بداية هذا الأسبوع، تسلّمت تونس الوثائق الرسمية الخاصة بتسجيل التجربة التونسية في إلغاء العبودية في ‘ذاكرة العالم’ بمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم “اليونسكو”، وذلك، بعد أن أقرت اللجنة الاستشارية الدولية لبرنامج “ذاكرة العالم” الطابع الكوني للتجربة المتدرّجة التي أقدمت عليها الإيالة التونسية خلال النصف الأوّل من القرن التاسع عشر، إذ كانت تونس أوّل بلد يلغي رسميًّا الرقّ.
سبقت معظم دول العالم
قبل 172 سنة، يوم 26 يناير/كانون الثاني من عام 1846، أقر أحمد باي، حاكم تونس إلغاء الرقّ والعبودية في البلاد، ما مثل خطوة فارقة في التاريخ الحديث، خاصة وأنها جاءت في وقت كانت فيه تجارة البشر مزدهرة جدا ومنتشرة على نطاق واسع.
الصنف الثاني، فهو عبارة عن فئة العبيد السود، ويعود حضورها في تونس، حسب عدد من المؤرخين إلى العهد الحفصيّ في القرن الخامس عشر
ما يسجّل لتونس حينها فضلا عن أهمية هذا القرار أنها كانت سباقة بعشرات السنين على عدد من الدول العربية و بعض دول العالم الكبرى، حتى أنها سبقت الولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت تشهد نزاعات أهلية بين ولايات الشمال بقيادة الرئيس أبراهام لينكولن، وولايات الجنوب الخمس، بقيادة جيفرسون ديفيس، التي عارضت حملة لينكولن الساعية إلى تحرير “العبيد”، وتمت استشارة بعض المسؤولين في تونس من أجل معرفة المنافع الناتجة عن إلغاء الرق أو العبودية.
وجاء في الفصل الأول من أمر إلغاء الرق، الذي يضم خمسة فصول، حسب ما هو وارد في بوابة العدل في تونس، منع للعبودية في تونس، مع التنصيص على أن كل “إنسان حر مهما كان جنسه أو لونه”، كما أتاح لمن تعرض للاسترقاق “أن يرفع أمره للمحاكم“. كما فرض الأمر عقوبات سجنية ومالية ضد مخالفي هذه الإجراءات، سواء كان مرتكبها تونسيا أم أجنبي. وقد حظيت هذه الإجراءات، وفقا للوثيقة التاريخية نفسها، بمساندة عدد من علماء الدين، الأمر الذي سهّل قبولها لدى عامة الناس.
وفي تلك الفترة كان يوجد صنفان من العبيد في تونس، حيث وجدت فئة عرفت بالرقيق الأبيض، وتشمل في معظمها نساء وأطفال بيض البشرة وقع اختطافهم عن طريق القرصنة البحريّة، وكان عدد من أولئك النساء والأطفال يباع في سوق العبيد، ويفتدى قسم ثان منهم، فيما يلحق قسم ثالث للعمل بمؤسسة الحكم، وقد ارتقى عدد من الملحقين بالقصر إلى رتب عالية في الدولة كما أنجب عدد من البايات أطفالًا من جواري مختطفات.
أحمدباي حاكم تونس
أما الصنف الثاني، فهو عبارة عن فئة العبيد السود، ويعود حضورها في تونس، حسب عدد من المؤرخين إلى العهد الحفصيّ في القرن الخامس عشر، وتتكوّن هذه الفئة من عبيد جيء بهم من أماكن متفرقة من القارة الأفريقيّة، يرحّل الجزء الأكبر منهم عبر طرق التجارة إلى خارج البلاد، ويباع جزء آخر فيها، وانقسمت استخدامات فئة العبيد السود بين الأعمال الزراعيّة والأعمال المنزلية في دور علية القوم.
أسباب اتخاذ هذا القرار
يعود اقتناع باي تونس بضرورة إلغاء العبودية، حسب عديد المؤرخين، إلى “ميله إلى الحضارة التي أساسها الحرية” كما ذكر ابن أبي الضياف في كتابه الإتحاف “ولأنّه ثانيا لم يكن يمارسها في بلاطه وثالثا لتأثّره بالحملة التي تزعّمتها بريطانيا منذ سنة 1839 لإلغاء الرقّ.
عقب هذا القرار، كتب أحمد باي إلى علماء مشايخ ومفتيي تونس يتضمّن إعلامهم بإلغاء الرق وعتق العبيد. وقال في رسالته، “ثبت عندنا ثبوتا لا ريب فيه… من يملك أخاه على المنهج الشرعي الذي أوصى به سيّد المرسلين آخر عهده بالدنيا وأوّل عهده بالآخرة حتّى أنّ من شريعته التي أتى بها رحمة العالمين عتق العبد على سيّده بالإضرار وتشوف الشارع إلى الحريّة فاقتضى نظرنا والحالة هذه رفقًا بأولئك المساكين في دنياهم وبمالكيهم في آخراهم أن نمنع الناس من هذا المباح المختلف فيه والحالة هذه خشية وقوعهم في المحرّم المحقّق المجمع عليه وصدّ أضرارهم بإخوانهم الذين جعلهم الله تحت أيديهم.”
لفت الجنرال حسين في رسالته إلى أن تفشي وجود الخدم والعبيد يساعد على انتشار الكسل والبطالة
أضاف في رسالته، “عندنا في ذلك مصلحة سياسيّة منها عدم إلجائهم إلى حرم ولاة غير ملتهم فعينّا عدولا بسيدي محرز وسيدي منصور والزاوية البكريّة يكتبون لكلّ من أتى مستجيرا حجّة في حكمنا له بالعتق على سيّده وترفع إلينا لنختمها وأنتم حرسكم الله إذا أتى لأحدكم المملوك مستجيرا من سيّده واتّصلت بكم نازلة في ملك على عبدٍ وجّهوا العبد إلينا وحذار من أن يتمكّن به مالكه لأنّ حرمكم يأوي من التجئ إليه في فكّ رقبته من ملك ترجّح عدم صحّته ولا نحكم به لمدّعيه في هذ العصر واجتناب المباح خشية الوقوع في المحرّم من الشريعة لا سيّما إذا انضمّ لذلك أمر اقتضته المصلحة فيلزم حمل الناس عليه..”
وفي رسالة من الجنرال حسين الذي كان رئيسا للمجلس البلدي لمدينة تونس إلى القنصل الأمريكي بتونس أموس بري ردا على استفسارات عن منافع “قانون تحرير العبيد” في البلاد، رفعها إلى وزير الخارجية الأمريكية وليام إيتش سنة 1864، قال، ” إن قرار الحكومة التونسية بمنع العبودية تمّ اعتمادا على مقاصد الشريعة الإسلامية التي تعتبر أن الأصل هو الحرية لا الاستعباد، وأن الإسلام اشترط الإحسان للعبيد وعدم توفر هذا الشرط يؤدي إلى تجاوز الحدود الشرعية”.
برّر أحمد باي قراره بتوقه إلى الالتحاق بدول الحرية
لفت الجنرال حسين في رسالته التي نوقشت على نطاق واسع في الصحافة الأمريكية، وهي الآن موجودة في كتيب صغير في مكتبة جامعة هارفارد، إلى أن تفشي وجود الخدم والعبيد يساعد على انتشار الكسل والبطالة، معتبراً أن البلدان التي فيها عموم الحرية أعمر من غيرها كون نتيجة فعل الإنسان المخيّر أربح وأبرك من نتيجة فعل “العبد” المجبور.
وفي رسالته ذكر قصة معبّرة وقعت له في فرنسا: “كنت حضرت مرة في أيام الكرنفال سنة 1856 بالأوبرا الكبيرة بباريس ومعي غلام أسود، فما راعني إلا أن رأيت رجلاً أمريكانياً وثب عليه وثوب القطة على الفأرة وأراد أن يأخد ثيابه قائلاً ولسانه يتلجلج من سطوة النشوتين: ما يفعل هذا “العبد السوداني” بصالون نحن فيه؟ ومتى مكن “العبيد” من مجالسة الأسياد. فأخذت الفتى السوداني البهتة إذ لم يكن يدري ما يقول، ولا علم لماذا يجـــول ذلك الرجل ويصول، فدنوت منهما وقلت للرجل: يا حبيبي هون على نفسك، فإنما نحن بباريس ولسنا بريشموند!”.
المراحل التي مرّ بها
قرار أحمد باي إلغاء العبودية سنة 1846، لم يأتي بصفة فجائية بل كان في سياق تمشي كامل وخطة واضحة، حيث سبقته عدة قرارات من بينها إصدار أمر يتعلق بمنع الاتجار بـ “الرقيق” وبيعهم في كل أسواق البلاد، وإلغاء الأداء الذي كان موظّفا على هذه التّجارة في سبتمبر/أيلول سنة 1841.
وفي مرحلة لاحقة، صدر أمر بهدم المحلات المعدة لبيع العبيد في المدينة العتيقة بالعاصمة تونس، وفي ديسمبر من العام الموالي أقرّ الحرية لأبناء العبيد المولودين في الإيالة، حيث تم إصدار أمر يعتبر من وُلد في تونس حرا يمنع بيعه وشراؤه.