“الصحافة التونسية في غضب”، شعار اختاره صحفيي تونس للتعبير عن استنكارهم الكبير لما ألت إليه أوضاع حرية الصحافة والتعبير في البلاد، ورفضهم المطلق لحملة “الشيطنة” التي تقوم بها عناصر أمنية ضدّهم بغطاء سياسي منحهم الضوء الأخضر، وللتعبير أيضا عن اصرارهم على حماية الإعلام التونسي من محاولات السلطات الحاكمة على رأسها حركة نداء تونس وقيادييها، السيطرة عليه وتطويعه خدمة لبرامجها وأجنداتها.
اعتداءات متكرّرة
التضيق والاعتداءات التي طالت صحفي تونس، ليس لها بداية، لكن لنا أن نبدأ بتصريحات الرئيس الباجي قائد السبسي في اجتماعه الأخير مع الموقعين على “وثيقة قرطاج” المحدّدة لأولويات الحكومة، في الثالث عشر من شهر يناير/كانون الثاني الماضي، التي شكّك من خلالها في مهنية وحيادة الإعلام الأجنبي، متهما إياه بتهويل ما يجري في تونس.
تصريحات رأى فيها البعض محاولات من قبل رأس السلطة في هذا البلد العربي الذي يتصدّر حرية التعبير في المنطقة، لإخضاع الإعلام الأجنبي العامل في البلاد لسلطته ورغبة منه في جعل الاعلام في صفه وتبنيه وجهة نظره الرسمية للأحداث التي تشهدها بلاده.
على إثر هذه التصريحات، تتالت الاعتداءات والتضييق على الصحفيين ومنعهم من أداء عملهم في تغطية الأحداث، من ذلك قيام أعوان أمن، بالزي المدني، بتهديد الصحفي رشيد الجرّاي، مراسل منصة “أصوات مغاربية” التابعة لقناة “الحرّة” الأمريكية، خلال تغطيته لوقفة احتجاجية وسط العاصمة، وحجز بطاقته الصحفية وافتكاك هاتفه الجوال، في محاولة لهرسلته وثنيه عن تغطية استعمال الأمن للعنف ضد المحتجين.
لم يتوقّف الأمر عند هذا الحد، بل زادت حدّة التضيق، حتى وصل إلى حد التصنت على هواتف الصحفيين دون إذن قضائي باعتراف وزير الداخلية
وتزامن ذلك مع تلقي النقالة الوطنية للصحفيين التونسيين، جملة من التشكيات من الصحفيين، على مستوى العاصمة والجهات، تتمحور حول مراقبة أمنية لهم وتنصّت على مكالماتهم الهاتفية وتضييقات ومراقبة لهم من قبل أشخاص بالزي المدني، في محلات إقاماتهم أو أماكن خاصة “.
لم يتوقّف الأمر عند هذا الحد، بل زادت حدّة التضيق، حتى وصل إلى حد التصنت على هواتف الصحفيين دون إذن قضائي باعتراف وزير الداخلية لطفي براهم أمام لجنة الأمن والدفاع بمجلس نواب الشعب، في مخالفة واضحة لدستور البلاد الضامن لسرية المراسلات والمكالمات الهاتفية وكل المعطيات الشخصية.
اعتراف الوزير بالتنصت على الصحفيين وتصريحات الرئيس السبسي التي تتهم الإعلام الأجنبي بتهويل الأحداث في البلاد، أعطت الضوء الأخضر للأمنيين لمزيد الاعتداء على الصحفيين حدّ التطاول عليهم وتهديدهم بالتعذيب والاغتصاب والتشهير بهم في مواقع التواصل الاجتماعي دون أي رادع وفي إفلات تام من العقاب.
يوم غضب
هذه الأحداث المتتالية، جعلت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين تسارع إلى اعلان، اليوم الجمعة” يوم غضب”، يتم خلاله حمل الشارة الحمراء وتخصيص مساحة في مختلف وسائل الإعلام بعنوان “الصحافة التونسية في غضب”، مع التلويح بشنّ اضراب عام في حال تواصل هذه الانتهاكات، فضلا عن مقاطعة أنشطة كل من وزارة الداخلية والنقابات الأمنية التي تورطت قياداتها الجهوية في حملات التحريض والتشويه والثلب في حق الصحفيين.
إلى جانب ذلك قرّرت النقابة توجيه شكوى رسمية إلى المقرر الخاص المعنى بتعزيز وحماية الحق في حرية الرأي والتعبير لدى منظمة الأمم المتحدة، لاطلاعه على ما آلت إليه الأوضاع في قطاع الإعلام بتونس، ومطالبته بزيارة تونس والقيام بتحقيق أممي في هذا الشأن.
وقالت النقابة إن هذا يأتي في إطار تحرك عاجل لحماية حرية الصحافة من طغيان الداخلية، حيث وجهت أيضا رسالة مفتوحة الى رئيس الجمهورية ورئيس مجلس نواب الشعب ورئيس الحكومة، “للتنديد بالسياسة الممنهجة التي تهدد حرية الصحافة والتعبير في تونس، وتستهدف الصحفيين بغية إخضاعهم وتكميم أفواههم”.
وقفة احتجاجية أمام مقر نقابة الصحفيين
ذكرت النقابة الرؤساء الثلاثة، بضرورة احترام الدستور والمواثيق والمعاهدات الدولية التي صادقت عليها تونس، في علاقة بحماية وتعزيز حرية التعبير والصحافة وحقوق الإنسان عامة، محملة إياهم المسؤولية السياسية والتاريخية في إيقاف هذا التدهور الذي يهدد بإعادة إنتاج الاستبداد.
وينص الفصل الـ 31 من الدستور التونسي الجديد على أن “حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة ولا يجوز ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات”، فيما ينص الفصل الـ 32 على ضمان “الدولة الحق في الإعلام والحق في النفاذ إلى المعلومة”، كما يؤكد على سعي “الدولة إلى ضمان الحق في النفاذ إلى شبكات الاتصال”.
سياسة دولة لإعادة القبضة الأمنية على الإعلام
حسب بيان صادر عن نقابة الصحفيين في تونس، لم تكن هذه الممارسات معزولة، “بل تمثل سياسة دولة في محاولة لإعادة القبضة الأمنية على الإعلام، ونسف أهم مكتسبات الثورة التونسية المجيدة التي من أجلها استشهد وجرح المئات من أبناء هذا البلد.”
وذكّرت النقابة، في بيانها، الدولة التونسية بضرورة احترام دستور الثورة والمواثيق والمعاهدات الدولية التي صادقت عليها تونس في علاقة بضمان وحماية وتعزيز حرية التعبير والصحافة وحقوق الانسان عامة، وتحمل السلط الحاكمة المسؤولية السياسية والتاريخية في ايقاف هذا التدهور الذي يهدد بإعادة انتاج الاستبداد.
عبر نقيب الصحفيين ناجي البغوري عن استياء النقابة الشديد للمناخ العام لحرية الإعلام
وقبل ذلك، عبّرت النقابة في بيان لها عن ” انشغالها” إزاء هذه الممارسات التي قالت إنها “تذكّر بزمن الاستبداد”، منّبهة إلى أن “وزير الداخلية الحالي، لطفي براهم الذي كان يتمتع بسمعة سيئة في تلك الحقبة، في علاقة بالصحفيين وبالناشطين الحقوقيين، قد أطلق يد أعوانه ضد الصحفيين، بمجرد وصوله إلى سدة الوزارة”، حسب نص البيان.
في ذات الإطار، عبر نقيب الصحفيين ناجي البغوري في ندوة صحفية، عقدت الثلاثاء الماضي، عن استياء النقابة الشديد للمناخ العام لحرية الإعلام، حسب قوله، بتزايد التضييقات على الصحفيين أثناء القيام بعملهم، كما شدد البغوري على ضرورة التصدي للممارسات الأخيرة التي تنتهجها وزارة الداخلية تجاه الصحفيين.
وقال النقيب، “وزارة الداخلية ليست فوق النقد وعلى السلطة ايقاف هذا المارد المسمى وزارة الداخلية”، معبرا عن استغرابه الشديد من اعتراف وزير الداخلية بالتصنت على مكالمات الصحفيين معتبرا ذلك خرقا واضحا للدستور والقانون، وقال في هذا السياق” لن نسمح بأن تعود الصحافة إلى مربع الطاعة”.
اتهامات للأمن التونسي بالتضييق على الصحفيين
غضب الصحفيين وهياكلهم المهنية، لم يكن مردّه الاعتداءات والتضييق الذي يطالهم فقط، بل يرجع سببه أيضا إلى مناقشة القانون المتعلق بهيئة الاتصال السمعي البصري الذي تناقشه حاليا لجنة الحقوق والحريات بمجلس النواب، والذي تعتبره النقابة مشجع على العودة إلى الوراء وبوابة للسيطرة على وسائل الإعلام.
ودعت النقابة إلى سحب المشاريع الحكومية المتعلقة بقوانين إحداث هيئة الاتصال السمعي والبصري، معتبرة أن المشاورات التي قامت بها الوزارة المكلفة بالعلاقات مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان شكلية وغير شفافة، وغيّبت الجهات الفاعلة في القطاع الإعلامي.
وأشار محللون قانونيون ومنظمات مختصة وخبراء ومهنيون، إلى وجود العديد من الثغرات القانونية في المشروع، وغياب ضمانات الاستقلالية المالية والوظيفية لهيئة الاتصال السمعي والبصري، وغياب التناسب بين مقتضيات الاستقلالية اللازمة وآليات المساءلة، فضلا عن عدم تمكين الهيئة الجديدة من صلاحيات عقابية فعلية وعدم توضيح أدوارها فيما يتعلق بمراقبة تركيز ملكية المنشأة الإعلامية والدور المنوط بها خلال الفترة الانتخابية.
محاولات تركيع الإعلام التونسي
هذه الانتهاكات التي يتعرض صحفي تونس، تندرج حسب عديد الصحفيين، ضمن سلسلة محاولات تركيع الإعلام التونسي والسيطرة عليه وضرب الحريات العامة التي نص عليها دستور الثورة، وفي هذا الشأن يقول الصحفي كريم البوعلي لنون بوست،” أعتقد أن التضييقات على عمل الصحفيين أصبحت ممنهجة من قبل عدة أطراف حكومية أبرزها مصالح الإعلام في رئاسة الحكومة التي تحاول توجيه الرأي العام عبر تطويع بعض الإعلاميين لخدمة أجنداتها والتشويش وهرسلة الصحفيين الرافضين لسياستها.”
وأضاف البوعلي في حديثه لنون، “لا يقتصر التضييق على مصالح الإعلام في رئاسة الحكومة، بل وصل الجهات الأمنية ووزارة الداخلية اللذان أصبحا يعمدان إلى خنق حرية الصحافة وترهيب الإعلاميين حتى أن البعض منهم عمد إلى الاعتداء ماديا على أحد الزملاء المراسلين الأسبوع الفارط.
هذه الاعتداءات التي طالت صحفي تونس، قال البوعلي إنها تعكس التراجع المسجّل في مؤشرات حرية الإعلام وممارسة المهنة في الميدان خاصة أثناء المظاهرات في الشارع، وأشار محدثنا إلى أن الوضع سيزداد سوء في حال تم تمرير مشروع قانون زجر الاعتداءات على الأمنيين المعروض على أنظار مجلس نواب الشعب الذي يمثل خطر كبير على مكسب حرية الصحافة في البلاد.”
هذه التضيقات والاعتداءات المتكرّرة التي تطال الصحفيين من شأنها حسب عديد الخبراء أن تؤثّر سلبا على تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس
وذهب البوعلي بالقول إلى إن النقابات الأمنية قد تجاوزت دورها المتمثل في الدفاع عن الحقوق المادية والمعنوية لمنظوريها لتصبح عقبة أمام حرية الصحفيين ودورهم الهام في ترسيخ الديمقراطية، فهي تلعب حسب رأيه دور المحرّض على الصحفيين.
الصحفية التونسية منال الدربالي، عبّرت من جهتها في تصريح لها لنون بوست، عن شجبها لهذه الممارسات القمعية التي تسعى إلى البروز من جديد، وتهدف إلى مصادرة مكسب حرية التعبير، المكسب الوحيد من الثورة، حسب قولها. وأضافت الدربلي في تصريحها لنون، “نريد صحافة حرة، تشير إلى مشاكل المجتمع، وفشل السلطة السياسية، والجرائم، والإساءات، نريد سلطة رابعة حقيقية، تتجاوز المعلومات، سلطة تعرف كيف تستجيب للسبب وكيف، ولا تقتصر على ماذا تفعل.
هذه التضيقات والاعتداءات المتكرّرة التي تطال الصحفيين من شأنها حسب عديد الخبراء أن تؤثّر سلبا على تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس، التي تعتبر التجربة الوحيدة الناجحة إلى حدّ الأن في المنطقة العربية.