تذهب الأبوة والأمومة إلى أبعد من توفير وتلبية متطلبات واحتياجات البقاء الأساسية للطفل من مأكل ومشربٍ وملبس وغيرها، فالطريقة التي يرتبط فيها الأبوين بأطفالهما، وبالتالي الطريقة التي يبنون عليها أسلوب التربية والتنشئة، تلعب دورًا كبيرًا في كيفية نموّ الطفل ذهنيًا وعاطفيًا ونفسيًا، وتؤثر تأثيرًا بالغًا قد يمتد طوال العمر في شخصيتهم وعاداتهم السلوكية ونظرتهم لأنفسهم وللآخرين من حولهم.
نتيجةً لهشاشة الطفل في مراحله الأولى، وأثر تلك المراحل البالغ، فلا نبالغ إنْ قلنا أنّ جزءًا كبيرًا من شخصياتنا المشوهة واختلالاتنا النفسية، إن صحّ تسميتها كذلك، هي نتاجٌ لما حدث معنا في مراحلنا الأولى من حياتنا، أو أنّ جزءًا كبيرًا من عدم قدرتنا على التعامل مع الواقع أو مع علاقاتنا المتنوعة وفشلنا في مواجهة التحديات والمشاكل، قد يرجع أيضًا لطفولتنا وطريقة ارتباطنا مع أبوينا.
تطرح نظرية “الارتباط العاطفيّ”، أنّ الطفل يولد عاجزًا، فيحتاج الارتباط مع والديه كحاجةٍ أساسية ملحة توفّر له قاعدة آمنة لنموّه وخبرته تُبنى عليها نظرته لنفسه ولما حوله
ونظرًا لأنّ الطفل يخضع تحت رحمة المؤسسة الأولى التي نسميها “المنزل” أو “الأسرة” في حياته، فقد أولى علماء النفس على مدى سنين طويلة الأهمية القصوى لدراسة وبحث كيف تعمل تلك المؤسسة على تشكيل أفرادها والتأثير عليهم وعلى ذواتهم ومشاعرهم وسلوكياتهم ومخاوفهم وأفكارهم ومصائرهم وعلاقاتهم بأنفسهم وبالآخرين.
يرى عالم النفس جون بولبي في نظريته الشهيرة “الارتباط العاطفيّ”، أنّ الطفل يولد عاجزًا، فيحتاج الارتباط مع والديه أو مع من سمّاهم “مقدّمي الرعاية”، كحاجةٍ أساسية ملحة توفّر له قاعدة آمنة لنموّه وخبرته تُبنى عليها نظرته لنفسه ولما حوله، وتساعده في استكشاف عالمه الخارجيّ بطرقٍ صحية ذهنيًا وعاطفيًا ونفسيًا.
اعتبر بولبي أنّ القرب الجسمانيّ أو الفيزيائي بين الطفل وأمه في الفترة ما بين الشهر السادس وحتى العامين، تعوّل كثيرًا على طبيعة نظرة الطفل للعالم من حوله. ففي اللحظة التي يختبر الطفل قربه من أمه ويجده آمنًا، فإنه سيكتسب الشجاعة اللازمة التي تجعله مستعدًا لاستكشاف بيئته بعيدًا عن أمه، فهو مطمئنٌ لوجودها حتى في حال ابتعدت أو غاب عنها. إذن فالتحوّل الرائع بين السعي نحو القرب من الأم إلى الابتعاد نحو استقلالية الذات عند الطفل هو جوهر نظرية الارتباط.
وبكلماتٍ أخرى، عندما يكون ارتباط الطفل بأمه آمنًا بشكلٍ دائم، يصبح الطفل مطمئًا وواثقًا أنّ أيّ ابتعادٍ عن الأمّ وجوارها في مرحلةٍ ما لن يشكّل خطرًا على قربه منها أو ارتباطه بها وعلى العاطفة الناتجة عن ذلك الارتباط، فالقاعدة الآمنة توفّر له راحة الاستكشاف وراحة الدنوّ متى ما أراد.
هنالك ثلاثة أنماط للارتباط، الآمن والقلِق والتجنبيّ، تعمل ثلاثتها على تكوين شخصية الطفل وعواطفه وأفكاره وعلاقاته بطرق مختلفة تستمرّ معه لمراحل متقدمة
عملت ماري اينسورث فيما بعد على تطوير نظرية بولبي الأساسية، واقترحت أنّ نمط ارتباط الطفل بأبويه له القدرة العالية على التنبو بتطوره العاطفي في مراحلة حياته اللاحقة، مؤكدة على أنّ كيفية ونتائج ذلك التطوّر ليس نتاجًا لجينات الطفل ومحدداته الوراثية بقدر ما هي نتاجٌ لتاريخ ارتباط الطفل بوالديه وتفاعلهما معه بدءًا من الولادة ومرورًا بمراحل نموه.
وفقًا لاينسورث، هنالك ثلاثة أنماط أساسية للارتباط، الارتباط الآمن “secure attachment” حيث تكون علاقة الطفل بأبويه متزنةً ومستقرة بشكلٍ منظم، يلجأ إليهما متى ما احتاج إليهما فيجدهما أمامه. والارتباط القَلِق “anxious attachment” حيث تكون العلاقة مضطربة يحضر فيها الارتباط حينًا ويغيب أحيانًا أخرى، دون أنْ يحكم علاقة الطفل بأبويه استقرار عاطفيّ واستجابات مفهومة ومتوقعة. أما في الارتباط التجنّبي “avoidant attachment“، يغيب الوالدين أو الأم عن دائرة العلاقة التي تتسم بكونها باردة جافة، فيكونان عاجزيْن عن مدّ طفلهما بحاجاته النفسية والعاطفية الأساسية.
ولتوضيح الفكرة أكثر، فالارتباط الآمن للطفل بوالديه يعمل على تكوين قاعدة آمنة وراسخة يستطيع الطفل من خلالها تنمية فضوله واعتماده على ذاته واستقلاليته وبالتالي يصبح أكثر قدرة وكفاءة على التكيف مع العالم الخارجي بما فيه من مواقف وعلاقات وما يتبعها من صعوبات أو تحديات.
وجدت العديد من الدراسات طويلة المدى ارتباطًا كبيرًا بين الارتباط غير الآمن من جهة، وبين عدم القدرة على التواصل ومهارات الاتصال وتكوين العلاقات مع الأقران من جهة أخرى
وعلى النقيض من ذلك، فالأطفال الذين يرتبطون ارتباطًا قلقًا أو تجنبيًّا بوالديهم، قد يجدون صعوبة في التعامل مع الآخرين، نظرًا لغياب الثقة في علاقتهم مع والديهم، مصدر الرعاية والثقة الأساسيّ في الحياة، وبالتالي ينعكس غياب الثقة ذلك على علاقتهم بمن حولهم من أصدقاء أو زملاء أو حتى على العلاقات العاطفية والحميمية.
كما أنّ نوعيْ الارتباط غير الآمن قد يخلقان طفلًا خجولًا أو منطويًا لا يعرف كيف يتعامل مع من حوله، قد يخاف من الارتباط بهم لكنه يظلّ بحاجة لوجودهم، أو قد يميل للهرب من أيّ ارتباطات في حال تكوّنت، نظرًا لغياب الأم أو كلا الوالدين من الصورة في مراحل النموّ الأولى، ما يجعل الطفل يشعر بأنّه غير مكتفٍ أو غير مستحقٍ للعاطفة والعلاقة.
العديد من الدراسات طويلة المدى التي راقبت عددًا من الأطفال في مراحل مبكّرة واستمرت حتى سنّ البلوغ وما بعده، وجدت ارتباطًا كبيرًا بين الارتباط غير الآمن من جهة، وبين عدم القدرة على التواصل ومهارات الاتصال وتكوين العلاقات مع الأقران من جهة أخرى، إضافة إلى نشوء اضطراب القلق العام والتوتر وعدم القدرة على مواجهة ضغوطات الحياة، عوضًا عن الشعور القويّ بالملل أو الضجر الذي لا يصعب إشباعه أو التخلص منه.
تنبغي الإشارة إلى أنّ الارتباط غير الآمن بنوعيه ليس مصيريًا وتبعياته ليست دائمة أو لانهائية، إذ يمكن تغييرها في مراحل قادمة من عمر الطفل، سواء عن طريق الأبوين أو أحدهما، أو من خلال علاقة حميمية في وقتٍ لاحق، أو من خلال العلاج النفسيّ الذي يساعد في تقديم الدعم العاطفيّ ويعمل على تخفيف التوتر والقلق وأي آثار سلبية للطفولة وما تبعها.
إلا أنّنا يجب ألا نغفل عن أهمية الارتباط ونوعه مبكّرًا جدًا، نظرًا لحساسية تلك المرحلة وقوة أثرها، فالأطفال الذين نادرًا ما يتحدثون، أو المراهقين الذين يلجؤون للبكاء كلما سنحت لهم الفرصة، أو الشباب الذين لا يجدون أنفسهم أهلًا للعلاقات المستقرة، فتراهم ملولين متقلبين من علاقة لأخرى، أو الذين يرون أنفسهم باردين عاطفيًا غير قادرين على الحبّ والقرب والارتباط، جميع تلك الأمثلة قد تكون نتاجًا لخللٍ في العلاقة مع الأبوين، والأم بشكلٍ خاص.