انتهت إذًا انتخابات البرلمان الأوروبي بصعود متوقع لأحزاب اليمين، وإن كانت أحزاب وسط اليمين واليسار هي المسيطرة. هذا الصعود للقوميين والشعبويين سيكون له أثر على مستقبل سياسة الاتحاد الأوروبي، على الصعيد الداخلي والخارجي. لكن قبل معرفة هذه التأثيرات، علينا معرفة ما أفرزته نتائج الانتخابات البرلمانية الأوروبية، وصلاحيات البرلمان ونطاق عمله.
خارطة جديدة
هزّت الأحزاب اليمينية المتطرفة القوى التقليدية في الاتحاد الأوروبي بتحقيق مكاسب كبيرة في المقاعد البرلمانية، ما أدّى إلى هزيمة مذلّة بشكل خاص للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي دعا إلى انتخابات تشريعية مبكرة.
وأظهرت النتائج أن عضوية البرلمان في الكتلة المكونة من 27 دولة قد تحولت بشكل واضح إلى اليمين، حيث زادت رئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، مقاعد حزبها في الجمعية بأكثر من الضعف.
ورغم فضيحة تورّطَ فيها مرشحون، لا يزال حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف يحصد ما يكفي من المقاعد لاجتياح الحزب الديمقراطي الاشتراكي المتراجع بزعامة المستشار أولاف شولتس، كما حققت الأحزاب اليمينية انتصارات في كل من إسبانيا والمجر والتشيك وهولندا والنمسا.
ففي فرنسا، فاز التجمع الوطني الذي تتزعّمه ماريان لوبان بأكثر من 30%، أو حوالي ضعف ما حصل عليه حزب التجديد الوسطي المؤيد لأوروبا بزعامة ماكرون، والذي من المتوقع أن يحصل على أقل من 15%.
وفي ألمانيا، الدولة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في الاتحاد الأوروبي، ارتفعت نسبة تأييد حزب البديل اليميني إلى 16.5% مقارنة بـ 11% عام 2019. وبالمقارنة، فإن النتيجة المجموعة للأحزاب الثلاثة في الائتلاف الحاكم الألماني بالكاد تجاوزت 30%، حيث تعرض الحزب الديمقراطي الاشتراكي الحاكم بزعامة شولتس لضربة كبيرة مع صعود حزب البديل من أجل ألمانيا إلى المركز الثاني.
ألمانيا تملك 96 مقعدًا من مقاعد البرلمان الأوروبي الجديد البالغ عددها 720 مقعدًا، ومن بينها ذهب 29 إلى كتلة الاتحاد (يمين الوسط)، و15 إلى البديل من أجل ألمانيا، و14 إلى الديمقراطيين الاشتراكيين، و12 إلى حزب الخضر، و5 إلى الديمقراطيين الأحرار، أما الباقي ذهب إلى أحزاب أخرى صغيرة.
وفي إيطاليا فاز حزب أخوة إيطاليا اليميني المتطرف، بزعامة رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني، بأكبر نسبة 28.5% من الأصوات، بينما احتل الحزب الديمقراطي المعارض من يسار الوسط المركز الثاني بنسبة 23.7%.
أما في باقي الدول فقد كانت النتائج كالآتي:
– إسبانيا: حصل الحزب الشعبي اليميني المعارض على 34% من الأصوات، أي أكثر بـ 4 نقاط مئوية من الاشتراكيين من يسار الوسط بزعامة رئيس الوزراء بيدرو سانشيز. وقد تُرجم ذلك إلى 22 مقعدًا للمحافظين، أي أكثر بـ 9 مقاعد ممّا كانت عليه في الانتخابات الأوروبية السابقة، و20 مقعدًا للاشتراكيين، والجدير بالذكر أن إسبانيا تملك 61 مقعدًا من أصل 720 في برلمان الاتحاد.
– أما في المجر فقد حاز حزب فيدس بزعامة أوربان على 43% من الأصوات، وهو ما يكفي لإرسال 11 مندوبًا من إجمالي مقاعد المجر البالغ عددها 21 مقعدًا في المجلس التشريعي للاتحاد الأوروبي.
– في سلوفاكيا حققت سلوفاكيا التقدمية، وهي مجموعة ليبرالية وموالية للغرب، على 27.8% من الأصوات لـ 6 مقاعد برلمانية. وجاء في المرتبة الثانية حزب سمير، الذي يرفض إرسال أي أسلحة إلى أوكرانيا لمواجهة الغزو الروسي وينتقد السياسات الأوروبية السائدة، بنسبة 24.8% لـ 5 مقاعد.
– في التشيك، هزمَ رئيس الوزراء السابق ذو التوجهات الشعبوية أندريه بابيس، والذي يتزعم حركة آنو (أي “نعم”)، ائتلاف يمين الوسط معًا الذي يتكون من 3 شركاء في الائتلاف الحاكم التشيكي: الحزب الديمقراطي المدني المحافظ بزعامة رئيس الوزراء بيتر فيالا، والديمقراطيون المسيحيون، وحزب توب الليبرالي المحافظ. وحصلت حركة آنو على 26% من الأصوات لـ 7 مقاعد، فيما حصلت حركة معًا على 22% لـ 6 مقاعد.
ولو أردنا تقسيم البرلمان الأوروبي بصورته النهائية، يمكن القول إن تحالف الشعوب الأوروبي (يمين الوسط) لا يزال في الصدارة بـ 189 مقعدًا، تليها كتلة تجديد أوروبا (ليبرالية) بـ 82 مقعدًا، ثم المحافظين الإصلاحيين (أقصى اليمين) بـ 72 مقعدًا، ثم كتلة الهوية والديمقراطية (أقصى اليمين) بـ 58 مقعدًا، ثم حزب الخضر الذي تعرض لخسارة كبيرة بـ 53 مقعدًا، ثم المستقلون بـ 50 مقعدًا وأخيرًا أحزاب اليسار بـ 35 مقعدًا.
ما هي صلاحيات البرلمان الأوروبي؟
يعدّ البرلمان الأوروبي جزءًا من العملية التشريعية أو عملية صنع القانون في الاتحاد الأوروبي، يقع مقره في بروكسل ولوكسمبورغ وستراسبورغ. ويجب أن تتم الموافقة على معظم القوانين المقترحة من قبل البرلمان الأوروبي ومجلس الاتحاد الأوروبي لتصبح قانونًا.
يضم البرلمان 720 مقعدًا، وتجرى الانتخابات لشغل هذه المقاعد في جميع الدول الأعضاء كل 5 سنوات، ويتم تقسيم حصص كل دولة على حسب عدد سكانها، وللبرلمان الأوروبي 3 أدوار:
- يناقش التشريعات؛ يمكنه تمرير القوانين أو رفضها، كما يمكنه إجراء التعديلات (لكن ليس في جميع الحالات). يجب أيضًا أن يتم إقرار القوانين من قبل مجلس الاتحاد الأوروبي حتى تصبح قانونًا. إذا كان القانون يتعلق بميزانيات الاتحاد الأوروبي، فلا يمكن للبرلمان سوى تقديم المشورة بشأنه، ولا يملك سلطة رفض القانون.
- يشرف على مؤسسات الاتحاد الأوروبي وميزانياته؛ يجب أن يحصل رئيس مفوضية الاتحاد الأوروبي على موافقة البرلمان، ويجب أن تجيب المفوضية عن الأسئلة الكتابية أو الشفهية أثناء طرحها.
- يحدد ميزانية الاتحاد الأوروبي جنبًا إلى جنب مع مجلس الاتحاد الأوروبي.
وخلافًا لأغلب البرلمانات الوطنية، لا يستطيع البرلمان الأوروبي طرح التشريعات، إذ إن المفوضية الأوروبية هي المؤسسة الوحيدة في الاتحاد الأوروبي التي تتمتع بسلطة إصدار (أو بدء) قوانين جديدة، ويمكن للبرلمان فقط أن يطلب من اللجنة وضع القوانين.
كيف ستؤثر نتائج الانتخابات على الاتحاد الأوروبي؟
من المتوقع أن تُحدث نتائج الانتخابات الأخيرة تغييرًا في السياسة الأوروبية المتعلقة بالاتحاد ككُلّ، لكنها ستكون بعيدة عن التأثير في بعض الملفات التي تخضع لحكومات كل بلد وبرلمانها المحلي، وهذه أبرز التوقعات لما قد تكون عليه الأحوال في بضعة ملفات:
المناخ
ستكون السنوات الخمس المقبلة حاسمة في تحديد ما إذا كانت أوروبا ستحقق أهدافها المتعلقة بتغير المناخ لعام 2030. إذ سيكون هذا الملف هو الأكثر تأثرًا بصعود اليمين المعارض لقوانين المناخ، وهو أحد أبرز الملفات التي حاز فيها على أصوات ناخبيه المثقلين بالقوانين الأوروبية المتجهة نحو الطاقة النظيفة.
يمكن لبرلمان الاتحاد الأوروبي ذي الأعضاء الذين لديهم توجُّه يميني، وهم عادة محافظون اتجاه سياسات المناخ، أن يحاول إضافة ثغرات لإضعاف تلك القوانين، حيث من المقرر مراجعة العديد منها في السنوات القليلة المقبلة، بما في ذلك التخلص التدريجي من بيع السيارات ذات محركات الاحتراق الجديدة لعام 2035، والتي واجهت انتقادات خلال الحملة الانتخابية للاتحاد الأوروبي، بما في ذلك من المشرعين في المجموعة السياسية التي تنتمي إلى يمين الوسط والتي تتزعّمها فون دير لاين.
الحرب في أوكرانيا
احتشد الاتحاد الأوروبي خلف أوكرانيا منذ الغزو الروسي عام 2022، حيث رأى الكثيرون في أوروبا أن الحرب تمثل تهديدًا وجوديًا، وتقع 5 دول في الاتحاد الأوروبي على الحدود مع روسيا. فقد قدم الاتحاد الأوروبي المليارات من اليورو على هيئة مساعدات مالية وعسكرية لأوكرانيا، ووضعها على الطريق نحو عضوية الاتحاد الأوروبي، في حين فرض جولة تلو الأخرى من العقوبات على المسؤولين والشركات الروسية وقطاع الطاقة لديها.
ولا يوجد تهديد وشيك بدعم أوكرانيا، لكن نتائج الانتخابات قد تؤدي إلى تعقيد المناقشات بشأن أوكرانيا، حيث تدعم الأحزاب القومية في معسكر المحافظين والإصلاحيين الأوروبيين -والذي يضم رئيسة وزراء إيطاليا اليمينية المتطرفة جورجيا ميلوني– أوكرانيا.
أما أعضاء مجموعة الهوية والديمقراطية التي تضم مارين لوبان الفرنسية، فهم أكثر ودّية مع روسيا، ويظل رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان أقرب حليف لبوتين في الاتحاد الأوروبي. ويسلط هذا الانقسام حول أوكرانيا الضوء على التحدي الأساسي الذي تواجهه قوى اليمين المتطرف في أوروبا: تركيز هذه القوى على المصالح الوطنية يجعل من الصعب العمل معًا على المستوى الأوروبي.
التجارة والهجرة
من غير المرجح أن تتغير السلطة التنفيذية للاتحاد الأوروبي عن التركيبة الوسطية الحالية، فهي تفرض تدابير الحماية التجارية وليس البرلمان. لكن تحوُّل البرلمان نحو اليمين قد يكون له تأثير، حيث يخطط الاتحاد الأوروبي بالفعل لفرض رسوم جمركية على السيارات الكهربائية الصينية.
قال يورج كريمر، كبير الاقتصاديين في كومرتس بنك، إن التحرك السياسي نحو اليمين في البرلمان الأوروبي ونتائج الانتخابات البرلمانية الجديدة في فرنسا، سيؤدي بلا شك إلى مزيد من الحواجز التجارية بين الاتحاد الأوروبي والصين.
وأضاف كريمر: “لقد تلقوا ضربة مؤخرًا بشأن احتمالات رفع التعريفات الجمركية الصينية”، متابعًا: “يمكن أن تستهدف الصين أيضًا منتجات الألبان والنبيذ وأجزاء الطائرات”.
نختم بملف الهجرة الذي سيكون أحد أكثر العلامات الفارقة في سياسات الاتحاد الأوروبي في ظل صعود اليمين، وتبني أحزاب يمين الوسط ويسار الوسط خطابًا شعبويًا للتقرُّب من الناخبين في هذا الملف، حيث من غير المرجح أن تجد كتل اليمين الأوروبية معارضة حقيقية في مزيد من الإجراءات المتشددة تجاه سياسات الهجرة نحو بلدان الاتحاد الأوروبي.