عادت المفاوضات من جديد لتصبح عنوانا للحدث الفلسطيني، فبعد ما يقرب من ثلاث سنوات من توقف المفاوضات، وتزامنا مع “الربيع العربي” ووصول الإسلاميين للحكم في دوله وخاصة مصر، عادت نغمة التفاوض مرة أخرى، حاملة معها مبعوثا أمريكيا جديدا -قديما- للسلام في الشرق الأوسط، ووجوها قديمة لم يعتد المواطن العربي غيابها عن جلسات التفاوض.
فبعد أن فضحت الوثائق التي نشرتها الجزيرة -وللمفارقة مع الأيام الأولى للثورة المصرية- أساليب السلطة الفلسطينية في التفاوض على “كل الثوابت” الفلسطينية، بما فيها القدس الشريف وحق عودة اللاجئين، واستقال على اثرها كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات، بدا أن مسار التفاوض سيتوقف تماما. تعزز ذلك التوجه عقب لحظتين فارقتين في تاريخ المنطقة. اللحظة الأولى كانت نجاح الإخوان المسلمين في الانتخابات البرلمانية ثم الانتخابات الرئاسية في مصر ليكون الإخوان ولأول مرة منذ إنشاء الجماعة قبل خمسة وثمانين عاما على رأس السلطة في أكبر بلد عربي.
اللحظة الفارقة الثانية التي تأكد للجميع فيها أن الشعب الفلسطيني على وشك الانتقال تماما من خانة التفاوض إلى خانة المقاومة كانت اللحظة التي استمرت مع تمام صفقة الإفراج عن ألف أسير فلسطيني مقابل الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، وحتى “انتصار” حركة المقاومة الإسلامية حماس في حربها الأخيرة مع إسرائيل عقب اغتيال القيادي في كتائب عز الدين القسام أحمد الجعبري نوفمبر الماضي.
توقفت المفاوضات -العلنية على الأقل- في ظل النجاحات المتتالية للمقاومة في غزة، مع دعم من دول الربيع العربي خاصة مصر. الدعم الذي ثمنته حماس لاحقا أدى لإنهاء المعركة بهدنة تحققت فيها كل شروط المقاومة الفلسطينية، وأعلن “انتصار” المقاومة من القاهرة خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس بصحبة رمضان شلح رئيس حركة الجهاد الإسلامي.
الموقف المصري اعتبرته حماس في حينها “مرحلة جديدة في تاريخ مصر، وعهد جديد في العلاقات المصرية الفلسطينية، والدعم السياسي من مصر لغزة يختلف تمامًا عما كان قبل الثورة” حسبما صرح المتحدث الرسمي باسمها سامي أبو زهري.
إذاً كان الربيع العربي, مع فضيحة سجلات التفاوض، وانسداد الأفق السياسي للسلطة، بالإضافة للتعنت الإسرائيلي بخصوص تجميد الاستيطان داخل الأراضي المحتلة عام ١٩٦٧ ، وقبل ذلك ومعه آداء المقاومة، كل تلك الأسباب كانت العوامل الرئيسية في توقف المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي، ولذلك نأتي للسؤال الأهم: ما الذي أعاد المفاوضات لتتصدر المشهد؟
من المعلوم أن الحالة الفلسطينية أكثر تركيبية من اختزال أحد أهم عناصرها (المفاوضات) في معادلات كلامية ستخل -قطعا- بعمق القضية وتعقيدها، ولكن هذه المحاولة هي فقط لتسليط الضوء على الدور الذي تلعبه أزمة دول الربيع العربي انحسار موجة الديمقراطية مع الانقلاب العسكري في مصر والتوترات التي أدت بشكل أو بآخر للرجوع إلى المربع صفر مرة أخرى.
بالتوازي مع الانقلاب العسكري في مصر، قررت الإدارة الأمريكية تعيين اليهودي الإسرائيلي مارتن إنديك مبعوثا للسلام في الشرق الأوسط، وهو القرار الذي فُهم وسط المتابعين أنه محاولة لحث الإسرائيليين على إبداء مرونة أكبر في المفاوضات.
مارتن إنديك الذي زار القاهرة أكثر من مرة عقب الثورة، معروف بحنقه الشديد على المقاومة الفلسطينية وما يعرف بحركات الإسلام السياسي. وهو ما يرسل رسالة أخري تتعلق بأن الولايات المتحدة تدرك أن مرحلة تأثيرالإسلاميين كفاعل أكبر في المنطقة قد انتهت أو على وشك أن تنتهي مع الانقلاب في مصر والحرب الأهلية في سوريا والتوترات في تونس واليمن وليبيا.
وعلى الرغم من أن السلطة الفلسطينية كانت تربط بين تجميد الاستيطان واستئناف المفاوضات، إلا أن الرئاسة الفلسطينية قالت أن مطالبهم التي نقلها الرئيس أبومازن لوزير الخارجية الأميركي جون كيري تتضمن اعتراف إسرائيل بحل الدولتين على حدود 67، وتوضيحا بشأن إطلاق إسرائيل لسجناء كبادرة حسن نية.
وكانت إسرائيل قد أعلنت إنها ستبدأ منذ سبتمبر/أيلول المقبل إطلاق سراح 82 أسيرا فلسطينيا اعتقلوا قبل 1993، وهو تاريخ توقيع اتفاق أوسلو بين الطرفين.
صائب عريقات الذي استقال من منصبه كرئيس لدائرة المفاوضات الفلسطينية مع فضيحة الوثائق، عاد مرة أخرى ليتصدر المشهد ليقدم المزيد من التنازلات، والتي كان أخطرها بحسب الوثائق أنه “عرض على الإسرائيليين أكبر أورشليم في تاريخ الدولة اليهودية” إلا أن المفاوض الإسرائيلي لم يوافق على ذلك أيضا.
عريقات الذي قال للمبعوث الأمريكي للشرق الأوسط جورج ميتشل في حوار معه في أكتوبر ٢٠٠٩ “عليكم أن تفهموا قوة الإخوان المسلمين وحماس والقنوات الفضائية الموجهة ضدنا.. إنها حكومة موازية في مصر وأنتم بحاجة لحل هذا الأمر مع العرب”. يؤكد أن خلافا جذريا بينه وبين الإخوان المسلمين في مصر لن يُحل على الإطلاق بوصول الإخوان للحكم في مصر، وهو ما حدث بعدها بسنتين.
عودة الفلسطينيين مرة أخرى إلى طاولة المفاوضات أتت مع المنافع. الأمريكيون قدموا عرضا لم تستطع السلطة رفضه. أمين سر المجلس الثوري لحركة فتح أمين مقبول قال في تصريحات صحفية أن العروض الأمريكية شملت حوافز اقتصادية ستقدم للسلطة.
مصادر أخرى من داخل منظمة التحرير ترى أن الإسرائيليين لا يبحثون إلا عن غطاء للاستيطان، ستوفره لهم المحادثات مع مفاوضيهم الفلسطينيين، الذين لن يجدوا حرجا في توفير ذلك الغطاء كما تثبت محاضر التفاوض السابقة.
بغض النظر عن الأسباب التي دفعت الفلسطينيين للقبول بدخول مفاوضات جديدة ليس لهم فيها أي ضمانات، إلا أن المشهد الآن يوحي أن الأعوام الثلاثة الماضية قد ذهبت أدراج الرياح، وأن الوجوه التي تفاوض، والأعين التي تراقب، والأيدي التي توقع، كلها قد أتت من تاريخ سابق للربيع العربي، حيث كان كل شيء مختلفا!