON arrival، حيث أعفت السلطات الكينية كل المواطنين الأفارقة من تأشيرة الدخول المسبقة تشجيعًا لزيارة البلاد.
استبدلنا بعضًا من نقودنا بالعملة المحلية في المطار (الدولار الأمريكي = 102 شلن كيني)، واستقللنا سيارة أجرة نقلتنا إلى فندق جميل وبسيط في الوقت نفسه يقع في وسط العاصمة الصاخب الذي لا يهدأ ولا ينام.
أخذنا قسطًا من الراحة، فقد كنا متعبين من الرحلة الطويلة، تناولنا وجبة الغداء بعد الظهر مصحوبًا بكاسات من الشاي الكيني الشهير، ثم رأينا أن نستكشف معالم المدينة التي فتحت ذراعيها لنا بأريحية في أثناء تجوالنا في طرقاتها وأحيائها الخضراء الممتدة على مد البصر.
معالم نيروبي
بدأنا الجولة سيرًا على الأقدام، من متحف كينيا الوطني الذي يقع بالقرب من فندقنا، ويضم المتحف الضخم آثار (ليكي) الخاصة بالقبائل الكينية القديمة، وعصور ما قبل التاريخ، ويحتوي كذلك على معارض جيولوجية، ويمكن لزائريه مشاهدة أنواع من الفراشات والطيور والحيوانات المحنطة في غرفة، إضافة إلى أعمال تعبر عن الفن الإفريقي التراثي والمعاصر، كما توجد في إحدى جنباته حديقة للثعابين، والمتحف، بلا منازع، المكان الأنسب للتعرف إلى تاريخ كينيا وحضارتها.
كما يحكي المتحف عن فترة الاستعمار البريطاني التي تعرضت له البلاد منذ العام 1885، حيث ذاق الشعب الكيني مرارة الاحتلال الذي ولد شعورًا بالغضب عند الشعب الكيني وأدى إلى تولد حركة تحريرية عرفت باسم حركة “الماو ماو” في الخمسينات، استمر نضال الكينيين وكفاحهم ضد الاستعمار حتى حصلوا على استقلالهم في الـ12 من أكتوبر/تشرين الأول عام 1963، وأصبح جومو كينياتا رئيسًا للبلاد بعد الاستقلال ومنه اشتق اسم الدولة كينيا”.
متنزه نيروبي الوطني: على بعد كيلومترات قليلة من المتحف يوجد المتنزه الذي يحيط بالعاصمة، وتبلغ مساحته 114 كيلومترًا، ويضم مجموعة متنوعة من الحياة البرية، فهناك نحو 300 نوع من الطيور، كما توجد حيوانات وحيد القرن وأفراس النهر والفهود والظباء والأسود والزرافات وأنواع من الغزلان، ويحظى المتنزه بمساحات واسعة من الأشجار والوديان والمناطق العشبية الممتدة والمسطحات المائية والأودية ونقاط المراقبة.
ولعشاق السفاري، يمكن معايشة هذا النوع من الرحلات داخل هذا المكان المسيج من ناحية المدينة، لكنه مفتوح من الجهة الأخرى للحيونات البرية التي تتجول فيه بحرية تامة!
مركز المال والأعمال
توجد في مدينة نيروبي مواقع تجارية تمتد على مساحة تصل إلى 20 كيلومترًا، ومن بينها مقر الأمم المتحدة الموجود في الضاحية الشهيرة “قيري” في القسم الشمالي من المدينة، وأيضًا مستشفى كينياتا الوطني الواقع في القسم الجنوبي من المدينة، ونجد في وسط العاصمة مركزًا تجاريًا شهيرًا (نسيت اسمه)، إضافة إلى مركز البرلمان الكيني، وأيضًا هنالك كاتدرائية العائلة المقدسة، إضافة إلى محاكم نيروبي المعروفة، وأيضًا مركز كينياتا للمؤتمرات.
وتتميز هذه المدينة بتأثيرها السياسي والمالي، إذ إنها تحتضن نحو 100 شركة عالمية والعديد من المنظمات الدولية، وتعرف نيروبي بأنها سوق للأوراق المالية العالمية والإفريقية.
انتهت جولتنا الأولى مع مغيب الشمس لأن المحال التجارية تسارع إلى إغلاق أبوابها في تلك الساعة المبكرة عدا أماكن السهر والديسكوهات التي تظل مفتوحة حتى الساعات الأولى من الصباح.
الاقتصاد الكيني.. نمو ثم انخفاض
برزت كينيا كقوة اقتصادية لها ميزاتها وتمتلك مقومات النجاح واجتياز الأزمة الاقتصادية التي باتت تهدد العديد من أسواق دول أخرى “ناشئة” في القارة، كما أنها من المحتمل ألاَ تشهد أي نوع من تقلبات وتحولات أسعار العملات والتي تحدث حاليًا في بلدان أخرى إفريقية مثل نيجيريا وجنوب إفريقيا.
السياحة في كينيا أكبر مصدر لإيرادات العملات الأجنبية للدولة إضافة إلى تصدير البن والشاي
وكانت كينيا في وقتٍ سابق، أكبر اقتصادات شرق إفريقيا، وذلك بسبب الترويجات التي قامت بها حكوماتها السابقة للمستثمرين، وتشجيعها للإنتاج الزراعي والاستثمار الصناعي الخاص؛ مما أسفر عن زيادة نمو الناتج المحلي الإجمالي للبلاد (GDP) من عام 1963 إلى عام 1973 بمتوسط سنوي نسبته 6.6%، غير أن الأداء الاقتصادي الكيني أقل بكثير من إمكاناتها خلال 1980 – 1990، حيث يُعتبر اقتصادها من عام 1991 إلى عام 1993 الأسوأ منذ الاستقلال.
وفي التسعينيات، أصدرت الحكومة الكينية سلسلة من التدابير الإصلاحية الاقتصادية وتم تنفيذها لتحقيق الاستقرار واستعادة النمو المستدام، بما في ذلك رفع الضوابط الإدارية على أسعار المنتج والتجزئة، والواردات والعملات الأجنبية وتسويق الحبوب، وعلى الرغم من ذلك، كان معدل النمو أقل من نسبة نمو عدد السكان المقدر بـ2.5% سنويًا؛ مما أدى إلى انخفاض في نصيب الفرد من الناتج المحلي.
وتعتبر كينيا المقصد المفضل عندما يتعلق الأمر برحلات السفاري في إفريقيا، كما أن السياحة أكبر مصدر لإيرادات العملات الأجنبية للدولة، إضافة إلى تصدير البن والشاي وتلك موضوعات سنعود إليها بالتفصيل.