منذ وصوله إلى قصر الإليزيه وتوليه منصب الرئاسة، ما فتئ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يشدد على ضرورة الارتقاء بالفرنكوفونية والنهوض باللغة الفرنسية بعد ما شهدته من تراجع في السنوات الأخيرة أمام لغات عالمية أخرى.
حرص ماكرون على النهوض بلغة بلاده وإحياء الفرنكوفونية ظهر جليًا في زيارته الأخيرة إلى تونس مؤخرًا، وسط الأسبوع الماضي، التي ركز فيها على الجانب الثقافي، مؤكدًا أن هذا البلد العربي سيكون خلال سنتين، قاعدة جديدة لتعليم اللغة الفرنسية.
حرص على إحياء الفرنكوفونية
عند وصوله إلى نقطة “الفرنكوفونية” التي كانت نقطة محورية في خطابه أمام النواب التونسيين تحت قبة برلمان باردو، الخميس الماضي، بدا الرئيس الفرنسي الشاب متحمسًا طامحًا لنصر جديد، حيث يعتبر مستقبل الفرنكوفونية إحدى أولويات السياسة الفرنسية الجديدة.
في هذا الخطاب قال ماكرون: “الفرنكوفونية ليست مشروعًا فرنسيًا، فتونس من البلدان التي حملت الفرنكوفونية، فهي ملك لهذا البلد”، وتابع قائلاً: “الفرنكوفونية ليست مشروعًا قديمًا، بل مشروع مستقبلي، فتحدث اللغة الفرنسية يعد فرصة حقيقية، على المستويات اللغوية والاقتصادية والثقافية”.
ماكرون: “من المهم أن تبقى اللغتان متصلتين، لهذا أشجع على تطوير الفرنكوفونية وأن يكون لأبناء تونس مصدرًا للثروة”
وأضاف ماكرون “أتمنى أن تحيا الفرنكوفونية في بلادكم”، مشيرًا إلى أن الفرنكوفونية ستساعد التونسيين والتونسيات على النجاح في عدة مجالات وفي دول مختلفة، وقال أيضًا “أرغب في إعطاء دفعة للفرنكوفونية في تونس”، محددًا هدف “مضاعفة عدد متعلمي الفرنسية خلال سنتين” أي حتى انعقاد قمة الفرنكفونية بتونس في 2020.
وخلال المؤتمر الصحفي المشترك مع نظيره التونسي الباجى قايد السبسي، قال الرئيس الفرنسي: “ألاحظ أن الشباب في تونس ينتشر وسط عالمين لغويين، العربية والفرنسية وهذا مصدر ثراء في المتوسط”، وتابع “من المهم أن تبقى اللغتان متصلتين، لهذا أشجع على تطوير الفرنكوفونية وأن يكون لأبناء تونس مصدرًا للثروة”.
مدارس فرنسية جديدة في تونس
تأكيدًا لمساعيه إحياء الفرنكوفونية في تونس، افتتح ماكرون في اليوم الثاني من زيارته إلى تونس مقر “الأليانس الفرنسية” (منظمة ثقافية دولية فرنسية تعنى بتعليم اللغة الفرنسية) في مدينة أريانة قرب العاصمة تونس على أن تُفتح خمسة مراكز أخرى خاصة من هذا النوع تعنى بنشر الثقافة واللغة الفرنسيتين في 2018 لا سيما في قابس بالجنوب وفي القيروان في الوسط.
المعهد الفرنسي بتونس
في هذا السياق، سبق لوزير أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسي، أن أطلق مبادرة قبل أسبوع تتعلق بوضع استشارة عن مستقبل الفرنكوفونية، باعتبارها إحدى أولويات السياسة الفرنسية في عهدة الرئيس إيمانويل ماكرون، ويدرس ستة آلاف طالب في المدارس الفرنسية العشر في تونس، وتعتبر اللغة الفرنسية اللغة الثانية المعتمدة في تونس.
ماذا تعني الفرنكوفونية؟
تعتبر الفرنكوفونية التي تحدث عنها الرئيس الفرنسي بإطناب خلال زيارته لتونس، مجالاً من أكبر المجالات اللغوية العالمية، وقد ظهر هذا المصطلح لأول مرة في القرن التاسع عشر، وفي سنة 1970 تأسست رابطة تضم الدول والشعوب التي تتحدث الفرنسية كلغة رسمية أو حتى لغة إضافية، حملت اسم “الفرنكوفونية الدولية” وفي سنة 2005 تغير اسمها إلى المنظمة الدولية للفرنكوفونية، ومقرها باريس، تضم 84 دولة وحكومة (58 عضوًا و26 مراقبًا).
انتقل عدد الفرنكفونيين في العالم من 220 مليون شخص سنة 2010 إلى 274 مليون خلال سنة 2014 منهم 96.2 مليون في القارة الإفريقية
ويعتبر الجغرافي الفرنسي أونسيم روكولو أول من أطلق كلمة الفرنكوفونية عام 1880، وفي سنة 1926أسس مجموعة من المثقفين جمعية لكتاب اللغة الفرنسية، وفي عام 1950 تم إنشاء الاتحاد الدولي للصحافة باللغة الفرنسية.
وتهدف هذه المنظمة التي تعتمد على تقاسم نفس اللغة والاشتراك في القيم الإنسانية التي تنقلها اللغة الفرنسية، إلى الترويج للغة الفرنسية والثقافة الفرنسية، وكشف تقرير للمنظمة عن وضعية اللغة الفرنسية خلال سنة 2014، أن عدد الأشخاص الناطقين باللغة الفرنسية قد ارتفع بنسبة 7% خلال 4 سنوات، خصوصًا في دول إفريقيا جنوب الصحراء وشمال إفريقيا، حيث ارتفع عدد الأشخاص الذين يتحدثون اللغة الفرنسية بنسبة 15%، لينتقل بذلك عدد الفرنكفونيين في العالم من 220 مليون شخص سنة 2010 إلى 274 مليون خلال سنة 2014 منهم 96.2 مليون في القارة الإفريقية.
استغلال اللغة الفرنسية سياسيًا
تركيز ماكرون على إعادة إحياء الفرنكوفونية في تونس، يؤكد حسب عديد من الخبراء، تواصل استغلال فرنسا للغة سياسيًا وليس فقط ثقافيًا، فرغم انتهاء حقبة الإمبراطورية الاستعمارية، تظل أداة سياسية، فمنذ بداية الجمهورية الفرنسية الخامسة 1958، تم تأسيس 17 جهة حكومية (وزارات/هيئات) لتولي مسؤولية الفرنكوفونية.
من بين هذه الجهات الـ17، خمس عشرة تتبع أو كانت تتبع جهات رسمية وهي وزارة الخارجية، مما يعني أن انتشار اللغة الفرنسية يلتقي مع حماية مصالح فرنسا في الخارج، ويتم تصوير الفرنكوفونية كمرادفة للتنوع والتعددية، إلا أنها أداة للهيمنة.
مثلت اللغة الفرنسية إحدى أدوات الغزو الفرنسي لإفريقيا
يرى ناقدون للفرنكوفونية أن اللغة الفرنسية التي يتم تقديمها سابقًا على أنها “مفتاح باب الحضارة”، كانت في الحقيقة “مفتاح باب الاستعمار”، ولغة “القيم الاستعمارية والعنصرية” التي يتم تدريسها لأهالي المستعمرات في إفريقيا.
وفي روايتها الفرنسية “غناء الزنبقق والريحان” تشرح الكاتبة الجزائرية لطيفة بن منصور هذه المحاولة لاستعمار الروح التي كانت اللغة الفرنسية محركها الأساسي: “فالقائمون على مدارس الاستعمار كانوا يريدون إخضاع النفوس، غسلها، تعقيمها لإنتاج فرنسيين صغار على دراية بمعارك فرنسا في بواتييه، آليزيا وووترلو، على دراية كاملة بأسماء الشعراء والكتاب الذين يبرزون مجد وواجهة فرنسا – الوطن الأم – أكثر مما يفعله الجنرالات”.
أمام هذه المحاولات المتكررة من فرنسا لإعادة إحياء الفرنكوفونية، يرى تونسيون أن هذه المنظمة لم تعد تتوفر على مقومات البقاء والاستمرارية، وعوامل هدمها وتجاوزها أصبحت حاضرة بقوة، مثل الانتشار الواسع للإنجليزية كونها لغة العلم والتواصل، في مقابل التراجع المستمر للدور الفرنسي على الساحة الدولية.