تبنى مجلس الأمن الدولي، أمس الاثنين، مشروع قرار يدعم مقترح الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي أعلن عنه في 31 مايو/أيار الماضي، وينص على “وقف إطلاق نار دائم والانسحاب التام من غزة، وتبادل الأسرى والإعمار، وعودة النازحين، ورفض أي تغيير ديمغرافي للقطاع”.
وحصل مشروع القرار على تأييد أغلبية أعضاء المجلس، إذ استحوذ على دعم 14 صوتًا، فيما امتنعت روسيا عن التصويت، داعيًا كل من الحكومة الإسرائيلية وحركة المقاومة حماس “إلى التطبيق الكامل لشروطه من دون تأخير ودون شروط”.
ويعد هذا القرار هو الثاني لمجلس الأمن منذ بداية الحرب التي دخلت شهرها التاسع وخلفت حتى الآن أكثر من 36 ألف شهيد ونزوح ما يزيد على مليوني فلسطيني وتعريض حياة عشرات آلاف النساء والأطفال لخطر الموت، إما جوعًا وإما قصفًا، حيث تبنى المجلس في 25 مارس/آذار الماضي قرارًا مماثلًا حصل على دعم الأغلبية فيما امتنعت الولايات المتحدة حينها عن التصويت، غير أن الكيان المحتل لم يلتزم به في ظل افتقاده للضمانات الكافية لتنفيذه، فهل يحمل القرار الحالي أي جديد؟ وما الفرق بينه وبين القرار السابق؟
تفاصيل مشروع القرار
لم يختلف المشروع الذي تم التصويت عليه أمس كثيرًا عن الذي أعلن عنه بايدن نهاية مايو/أيار الماضي، كذلك الذي قدمه الوسيط المصري ووافقت عليه حماس سابقًا، وإن أدُخل عليه بعض التعديلات فيما يتعلق بمسألة الوقف الدائم لإطلاق النهار كخطوة لإنهاء الحرب والانسحاب الكامل لجيش الاحتلال من كل مناطق قطاع غزة دون استثناء.
وتتضمن المرحلة الأولى من مشروع الاتفاق المقدم “وقفًا فوريًا وكاملًا لإطلاق النار مع إطلاق سراح الرهائن، بمن فيهم النساء والمسنون والجرحى، وإعادة رفات بعض الرهائن الذين قتلوا، وتبادل الأسرى الفلسطينيين، وانسحاب القوات الإسرائيلية من المناطق المأهولة بالسكان في غزة، وعودة المدنيين الفلسطينيين إلى منازلهم وأحيائهم في جميع مناطق غزة، بما في ذلك الشمال”، هذا بجانب “التوزيع الآمن والفعال للمساعدات الإنسانية على نطاق واسع في جميع أنحاء قطاع غزة لجميع المدنيين الفلسطينيين الذين يحتاجون إليها، بما في ذلك وحدات سكنية يقدمها المجتمع الدولي”.
وفيما يتعلق بالمرحة الثانية فتضمنت “وقفًا دائمًا للأعمال العدائية، مقابل إطلاق سراح جميع الرهائن الآخرين الذين ما زالوا في غزة، والانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية من غزة”، بينما نص القرار في مرحلته الثالثة على “بدء خطة إعادة إعمار كبرى في غزة لعدة سنوات وإعادة رفات أي رهائن متوفين، ما زال في غزة، إلى عائلاتهم”، مع التأكيد على “أنه في حال استمرت المفاوضات للمرحلة الأولى لأكثر من ستة أسابيع فإن وقف إطلاق النار سيستمر طالما استمرت المفاوضات”.
القرار نص كذلك على رفض مجلس الأمن “أي محاولة للتغيير الديموغرافي أو الجغرافي في قطاع غزة، بما في ذلك الإجراءات التي تقلل من مساحة غزة”، والتأكيد على التزام المجلس “برؤية حل الدولتين، حيث تعيش دولتان ديمقراطيتان، إسرائيل وفلسطين، جنبًا إلى جنب في سلام داخل حدود آمنة ومعترف بها، بما يتفق مع القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، ويشدد في هذا الصدد على أهمية توحيد قطاع غزة مع الضفة الغربية تحت قيادة السلطة الفلسطينية”.
ما الاختلاف عن القرار السابق؟
رغم الغموض الذي يكتنف هذا المشروع، فإنه يتضمن بعض التغيرات عن قرار المجلس في مارس/آذار الماضي أبرزها:
– تضمين مسألة الانسحاب الكامل لقوات الاحتلال من كل مناطق قطاع غزة وهو المطلب الذي شددت حماس على التمسك به ولم يتطرق إليه القرار السابق.
– السماح بعودة النازحين إلى بيوتهم في كل المناطق، بما فيها الشمال، وهو البند الذي طالما اعترضت حكومة الاحتلال بشأنه، في ظل مساعي تدشين تموضع جديد في المناطق الشمالية للحيلولة دون تشكيل أي تهديد للأمن الإسرائيلي مستقبلًا.
– موافقة الصين على القرار، كذلك الموافقة الضمنية الروسية – بعدم استخدام الفيتو والاكتفاء بالامتناع عن التصويت – وإن كانت هناك بعض التحفظات بشأنه تتعلق بعدم وضوح الرؤية بشأن الموافقة الرسمية من إسرائيل على القرار، بخلاف ما هو مكتوب، إضافة إلى تصريحات حكومة الاحتلال المتكررة حول إطالة أمد الحرب حتى القضاء على حماس بشكل كامل، كما جاء في كلمة المندوب الروسي بمجلس الأمن فاسيلي نيبينزيا.
– القرار يلبي كثيرًا من شروط المقاومة، ويتناغم بشكل كبير مع المقترح الذي قدمه الوسيط المصري والقطري بداية الشهر الجاري ووافقت عليه حماس واعترضت عليه دولة الاحتلال، فيما يبقى الغموض الذي يخيم على بعض بنوده مسألة جدلية تحتاج إلى نقاشات حاسمة وحازمة، لكنه في المجمل أفضل ما قدم حتى الآن.
المقاومة..ترحيب دبلوماسي
تتعامل حماس مع جهود التهدئة في مجملها بحنكة دبلوماسية فريدة، إذ لم تغلق الباب نهائيًا أمام أي محاولة لوقف إطلاق النار، حتى لو لديها تحفظات أو اعتراضات بشأنها، في رسالة سياسية مباشرة تشدد من خلالها على رغبتها التامة في إنهاء الحرب ووقف القتال، رغم صمودها وثباتها ميدانيًا وتكبيدها للاحتلال الخسائر تلو الأخرى صباح مساء.
ورحبت المقاومة حين عرض الوسطاء المقترح السابق بداية الشهر الماضي، ورحبت كذلك بإعلان بايدن خطته نهاية الشهر ذاته، وها هي ترحب مجددًا بقرار مجلس الأمن الأخير، معربة عن استعدادها للتعاون مع الوسطاء للدخول في مفاوضات غير مباشرة بشأن تطبيق هذه المبادئ التي قالت إنها تتماشى مع مطالب الشعب الفلسطيني ومقاومته، مؤكدة في بيان لها على “استمرار سعيها ونضالها مع كل أبناء الشعب لإنجاز حقوقه الوطنية، وفي مقدمتها دحر الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس، وحق العودة وتقرير المصير”.
حركة الجهاد الإسلامي كانت هي الأخرى على خط الترحيب بالقرار رغم تأخره لأكثر من 8 أشهر من جرائم الإبادة ضد الفلسطينيين بمشاركة أمريكية، مؤكدة في بيان على إيجابية نظرتها إلى ما تضمنه القرار “لا سيما فتح الباب أمام الوصول إلى وقف شامل للعدوان وانسحاب كامل للعدو من قطاع غزة”، معتبرة أن “صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته هي التي تجبر العدو على الرضوخ لمطالب الشعب”.
وتحاول حماس إثبات حسن نواياها في التعاطي مع تلك الجهود – أيًا كان مصدرها ورغم التحفظ على الكثير من البنود المقدمة – في محاولة لتجنب استعداء القوى الدولية لا سيما الولايات المتحدة، هذا في الوقت الذي تحيا فيه حكومة الاحتلال حالة من الارتباك والفوضى والانقسام إزاء هذا المقترح الأمريكي، رغم محاولات إدارة بايدن إيهام العالم بموافقة الكيان المحتل على الخطة في محاولة لإلقاء الكرة في ملعب المقاومة التي تدير هذا الملف بدبلوماسية من طراز فريد.
هل يسفر عن جديد؟
تجدر الإشارة بداية إلى أن قرارات مجلس الأمن من حيث الشكل غير مُلزمة، إذ لا توجد قوى خاصة أو أوراق ضغط بحوزة المجلس تمكنه من تنفيذ ما يتخذه من قرارات، وكم من عشرات القرارات الصادرة عن تلك المنظمة الأممية لم تُنفذ رغم اتخاذها بالإجماع.
وتخضع عملية تنفيذ قرارات المجلس لرغبة الدول الكبرى الأعضاء في تطبيقها، فإذا ما توافرت النية والإرادة يكون التنفيذ بشكل أو بآخر، وبحسب ما لدى كل دولة من أوراق ضغط يمكن استخدامها ضد الدول الصادر بحقها تلك القرارات، وعليه فإن العملية تخضع لحسابات ومقاربات السياسية وليست مُلزمة.
وسبق أن صدر بحق الكيان المحتل قرارات من مجلس الأمن ومن غيره، آخرها قرار مارس/آذار الماضي، وقرارات محكمة العدل الدولية، ومع ذلك لم تُنفذ، ولم تؤثر على سياسة الدولة المحتلة، ولم تثنها حتى عن انتهاكاتها وإجرامها الذي لم يتوقف، في ظل التزام الحليف الأمريكي بالقيام بدور الحاضنة السياسية ضد أي استهدافات دولية.
ورغم تواضع سقف الطموحات في تنفيذ حكومة الاحتلال لهذا القرار، لكن تبني الولايات المتحدة له، تزامنًا مع جولة وزير الخارجية أنتوني بلينكن للمنطقة حاليًا، واقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقرر أن تُجرى في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، ومحاولة توظيف هذا الملف لخدمة الديمقراطيين في الماراثون الانتخابي، كل تلك العوامل ربما تدفع إدارة بايدن لممارسة المزيد من الضغط على حكومة الحرب الإسرائيلية التي تعاني من انقسامات وارتباك شديد إثر انسحاب خُمسي أعضائها، فضلًا عن تصاعد الاحتقان الشعبي ضدها.
أخيرًا.. هل لمثل هذه القرارات من أهمية؟
القرارات من هذا النوع في حقيقتها قرارات سياسية أكثر منها عسكرية، بمعنى أن قيمتها تنطوي على ما يترتب عليها من تداعيات على المستوى السياسي وصورة الكيان المحتل على خريطة المجتمع الدولي.
وبضم هذا القرار إلى قرار مارس/آذار الماضي، ومعهما قرارات محكمة العدل الدولية والزخم الدولي الذي لاقته دعوى جنوب إفريقيا، ثم تحرك الجنائية الدولية لملاحقة قادة الاحتلال، والمزاج الشعبي الناقم على الاحتلال، والانتفاضات الشعبية التي زخرت بها شوارع أمريكا ومعظم بلدان أوروبا، ومن بعدها إعلان 4 دول أوروبية الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة، فإن مساحة العزلة الدولية لـ”إسرائيل” تتسع رويدًا رويدًا، حتى تحول الكيان من الدولة الديمقراطية الحضارية حسب السردية التي كانت تروجها الصهيونية العالمية، إلى دولة منبوذة وملاحقة دوليًا ومرفوضة شعبيًا.
وعلى الجانب المقابل، فإن كل تقليص للدعم الدولي للكيان المحتل يقابله اتساع رقعة الدعم للدولة الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني، فمن كان يصدق أن كبريات الجامعات الأمريكية والأوروبية ستتحول في يوم من الأيام إلى ساحات اعتصام لدعم القضية الفلسطينية، ومن كان يصدق أن أعلام فلسطين التي غابت لسنوات حتى عن الأجواء العربية، ستغطي سماء حلفاء “إسرائيل” في الغرب، هي نقاط تُجمع وجولات تُكسب في معركة التحرير طويلة الأمد.