تُظهر مؤشرات عديدة في المغرب، تراجع ثقة سكان المملكة في السياسيين، سواء الذين في الحكم أو المعارضة، ذلك أنهم ملوا الوعود والعهود التي أفلح السياسيون في تقديمها دون الوفاء بها أو حتى العمل على تحقيقها، فمعظمها ظل معلقًا ولم يتجاوز عتبة المنطوق؛ الأمر الذي يفسر لجوء ساكني العديد من المناطق في البلاد إلى الملك مباشرة ومطالبته بالتدخل على غرار تدخله في 9 من مارس/آذار من عام 2011 بإعلان تعديلات دستورية جنبت المغرب السقوط في مسار صدامي بين المطالب الشعبية وسلطات النظام الملكي آنذاك.
تكرر المطالب
خلال الاحتجاجات الأخيرة في مدينة جرادة شمال المغرب التي انطلقت عقب مصرع اثنين من العاملين في المناجم غير القانونية إثر حادث في أثناء عملهم نهاية شهر ديسمبر الماضي، طالب بعض ساكني المدينة تدخل الملك محمد السادس مباشرة لوضع حد لما يصفوه بـ”التهميش” الذي تعاني منه منطقتهم.
وزادت الاحتجاجات هناك، بعد مقتل رجل آخر وإصابة ثانٍ بجروح خفيفة، أول أمس الخميس، في منجم غير قانوني مهجور بناحية حي حاسي بلال في المدينة التي كانت منطقة منجمية قبل إغلاق منجم كبير للفحم عام 1998، ويبلغ عمر القتيل 36 سنة.
بعد أن مل ساكنو “زاكورة” وعود السياسيين والحكام المحليين للمنطقة، توجهوا مباشرة للملك لطلب توفير الماء الصالح للشرب في المنطقة
طلب تدخل الملك مباشرة، لم يقتصر على ساكني “جرادة” فقد سبقهم في ذلك ساكنو مدن الريف الذين طالبوا تدخل العاهل محمد السادس لإيجاد حل للمشاكل التي تعرفها مدنهم وكانت سببًا في اندلاع حراك الريف في شهر أكتوبر 2016 الذي يتواصل إلى اليوم رغم تراجع حدته قليلاً.
نفس الأمر كان في مدينة زاكورة التي تقع على مشارف الصحراء على بعد 700 كيلومتر من العاصمة، تلك المدينة التي تعاني منذ فصل الصيف نقصًا شديدًا في المياه، فضًلا عن الانقطاعات المتكررة، فبعد أن مل ساكنو المدينة وعود السياسيين والحكام المحليين للمنطقة، توجهوا مباشرة للملك لطلب توفير الماء الصالح للشرب في المنطقة.
عجز عن الاضطلاع بأدوارهم
التوجه مباشرة إلى الملك محمد السادس، جاء نتيجة عجز حكومة سعد الدين العثماني وقبله عبد الإله بنكيران، وممثليهما في المدن والأرياف، عن الاستجابة لمطالب السكان الذين يخشون مزيدًا من تدهور حالتهم الاجتماعية والاقتصادية، فما كان لهم إلا الاستنجاد بالملك عله يستمع إليهم ويجد حلاً لبعض مشاكلهم التي أربكت حياتهم.
ويرى المواطن المغربي العادي، أن الأحزاب السياسية والسياسيين، قد خذلوه بعد أن وضع ثقته فيهم، عند أول اختبار لهم حين فضلوا بيع خدماتهم للسلطة على الاستمرار في الوفاء لمطالب الشعب، فهمهم الوحيد تحسين صورتهم لدى “المخزن” وكسب فوائد شخصية لهم.
يطالب ساكنو مناطق مختلفة من المملكة بالتنمية وتحسين ظروف معيشتهم
خلال هذه الاحتجاجات تأكد المواطن المغربي البسيط، حسب عديد من المتابعين للشأن المغربي، من حقيقة عجز المؤسسات الرسمية عن الاضطلاع بالأدوار المنوطة بها، خاصة بعد سماعه في أكثر من خطاب ملكي سيلًا من الانتقادات لهذه المؤسسات وللسياسيين.
ففي خطاب العرش الأخير، وجه العاهل المغربي محمد السادس مجموعة من الانتقادات اللاذعة للطبقة السياسية والأحزاب، محملاً إياها الجزء الأوفر من مسؤولية تردي الأوضاع وفشل مجموعة من المشاريع، مطالبًا إياها بالإنصات لهموم الشعب وتقديم خيرة نخبتها والابتعاد عن الصراعات السياسية الضيقة وجعل احتياجات المواطن ومصلحة الوطن فوق أي اعتبار سياسي ضيق.
وأشار ملك المغرب إلى أن بعض السياسيين انحرفوا بالسياسة، كما أن المواطن لم يعد يثق بهم، وخاطب المسؤولين بقوله إما أن تقوموا بمسؤولياتكم أو تنسحبوا، وقال إنه عندما لا تسير الأمور كما ينبغي يتم الاختباء خلف القصر الملكي في حين يتم الهرولة لقطف نتائج وثمار النجاح، معبرًا عن صدمته من تواضع الإنجازات في بعض القطاعات.
التوجه مباشرة إلى الملك يرى فيه عديد من المراقبين، مجرد خيط أمل يتمسك به ساكنو المناطق المهمشة
العاهل المغربي اعتبر حينها أيضًا أن تعطيل مسؤول ما لمشروع تنموي أو اجتماعي، لحسابات سياسية أو شخصية، يعد “خيانة”، وتصرفات عدد من المسؤولين تزكي الفكرة السائدة لدى عموم المغاربة بأن “التسابق على المناصب، هو بغرض الاستفادة من الريع، واستغلال السلطة والنفوذ”.
تلا ذلك، إعلان غضبة ملكية أطاحت بوزراء منهم أربعة في الحكومة الحاليّة، وحرمان خمسة في الحكومة السابقة من أي مهام مستقبلًا، ومعهم مسؤولون إداريون في العديد من القطاعات الحكومية، على خلفية تعثر الأشغال في مشروع “الحسيمة منارة المتوسط”.
انتهاء مرحلة الأحزاب التقليدية؟
انعدام الثقة في السياسيين، وصل حسب خبير الدستور والمتخصص في الشؤون البرلمانية والحزبية رشيد لزرق، إلى درجة الإحباط وعدم قبول الجلوس معهم والتحاور في مختلف التحركات الاحتجاجية التي تشهدها المملكة المغربية حسب قوله.
ويقول لزرق في تصريح لـ”نون بوست”: “مرحلة القيادات الشعبوية أفشلت الجسور الذي وضعها دستور 2011، بفعل امتهان المزايدة وغياب مشروعية الإنجاز، بحيث أضحى المجال السياسي يعيش زلزالًا، ربما يكون لحظة تأسيس لمنعطف جديد، في ظل عجز الأحزاب التقليدية على تحقيق التوازن السياسي اللازم لتحقيق تداول السلطة.
يرجع خبراء مسؤولية الأوضاع في البلاد إلى الملك
ويضيف المحلل المغربي أن “التعددية المغربية تعرف أزمة أفكار وتنامي القيادات الشعبوية، بحيث باتت الأحزاب التقليدية عاجزة عن مواكبة التحولات الكبرى بل هناك انفلات عن الخط السياسي، وترديد لمقولات خارج السياق السياسي للمزايدة دون القدرة على ترجمتها بواقع عملي”.
وتساءل لزرق عن إمكانية بعث حركة سياسية جديدة في البلاد تملأ الفراغ السياسي وتعيد هيكلة الحقل السياسي لتحقيق اختراق شعبي بطريقة سريعة تجذب الشباب، وتكون محفزًا للأحزاب التقليدية لإعادة بناء نفسها واستعادة المبادرة.
التوجه مباشرة إلى الملك يرى فيه عديد من المراقبين، مجرد خيط أمل يتمسك به ساكنو المناطق المهمشة، فالملك المسؤول الأول حسب هؤلاء المراقبين فيما وصلت له الأوضاع في البلاد، فهو في أعلى السلطة والمسؤول الأول عن النموذج السياسي المعتمد الذي كان بمثابة الحاجز أمام عمليات التنمية في المملكة، ذلك أن هذا النموذج السياسي ما فتئ يكرس الفوارق الاجتماعية والطبقية والمجالية، ويولد الإقصاء والتفقير في حق عدد كبير من مواطني المملكة.