ذكر المؤرخ الإسرائيلي “إيلان بابه” في كتابه “التطهير العرقي في فلسطين” كيف زارت “غولدا مائير”، إحدى الزعماء الصهاينة، حيفا بعد أيام قليلة من نزوح المهاجرين اليهود، وكيف شعرت بإحساس مرعب حينما وجدت الطعام المطبوخ ما زال على الطاولات، والألعاب والكتب التي تركها الأطفال الفلسطينيون مازالت على الأرض، وكأن الحياة قد تجمدت في لحظة، لم يذكرها ذلك سوى بالمجازر الوحشية التي ارتكبت في حق اليهود، ولم يثنيها لا هي ولا دولة الاحتلال عن الاستمرار الكامل في التطهير العرقي للشعب الفلسطيني.
التطهير العرقي هو محاولة خلق حيز جغرافي متجانس عرقيًا بإخلائه من مجموعة عرقية معينة باستخدام القوة المسلحة، أو التخويف، أو الترحيل القسري، أو الاضطهاد، أو طمس الخصوصية الثقافية واللغوية والإثنية، عبر القضاء عليها نهائيا أو تذويبها في المحيط الإثني الذي يُراد له أن يسود.
لا يستهدف التطهير العرقي المجتمعات فحسب، بل يمسّ أيضًا كل ما تؤمن به المجموعة المُهجرة من معتقدات ومقدسات، ويجبرها على على التخلص من جوهر خصوصيتها، بما يتضمنه الدين واللغة والعادات والتقاليد والمعتقدات الفكرية.
على الرغم من أن أكبر ضحايا التطهير العرقي هم المسلمون، إلا أن مسألة التطهير العرقي مُهمشة في المناهج التعليمية في المدارس العربية ذات الأغلبية المسلمة، نعرض إليكم هنا أهم حوادث التطهير العرقي في التاريخ لمجتمعات
1- الهنود الحمر
كانت أولى حوادث التطهير العرقي في التاريخ للهنود الحمر بعد اكتشاف الأمريكتين، حيث أبادت الجيوش الأوروبية أكثر من 80٪ من الهنود الحمر، السكان الأصليين لأمريكا الشمالية، في عام 1846 أُبيد 60 مليونًا بعدما كانوا 80 مليونًا، ليتم إحلالهم بالأمريكيين الأوروبيين في إبادة جماعية دموية قامت على أساسها دولة الولايات المتحدة الأمريكية.
دعمت الحكومة الأمريكية بعد ذلك حركة الهجرة للمهاجرين الأوروبيين للاستيلاء على أراضي أمريكا الشمالية، وروّجت لروايات إعلامية مُلفقة أن الهنود الحُمر أبادوا أنفسهم بأنفسهم في حروب كانوا هم المسؤولين عن أضرارها، بالإضافة إلى النقص الحاد في أعدادهم بسبب الأمراض والأوبئة التي حلت عليهم جراء هجرة الأوروبيين.
إضافة إلى الإبادة الجماعية، دعمت الحكومة الأمريكية مشاريع الطمس الثقافي للهنود الحُمر من خلال تصوير حضارتهم بالبربرية المتوحشة من خلال التمثيل بالرجل الأبيض نتيجة العنف المرتكب في حقه من قبائل الهنود الحمر، وتجاهلت الثقافة الأمريكية سرقة تعاليم الزراعة التي تعلموها من الهنود الحمر واستغلال الثروات الطبيعية الخاصة بهم.
على الرغم من النقص الحاد في أعداد الهنود الحمر، إلا أن هناك حقيقة غريبة بخصوص أعدادهم في العصر الحديث، ألا وهي أنها في ازدياد ولكن ببطء، حيث زادت أعداد الهنود الحُمر بنسبة 26.7٪ ليكونوا مليون شخص ما بين سنة 2000 و 2010، ومن المتوقع وصول عددهم إلى بضعة ملايين بحلول عام 2050.
2- سوتشي والتطهير العرقي للشراكسة المسلمين
المدينة التي تجري فيها المفاوضات ما بين النظام الروسي والمعارضة الروسية هذه الأيام، وعلى الرغم من أن مدينة “سوتشي” هي من أكثر المنتجعات الروسية الفخمة الآن على ضفاف البحر الأسود، إلا أن المدينة لها تاريخ من أبشع المجازر التاريخية التي ارتُكبت في حق المسلمين الشراكسة، السكان الأصليين لمدينة سوتشي أو ما كان يُسميها الشراكسة بمدينة “تشاتشا”.
شهدت المدينة مذابح دموية في القرن التاسع عشر الميلادي أثناء حرب الروس ضد السكان الأصليين من المسلمين، مما دفعهم إلى الهرب إلى الدولة العثمانية آنذاك
شهدت المدينة مذابح دموية في القرن التاسع عشر الميلادي أثناء حرب الروس ضد السكان الأصليين من المسلمين، مما دفعهم إلى الهرب إلى الدولة العثمانية آنذاك، إلا أن ظروف التهجير القسري القاسية تسببت في موت مئات الآلاف منهم، ما يُقدر بـ 600 ألف ضحية، غرقًا في البحر الأسود، المكان الذي يرفض الشراكسة إلى الآن صيد السمك منه على الرغم من مرور أكثر من 150 عامًا على التطهير العرقي لأجدادهم.
سكن من تبقى من شراكسة سوتشي الدولة العثمانية و بعض البلاد العربية مثل سوريا ولبنان ومصر وفلسطين، إلا أن من تواجد منهم في المنطقة لم ينسى ما حدث لأجدادهم في تاريخ المدينة التي اعتمدها الروس منتجعًا سياحيًا فخمًا، استضافت فيه الألعاب الأوليمبية الشتوية عام 2014، وهو ما استغله الشراكسة في تنظيم المظاهرات والحملات الدولية التي تشجب ما ارتُكب في حق أجدادهم قبل أكثر من 150 عامًا.
تعيش البلاد على جمر من الصراعات العرقية نمت على هامشها حروب دينية بين متطرفي الديانة البوذية ضد المسلمين والمسيحيين
3- مسلمو الروهينجا: أكثر الأقليات تعرضًا للاضطهاد في العالم
طبقًا لتقارير الأمم المتحدة تجري الآن عملية “تطهير عرقي” في ميانمار أدت إلى تهجير ما بين ٣٠٠ إلى ٥٠٠ ألف شخص من أقلية الروهينجا المقدر عددها بـ1.1 مليون نسمة، وذلك عقب مضي عقود من الاضطهاد الموجه ضدهم، كان أبرز تجلياته تجريدهم من الجنسية سنة 1982، وفي آخر فصول هذه المحرقة التي تدور رحاها تجاه مسلمي الروهينجا، فرّ قرابة 18 ألف روهينجي مسلم في أقل من أسبوع، بعد أن أطلق الجيش حملة قمعية وحشية ضدهم في إحدى حالات العقاب الجماعي ضد هذه الأقلية.
تعيش البلاد على جمر من الصراعات العرقية نمت على هامشها حروب دينية بين متطرفي الديانة البوذية ضد المسلمين والمسيحيين، بالإضافة إلى تنوع أسباب التطهير العرقي ضد المسلمين تحديدًا، فكان هناك الدافع الاقتصادي الذي يسعى الجيش من أجله للسيطرة على الموارد في المنطقة التي تعيش فيها أقلية “الكاريني” المسلمة.
4- التطهير العرقي في فلسطين
اتبع الكيان الصهيوني سياسة التطهير العرقي للشعب الفلسطيني منذ أول يوم وطأت فيه القوى الاستعمارية الأوروبية أرض فلسطين، فاستخدم الكيان الصهيوني كل الأساليب الخاصة بالتطهير العرقي تجاه السكان الأصليين، حيث استعمل التهجير القسري، القوة والعنف، المجازر والمذابح الدموية، التمييز العرقي والسياسي والديني لكل من هو غير يهودي من يهود الأشكناز، أو اليهود المهاجرين الأوروبيون من كل بقاع الأرض.
لم يتوقف الكيان الصهيوني عن كل أنواع التطهير العرقي حتى يومنا هذا، إذ يحاول “تبييض” التاريخ الفلسطيني في كل محاور الثقافة والتواصل وأهمها الإعلام الغربي
استعملت دولة الاحتلال كل الأساليب الممكنة لطرد الفلسطينيين من بيوتهم، واستعملت أسلحة كيميائية وبيولوجية يحرمها القانون الدولي، واستخدمت الاعتقالات السياسية لكل أطياف الشعب الفلسطيني من نساء ورجال وأطفال سلاحًا لقمع كل صور المقاومة السلمية والمسلحة.
لم يتوقف الكيان الصهيوني عن كل أنواع التطهير العرقي حتى يومنا هذا، إذ يحاول “تبييض” التاريخ الفلسطيني في كل محاور الثقافة والتواصل وأهمها الإعلام الغربي، حيث يحاول الكيان الصهيوني فرض روايته الخاصة حيال النكبة الفلسطينية، التي يحاول تعريفها أصلًا على أنها يوم إعلان “دولة إسرائيل” بدلًا من تعريفها أنه يوم نكبة الشعب الفلسطيني.
5- التطهير العرقي في يوغسلافيا
كان التطهير العرقي للمسلمين في يوغسلافيا ضمن أبشع المجازر التاريخية في عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك في التسعينات من القرن الماضي، بعد تبني سياسة العرق المتجانس وتطهير المسلمين منه، ارتكب الصرب والكرواتيون جرائم بشعة ضد مسلمي البوسنة والهرسك من خلال القتل والعنف و التهجير القسري والاعتقال التعسفي خارج القضاء واغتصاب النساء و ذبح الرجال والأطفال، والتدمير المتعمد للممتلكات.
لجأ أكثر من 700 ألف إلى أوروبا، و أكثر من ربع مليون مشردين وضحايا بالآلاف راح منهم فقط ما يقرب من 8 آلاف ضحية من الرجال و الصبيان في “سربنيتشا” في البوسنة خلال حرب البوسنة والهرسك، والتي تعتبر أسوأ جريمة على الأراضي الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية.
كان التطهير العرقي للمسلمين في يوغسلافيا ضمن أبشع المجازر التاريخية في عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية
التطهير العرقي هو جزء لا يتجزأ من جريمة الإبادة الجماعية، ومشروع يتعدى على حق جماعات كاملة في حقهم في الحياة، بدأ منذ القرون الوسطى واستمر حتى يومنا هذا في العصر الحديث بنفس العقلية الاستعمارية على مدار قرون من الزمن، يستهدف جماعة من البشر و يحاول تغييرهم جذريًا، فإما أن يقبلوا أن يتحولوا ليكونوا بنفس عقلية المستعمٍر أو يمحيهم المستعمر من على قيد الحياة كليًا.