“بقلب مثقل، أعلن رسميًا انسحابي من حكومة الطوارئ”.. بهذه الكلمات نفذ الوزير في مجلس الحرب الإسرائيلي، بيني غانتس، تهديده الذي قطعه على نفسه في 19 من مايو/أيار الماضي بالانسحاب من الحكومة إذا لم يلتزم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بوضع استراتيجية من 6 أهداف تتضمن: إعادة الأسرى الإسرائيليين من غزة، هزيمة حماس، نزع السلاح من قطاع غزة، تحديد بديل لحماس في غزة، عودة سكان شمالي “إسرائيل” إلى منازلهم بحلول الأول من سبتمبر/أيلول، والدفع بعملية التطبيع مع السعودية.
ولحق برئيس الأركان الأسبق (2011-2015) والمرشح الأبرز لتشكيل الحكومة المقبلة، زميله في مجلس الحرب الجنرال غادي آيزنكوت، عراب ما عرف باستراتيجية الضاحية في لبنان عام 2006، ليعلن الشريكان في حزب “معسكر الدولة” انسحابهما من حكومة الطوارئ التي تشكلت بعد عملية طوفان الأقصى أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وتأتي استقالة الوزيرين في وقت تحاول فيه حكومة نتنياهو إيهام الشارع الإسرائيلي بتحقيق انتصار كبير إثر تخليص 4 أسرى من بين أكثر من 130 آخرين ما زالوا بحوزة حماس، جراء المجزرة التي ارتكبها جيش الاحتلال في مخيم النصيرات وأسفرت عن مقتل 3 أسرى إسرائيليين، بجانب ارتقاء قرابة 210 شهداء فلسطينيين معظمهم من النساء والأطفال.
وبعيدًا عن استبعاد أن يتسبب انسحاب معسكر الدولة في تفكيك الحكومة التي لا تزال تحظى بالأغلبية، لكن خطوة كهذه وفي هذا التوقيت حيث صمود المقاومة من جانب، وتصاعد الحراك الدبلوماسي الإقليمي والدولي لفرض التهدئة من جانب آخر، من المرجح أن يكون لها ارتدادات عنيفة على المشهد السياسي والعسكري بأكمله.
ماذا تعني الاستقالة؟
تشير استقالة وزيرين بحجم غانتس وأيزنكوت، رغم الضغوط المتوقع تعرضهما لها بطبيعة الحال للبقاء في الحكومة حفاظًا على لحمتها وتماسكها، إلى عدد من الرسائل والدلالات المهمة أبرزها:
– الاعتراف ضمنيًا بفشل حكومة نتنياهو ومجلس الحرب المصغر في إدارة المعركة والعجز عن تحقيق أي من الأهداف المزعومة.
– الإقرار بأن استراتيجية التصعيد العسكري كخيار وحيد لكسب المعركة، وهي استراتيجية نتنياهو ووزراء اليمين المتطرف، سياسة خاطئة ثبت فشلها بعد أكثر من 8 أشهر من المواجهات الشرسة مع المقاومة.
– يمثل انسحاب أيزنكوت رغم قتل أكبر أبنائه الجندي غال أيزنكوت في تفجير نفق مفخخ بضواحي جباليا يوم 7 ديسمبر/كانون الأول 2023، ثم ابن شقيقته الجندي ماؤر كوهين بعدها بيومين فقط، رسالة قاسية على جيش الاحتلال من شأنها أن تربك الحسابات وتلقي بظلالها القاتمة على معنويات الجنود والضباط.
– الانسحاب في أوج الاحتفاء بتحرير الأسرى الـ4 يجهض حالة الفرح التي حاول نتنياهو تخييمها على المشهد في محاولة لتسول انتصار يرفع به معنويات جنوده ويمنحهم الأمل في وقت انزلقت فيه المعنويات إلى مستويات متدنية من التراجع، وهو ما يفند بطبيعة الحال السردية التي تحاول النخبة العسكرية والسياسية في تل أبيب تمريرها بشأن قدرة الجيش على تحرير الأسرى بمثل هذه النوعية من العمليات الخاصة.
– الإصرار على تلك الخطوة رغم الضغوط المتوقعة تعني أن غانتس وأيزنكوت ربما لن يكونا الوحيدين الذين أقدما على الاستقالة، فمن المرجح أن يلحق بهما آخرون سواء داخل مجلس الحرب المصغر كوزير الدفاع يوآف غالانت الذي وصلت علاقته بنتنياهو إلى مستويات متقدمة من التوتير، أم من داخل حكومة الطوارئ بصفة عامة.
– الولايات المتحدة هي الخاسر الأكبر من هذه الخطوة، إذ كان غانتس يمثل لها “رجل التوازنات” داخل حكومة الحرب، والصوت الأكثر مرونة وعقلانية في مواجهة اليمين المتطرف الذي يهيمن على عقل وفكر وقرارات نتنياهو، وبخروجه من الحكومة تفقد واشنطن أحد أهم أوراقها السياسية في تلك المعركة.
– وفي مقابل كل ما سبق فإن انسحاب خمسي مجلس الحرب هو إقرار واعتراف بنجاح المقاومة في إفشال مخططات الاحتلال، وقدرتها على التصدي لمؤامراته وألاعيبه رغم الوحشية التي يستخدمها، بما يعني في النهاية انتصار سياسي لفلسطين وقضيتها على حساب إخفاق مخزي للكيان المحتل.
هل تتأثر حكومة نتنياهو؟
– بداية تجدر الإشارة إلى أن أي حكومة تحتاج إلى دعم 61 نائبًا على الأقل(50% + 1) من إجمالي 120 نائبًا بالكنيست، للاستمرار في السلطة، وأن حكومة نتنياهو قبل انضمام “معسكر الدولة” الذي ينتمي إليه غانتس وأيزنكوت، كانت تحظى بدعم 64 نائبًا، ومع انضمام المعسكر باتت تحظى بـ76 نائبًا (64 + 12 عضوًا للمعسكر) ما يعني أن انسحاب الوزيرين لن يؤثر من حيث الشكل على تلك الحكومة واستمراريتها.
–لكن وجود “معسكر الدولة” داخل الحكومة كان يضفي عليها نوعًا من الشرعية السياسية ويمنحها الحضور والثقل الداخلي كونها تتضمن تيارات سياسية عدة، وهو ما ساعد نتنياهو منذ بداية الحرب لتمرير شعارات اللحمة والتكاتف لتحقيق أهداف المعركة.
– بانسحاب التيار المعتدل نسبيًا من حكومة الطوارئ، وما يتوقع بشأن أن يسلك غالانت الدرب ذاته، تصبح تلك الحكومة أسيرة الهيمنة المطلقة لليمين المتطرف، وهو ما يصب في مصلحة حزبي “القوة اليهودية”، برئاسة وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، و”الصهيونية الدينية” بقيادة وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، الذين طالبا بانضمامها إلى مجلس الحرب المصغر بديلًا عن الوزيرين المستقيلين.
– هيمنة اليمين المتطرف على الحكومة، والحديث عن محاولات ضم وزراء من الأحزاب الصهيونية، قد يضع نتنياهو في صدام مع الإدارة الأمريكية التي طالما تحفظت على توجهات بن غفير وسموتيرتش المتطرفة والرافضة لأي مساعي للتهدئة وإنهاء القتال في غزة، بما يفوت الفرصة على بايدن لتوظيف تلك المعركة لخدمة أهدافه الانتخابية قبيل الماراثون الرئاسي نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
الشارع الإسرائيلي.. مزيد من التأجج
– كانت استقالة غانتس وآيزنكوت مطلبًا جماهيريًا لدى الشارع الثائر أو المعارضة السياسية، حيث طالبته عائلات الأسرى المحتجزين أكثر من مرة بالإقدام على تلك الخطوة كتمهيد لإقالة الحكومة وإجراء انتخابات عامة مبكرة، إذ أيد أكثر من 70% من الإسرائيليين إجراء انتخابات برلمانية مبكرة وفق استطلاع الرأي الذي أجرته هيئة البث العبرية التي قالت إن “أغلبية ساحقة من الجمهور في إسرائيل تعتقد ضرورة تقديم موعد انتخابات الكنيست، ونحو نصف هؤلاء يرغبون في إجراء الانتخابات الآن”.
المطلب ذاته نادى به قادة أحزاب المعارضة، على رأسهم، زعيم حزب “هناك مستقبل” يائير لابيد، الذي رحب بهذا القرار معتبرًا أن الوقت حان لإقالة هذه “الحكومة المتطرفة”، وتشكيل “حكومة عاقلة تعيد الأمن والمخطوفين، وتستعيد مكانة إسرائيل الدولية”، فيما وصف زعيم حزب “إسرائيل بيتنا” أفيغدور ليبرمان هذه الخطوة بأنها “جيدة وحتى لو جاءت متأخرة، والوقت حان لتشكيل ائتلاف صهيوني”.
– ويتوقع بتلك الاستجابة أن ينضم الوزيران المنسحبان إلى صوت الشارع والمعارضة معًا، حيث الدفع نحو هدف واحد يتمثل في إقالة الحكومة أو إسقاطها، ما يعني زيادة وتيرة الاحتجاجات الشعبية وممارسة المزيد من الضغط على نتنياهو وما تبقى من حكومته.
– وسيسابق نتنياهو الزمن لتعويض استقالة الوزيرين بضم آخرين، غير أن التوجه العام في مجمله لدى النخب السياسية غير المتطرفة يسير نحو فرض المزيد من العزلة على تلك الحكومة التي يسيطر عليها اليمين المتطرف، ما يعني أن رئيس الوزراء قد يجد نفسه بين مفترق طرق، إما حل مجلس الحرب المصغر بعد انسحاب خُمسيه، أو تدعيمه بأصوات أخرى في الأغلب ستكون من اليمين المتطرف، وهو ما سيعمق المأزق ويعزز من فرضيات الصدام مع الداخل والخارج في آن واحد.
ماذا عن اتفاق التبادل؟
بعد انسحاب غانتس وأيزنكوت باتت حكومة نتنياهو اليوم في أضعف حالاتها منذ بداية الحرب، رغم احتمالية عدم تأثرها بهذا القرار في ظل دعم الأحزاب المتشددة لها، وصعوبة انسحاب أي من الأحزاب الصهيونية في ظل موقف المعارضة إزاء قانون تجنيد الحريديم، غير أن ذلك لا يعني أنها بذات القوة التي كانت عليها في وجود الوزيرين.
تتزامن تلك الخطوة مع جولة وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، إلى الشرق الأوسط، التي بدأها اليوم الإثنين 10 يونيو/حزيران، وهي الثامنة له منذ بداية الحرب، وتشمل مصر و”إسرائيل” والأردن وقطر، في محاولة للدفع باتجاه إقرار المقترح الذي قدمه بايدن لوقف إطلاق النار في 31 مايو/أيار الماضي.
وقبل ساعات من انطلاق جولة بلينكن وزعت الولايات المتحدة مسودة جديدة لمشروع قرار في مجلس الأمن يهدف لدعم مقترح بايدن، وهي المسودة التي تضمنت عددًا من التعديلات على الورقة التي قدمها الرئيس نهاية مايو/آيار الماضي، وتشير إلى قبول “إسرائيل” بها، مطالبة حركة حماس باتخاذ الموقف ذاته والإعلان رسميًا عن قبول الورقة التي تقول الحركة أنها لم تتسلمها بشكل رسمي، فضلًا عن وجود العديد من النقاط المبهمة التي تحتاج إلى توضيح وحسم قبل الموافقة عليها.
ويحاول بايدن بتقديمه لمشروع قرار في مجلس الأمن، حتى وإن كان منقوصًا، الاستمرار في حشر نتنياهو وحماس معًا في حجر الزاوية الضيق، في محاولة لتصدير صورة الرئيس الساعي إلى التهدئة ووقف إطلاق النار، استجابة للضغوط الداخلية والخارجية، قبل أشهر قليلة من الانتخابات الرئاسية التي يحاول لملمة شعبيته المتراجعة قبيل انطلاقها.
وفي حال تبني مجلس الأمن لهذا المشروع، رغم احتمالية استخدام روسيا لحق الفيتو لعرقلته في ظل عدم وضوحه واستخدامه لغة فضفاضة، وشكوك أن يحظى بقبول 9 دول على الأقل لتبنيه، فإن الضغط على نتنياهو سيتصاعد بشكل غير مسبوق، ما قد يدفعه في نهاية الأمر إلى الرضوخ في ظل ارتفاع أمواج المعارضة الشعبية والسياسية لإدارته للحرب منذ بدايتها وسقوطه أسيرًا في قبضة اليمين المتطرف.
وفي الأخير.. فإن انسحاب غانتس وأيزنكوت، أيًا كانت دوافعهما، يمهد لقرب انهيار الحكومة، آجلًا أم عاجلًا، فالسياسي لا يقفز من المركب إلا حين يشعر بدنو غرقها، والمحارب لا يمكنه أن يغادر ميدان القتال إلا إذا استشعر الهزيمة، فيما يعود الفضل في ذلك إلى المقاومة وبسالتها وصمود الغزيين، فهؤلاء وحدهم – رغم الثمن الباهظ المدفوع – من استطاعوا تغيير أبجديات اللعبة وفرضوا على أعتى جيوش العالم وأقوى أجهزته الاستخباراتية قواعد اشتباك مغايرة عما كانت عليه قبل أكتوبر/تشرين الأول الماضي.