نعود إلى السؤال بروح خلدونية هل تمدن العرب مدمر لحرياتهم؟ وإذا كان التمدن غاية البدوي يجري إليها، فهل البدوي يعمل على تدمير حريته بنفسه راضيًا بالخنوع؟ مثار السؤال عندنا النكوص الجماعي عن ثورة الربيع العربي والبرود الشامل عن مناصرة غزة في محنتها، رغم الأمل الجلي في احتمال تحررها بدمها نسجًا على كل ثورات الشعوب التي قررت التحرر فبذلت الدم فتحررت.
في المرجع الخلدوني أن التبدّي بيئة حرية بينما التمدن بيئة خضوع وانصياع، والملاحظ أن مسار البناء السياسي للدولة الوطنية أو بعد الكولونيالية قد استقر بالإخضاع القسري أكثر مما أخضع بالتنمية وخلق الرفاه، ما يمهد نظريًا لنقض التمدن رديف القهر. هل استمرأ العربي المتحدّر غالبًا من البداوة، الذل المدني وتخلى عن حريته؟ نكشف حيرتنا ولا نقدم لقارئ محتمل وصفة حرية جاهزة.
دولة السيف
تاريخ المغرب الإسلامي سهّل على ابن خلدون بناء نظريته في تناقض البداوة والتمدن، وإن كان توسع في بناء مقارنات كونية. كل الدول قامت في هذا الركن من بلاد الإسلام على حركة تمرد قبلي على دولة مستقرة فنقضتها. كل حالات الاستقرار حتى أقصى بلاد الأندلس كشفت أنه كلما تمدن الناس تخلوا عن حريتهم.
مسار بناء الدولة الوطنية (وهذا تعبير مجازي) يساعدنا على إعادة استعمال النظرية الخلدونية، رفعت هذه الدول من درجة تمدن شعوبها بوسائل حديثة كالتعليم والوظيفة والتنظيم الإداري، فكشف التمدن عن حالة من التخلي الطوعي عن معارضة أسلوب الدولة في الإقرار بالقوة، وهي تسمية ملطفة للإخضاع القسري. فلما تمردت طوائف أقرب إلى البداوة المفقرة في الأرياف انكشفت اتجاهات محافظة لدى الفئات الأكثر استقرارًا ومدنية (أو تحضرًا) رفضًا للتغيير وأحرص على الإبقاء على المكتسبات المادية دون حريات.
لقد تبين أن الرفاه المادي الذي ضمنته الدولة بالقهر أحب إلى نفوس المستقرين من حرياتهم، وقد عبر قائلهم “ماذا نفعل بالحرية؟ أو الحرية لا توفر الخبز” والملاحظ أنه ليس أبرع من الحضر في الحديث عن الحرية، فهم الشعراء والأدباء والمثقفون الذين لا يتوقفون عن تدبيج الكلام في الحرية، لكنهم الأقدر على تبرير فعل السلطة فيهم باسم النظام والاستقرار الضامن للتنمية، أي الضمان لمزيد من الاستقرار دون حريات.
لقد قايضوا حتى الآن حرياتهم مقابل حالة شبع، ولم يذهبوا أبدًا إلى احتمال النظر في ترادف الحرية والرفاه. لهذا رفضوا الحريات التي جاء بها الربيع العربي وأعادوا وضع نير الانقلابات العسكرية على جباهم كدواب حرث لم تعرف الفروسية.
التذكير الغزاوي
بشائر الربيع العربي ربطت تحرير الأوطان وتقدمها بتحرير الأرض المحتلة (وهو ربط قدمت فيه نظريات وكتبت فيه مجلدات ولم يتجسد إلا في تلك اللحظة القصيرة في الزمن) ثم كانت الردة بالانقلابات العسكرية المصنوعة في مخابر الصهيونية العالمية، بدءًا من مصر، فجاءت حرب الطوفان لتذكر بالبديهية التاريخية، لا حرية في الأقطار الا بتحرير الأرض المحتلة.
التذكير الغزاوي أعاد الحقيقة فوق طاولة الشعوب التي استمرأت الاستقرار في القمع واستكانت لأنظمة، فلما دعا داعي التضامن الشعبي لم تجد ركبًا قوية للسير في الشوارع ،ولا حتى التخلي عن شيء من الرفاه المصطنع عبر المقاطعة الاحتجاجية، وأنتجت كمًا من التبرير الفاضح وصل إلى حد القول لا دخل للعرب في فلسطين، والأعلى صوتًا في التبرير/التخلي كان الأكثر استفادة من حالة الاستقرار في القمع.
الفئات الاجتماعية المستفيدة من أعطيات الدولة القمعية هي الأكثر نكوصًا عن حرياتها، لقد دمرت موجة الربيع العربي وأعادت تأسيس القهر ثم أفشلت حركة التضامن مع غزة لأن (الظرف غير مناسب لذلك). وكما قطعت الطريق على تمرد الفئات الشعبية المفقرة (أو بقايا البداوة) فحرمتها حرياتها، قطعت الطريق على هذه الفئات التي ترى في حرب الطوفان حريتها رغم الاختلاف في التفاصيل الميدانية. وهو ما يجعل ابن خلدون يعود إلى سطح التنظير لنرى بوضوح تناقض الاستقرار مع الحرية في حالة الشعوب العربية التي شبعت بالخبز والقمع.
هل علينا أن نعود بدوًا لنتحرر؟
الحتميات الخلدونية ثابتة في هذا المعنى. الأفقر من الناس هو الأشد طلبًا للحرية رديف العدالة أو طريقها. والفلسطيني العارف بقومه يقول لنا إن سكان المخيمات الأفقر هم الأكثر تمردًا على الاحتلال، بينما يبدو الأكثر استقرارًا أو الأغنى تحت الاحتلال أقرب إلى القبول بالاحتلال والرضا بالقسمة معه.
قياسًا المتمدنون العرب (الحضر) أكثر قبولًا بالدولة القمعية والرضا بما تقسم لهم، فكيف نعيد بناء فكرة الحرية دون التخلي عن التقدم المادي الذي خلقته الدولة؟ وجب أن نفتح هنا حقلًا من التنظير السياسي يحررنا من النظرية الخلدونية التي ترفض أن تموت، فنؤسس للحرية دون أن نعود إلى الفقر بصفته سبيلًا وحيدًا لطلب الحرية.
يتخفي في هذا السؤال وضع طارحه الذي كان بدويًا واستقر بالتعليم والوظيفة، ولا يتمنى (أو يخاف) أن يعود فقيرًا ليتمتع بحريته. لكن في حركة رفض الردة على الربيع العربي نلاحظ حديثًا ضمنيًا لدى النخب (عنوان الاستقرار) أن الثورة الثانية قادمة وسينجزها الفقراء ثانية. وهذا اعتراف ضمني بعجز النخب (المستقرة) واعتراف بالخلدونية التاريخية لتفسير اللحظة الناكصة عن الحرية.
نقوم بلفة كاملة حول كل تنظير مادي تاريخي بسند خلدوني أو بسند ماركسي، الإيمان بالحرية ودورها في صناعة الإنسان حالة إيمانية عقدية وليست ثمرة آلية لوضع مادي يجعل من كل مستقر (متمدن) معاديًا للحرية، ويحصر حالات طلب الحرية لدى المفقرين. فغزة لم تكن معدمة وكان يمكن أن يحصل بعض أهلها نفس مكاسب شلة أوسلو عبر التطبيع.
كيف نخرج من الانعكاسية المسطحة إلى حالة إيمان بالحرية بقطع النظر عن الفائدة المباشرة منها ولا نحسب الثمن المدفوع فيها. هنا يكون الدرس الغزاوي مفيدًا، والذي نسمعه على لسان ختياراتها وأطفالها، وقد كان العالم يغريهم بالهروب والنجاة ففضلوا حالة الحرية تحت القنابل على حالة الشبع تحت نير الهجرات المذلة. إنها ليست حالة تناقض طبقي بل حالة إيمان بالحياة الحرة تتفوق على حب الحياة الذليلة التي تحياها شعوب عربية تخشى فقدان أجورها إذا خرجت مع غزة. من غزة يتجدد الإنسان إذ يجدد قيمة الحرية.