السوافير الشرقية: حكاية من ريف غزة قبل النكبة

السوافير الشرقية أو “الشرقي” بعامية أهلها والقرى المحيطة، قرية من بين 3 قرى حملت اسم “السوافير” في السهل الساحلي الجنوبي، هي السوافير الشرقية والغربية والشمالية التي ظلت تجاور بعضها حتى عام النكبة مسافة لم تكن تزيد عن الكيلومتر بين القرية والأخرى.

إلا أن السوافير الشرقية اُعتبرت القرية الأم الأقدم من بين القرى الثلاث، إذ تفرعت السوافير الغربية والشمالية عن الشرقية، وحملت اسمها الشرقي لتمييزها عن القريَتين الأخريين، كما كانت الشرقية الأكبر من بينها لناحية مساحة أراضيها والتي قُدرت بنحو 13 ألفًا و831 دونمًا، وكذلك من حيث التعداد السكاني الذي وصل قبيل عام النكبة إلى نحو 1500 نسمة، بحسب إبراهيم سكيك صاحب موسوعة “غزة عبر التاريخ”.

وظلّت السوافير والمسميات قرى شبه مغيّبة من ذاكرتنا الفلسطينية، ولذلك اخترنا نبش ذاكرة تلك القرى وإعادة بعث حكايتها في جوانب مختلفة تزامنًا مع ذكرى احتلالها واقتلاعها في يونيو/ حزيران 1948، وننشرها تباعًا ضمن ملف بعنوان “ريف غزة”، وهي سلسلة عن قرى من ريف غزة المهجّر في النكبة عام 1948، هي السوافير: الشرقية والغربية الشمالية، والمسميات: المسمية الكبيرة والمسمية الصغيرة.

وقد اخترنا تناول سيرة السوافير الشرقية أولًا لأنها تمايزت عن باقي قرى ريف غزة وفلسطين عمومًا بتفرعها عن بعضها، فالسوافير الغربية تفرعت عن الشرقية وصارت قرية مستقلة بذاتها، وكذلك المسمية الصغيرة تفرعت عن الكبيرة واستقلت عنها، وهي ظاهرة عرفتها أرياف فلسطين قبل النكبة، غير أنها في ريف غزة كانت أوضح وأكثر من حيث عدد القرى التي تُنسب إلى بعضها.

في الموقع

إلى الشمال الشرقي عن مدينة غزة كانت تقع قرية السوافير الشرقي على بُعد 40 كيلومترًا، جنوبي الطريق العام المؤدي إلى المجدل وغزة، إذ كانت القرية في موقعها تتبع لقضاء مجدل عسقلان بحكم قربها الجغرافي منها، وللواء غزة في الوقت نفسه.

أحاطت بالسوافير الشرقية عدة قرى، منها قرية الجلدية من الناحية الشرقية، ومن الجنوب الشرقي قرية جَسّير، فيما من غرب السوافير الشرقي كانت السوافير الغربية ثم قرية عِبدس، بينما السوافير الشمالية من شمالها، وكانت هذه القرى تحيط السوافير الشرقية على شكل زنار يلفّ خواصر القرية من جهاتها الأربع، على مسافة لم تكن تزيد أبعدها عن أكثر من كيلومتر.

موقع السوافير على خريطة فلسطين. المصدر فريد خليل العمصي.

كانت السوافير الشرقي سهلية الطبوغرافيا، وأراضيها سهلية ممتدة مثل راحة الكفّ كما كان يقول أهلها عنها. أما الوديان فيها فكانت قليلة نظرًا إلى موقعها السهلي باستثناء وادٍ وحيد المعروف لدى السوافرة بـ”واد قريقع”، والذي كان يمرّ من جنوب القرية باتجاه غربها حاملًا ماء الشتاء إلى البحر المتوسط غربًا.

جسر السوافير. الذاكرة الفلسطينية.

لم تكن هناك مستعمرات صهيونية تُحيط بالسوافير الشرقية، غير تلك التي كان يسمّيها أهالي القرية والقرى المجاورة عمومًا باسم مستعمرة تعبيا أو “بيار توفيا”، والتي كانت تقع في الشمال الشرقي، وتفصل السوافير الشرقي عن الشمالي، ومعظم مستوطنيها من اليهود الألمان الذين هبطوا السوافير وأقاموا مستعمرتهم منذ مراحل مبكرة في مطلع القرن العشرين، تحديدًا سنة 1887.

التسمية والمقام

أطلق على القرية اسم “السوافير” الذي تطور، بحسب صاحب موسوعة “غزة عبر التاريخ” إبراهيم سكيك، عن اسم القرية الكنعانية “شافير” التي أُقيمت ودُرست قديمًا في الموقع نفسه.

وورد اسم شافير في العهد القديم “التوراة” وكان يعني اسمها “السوق”، وقد ذكرها الرومان باسمها ذاته شافير، بينما أطلق عليها الصليبيون اسم “زيوفير” وكانت مُلكًا لأسقف القدس، بينما العثمانيون سمّوها “سوافير الخليل”. وترتفع السوافير الشرقية نحو 50 مترًا عن سطح البحر.

بعض الروايات الشفوية لدى أهالي قرى السوافير الثلاث تؤكد قيام قراهم على مواقع فيها مقابر مسيحية قديمة

كانت السوافير الشرقية الأقرب من بين قرى السوافير الثلاث إلى موقع شافير القديمة، إذ أحاطت بالقرية مواقع كُفرية (أثرية) تعود إلى غابر الزمن، ظلت آثارها تُثير مخيلة السوافرة حتى عام النكبة، منها خِربتان قديمتان: الأولى خِربة الصهاريج لأنها كانت تحوي صهاريج ماء ضخمة محفورة بالصخر، فضلًا عن أعمدة وحجارة مرصّع بعضها بالفسيفساء، ما كان يدل على الإرث القديم لتوطُّن قرية السوافير الشرقية.

أما الثانية كانت خِربة “قرقفة” أو “قرقوفة” بتعبير أهالي السوافير الواقعة في جنوب القرية، وإليها يُنسب مقام الشيخ القرقوفي المقام فيها، وقد اعتبره السوافرة الشرقيون وليًّا من الأولياء الصالحين.

أشار الشيخ عثمان الطبّاع في كتابه “إتحاف الأعزة في تاريخ غزة” إلى مقام الشيخ القرقوفي في السوافير الشرقية على أنه “ولي الله الشيخ “محمد الباز” أو “درج الباز” ابن السيد محمد السفاري دفين السوافير، فصلت منها خربة قرقفة، ولاقتطاعها منها وصغرها سُمّيت قرقفة”.

كان التعليم فيها حتى الصفّ الرابع التمهيدي، ووصل عدد تلاميذها من أبناء قرى السوافير الثلاث إلى نحو 280 تلميذًا قبيل النكبة، يعلّمهم 6 معلمين

ويضيف: “والقرقف طيور صغار، ويُحكى عن بعض العرب أبيض قرقوف بلا شعر ولا صوف وفي البلاد يطوف”. يؤكد ما جاء عند الشيخ الطبّاع قِدم البشر والأثر في السوافير الشرقية، قبل أن تغدو خرابًا بعد قيام السوافير الحديثة.

ويذكر المعمِّر السيد رمضان البحيصي ابن السوافير الشرقية في مقابلة معه عن قريته، أن أهالي قريته قدّسوا مقام الشيخ القرقوفي إلى حد التبرُّك به والتشفّع عنده.

ممّا يلفت قوله إن السوافرة كانوا يضيئون الشموع عند مقامه في الأعياد والمناسبات الدينية والاجتماعية، بينما من عادة أهالي القرى في ريف غزة وفلسطين عمومًا إضاءة المقامات بسُرُج الزيت لا بالشموع، لأن إضاءة هذه الأخيرة كانت وما زالت تقليدًا مسيحيًا في فلسطين، إلا أنه قد يكون ذلك التقليد متوارثًا عن الإرث المسيحي القديم في بعض مناطق ريف غزة، خصوصًا أن بعض الروايات الشفوية لدى أهالي قرى السوافير الثلاث تؤكد قيام قراهم على مواقع فيها مقابر مسيحية قديمة.

التشكيل والمُشترَك

تشكّلت السوافير من عدة حمائل وعوائل، وأصول معظمها حجازية ارتحلت إلى فلسطين من الجزيرة العربية بحسب المصادر ورواية أبناء السوافير الشفوية، كان أكبرها قاطبة حمولة البحيصي، ثم العمصي وحمدان وبدوان وعثمان جودة، وعائلات أخرى أقل تعدادًا لكنها كبيرة في قدرها بالنسبة إلى أهالي السوافير، مثل نشبت وأبو ذياب وعسفا وأبو السبح وأبو خريبة وأبو عبده وغيرها.

توزعت حمائل وعوائل السوافير الشرقي على 4 حارات، فحمولة البحيصي كانت تسكن الحارة الشمالية، بينما الحارة الغربية سكنتها عائلة حمدان وكانت الحارة تُعرف باسم العائلة حارة حمدان. أما الحارة القبلية (الجنوبية) قطنتها عائلة عثمان جودي، فيما من الناحية الجنوبية الغربية كانت تُقيم عائلة العمصي قرب بئر القرية القديمة الأثرية، وفيها كان يقع أيضًا جامع السوافير الشرقي الوحيد في القرية.

عام 1922 أُقيمت أول مدرسة في السوافير، وكانت مشتركة بين عموم قراها، توسّط موقعها القرى الثلاث، فكانت في الناحية الجنوبية من السوافير الشرقي. كان التعليم فيها حتى الصفّ الرابع التمهيدي، ووصل عدد تلاميذها من أبناء قرى السوافير الثلاث إلى نحو 280 تلميذًا قبيل النكبة، يعلّمهم 6 معلمين، ثلاثة منهم كانوا يتقاضوا أجرهم من أهالي قرى السوافير الثلاث.

بعض أبناء السوافير الشرقي الذين أنهوا المرحلة التمهيدية في مدرسة السوافير أكملوا تعليمهم المدرسي، إما في قرية الفالوجة التي كانت تبعد مسافة 8 كيلومترات جنوب السوافير، وإما في بلدة المجدل “مجدل عسقلان”.

كما تشارك أهالي قرى السوافير الثلاث في مطحنة للقمح واحدة (بابور طحين)، كان موقعها في بيارة أبو رمضان في السوافير الشرقي، وعُرفت ببابور أبو رمضان نسبةً إلى مالك البيارة والمطحنة من سكان غزة المدينة.

المدرسة ومطحنة القمح هما ما تشاركت قرى السوافير الثلاث بهما، فيما لكل قرية منها كان مسجدها الخاص فيها، ومسجد السوافير الشرقي أُقيم في الحارة القبلية (الجنوبية). وكذلك مقبرة خاصة بالسوافير الشرقي، والتي كان يواري أهالي القرية موتاهم فيها في الناحية الغربية الجنوبية من القرية.

في المعاش

“بقعة من جنة الله على الأرض” يقول المعمِّر الحاج رمضان البحيصي عن قريته السوافير الشرقي، التي كانت تفترش سهلها بتربته الحمراء مثل “الحنّاء”، كما ظلَّ يشبّه أهالي القرية إلى ما بعد النكبة، مستذكرين أراضيهم التي كانت تغلُّ القمح والحمضيات، أكثر وأشهر ما تعوّد السوافرة الشرقيون بذره وغرسه في تراب أراضيهم الخصبة في السوافير.

كان قمح “الدبّية” بحسب التسمية الشعبية له، هو الأكثر جودة وشهرة، والذي داوم فلّاحو السوافير الشرقية على بذره لينمو سنابل إلى حدّ يمكن لأصحابه التواري فيه، يقول الحاج البحيصي متذكرًا قمح قريته قبل حصاده وغمره ثم نقله إلى بيادر السوافير الشرقي.

كذلك اُعتبرت القرية الأكثر تملّكًا للبيارات وغرس أشجار الحمضيات على اختلاف أنواعها من بين قرى السوافير الثلاث، لا بل على مستوى كل القرى المجاورة لها، إذ أحاطت بالسوافير الشرقي ما لا يقلّ عن 14 بيارة، بعضها تجاوزت مساحتها الـ 100 دونم، مثل بيارة الشوا وبيارة أبو رمضان. مع العلم أن جزءًا من هذه البيارات كانت من أراضي السوافير الشرقي، غير أن ملكيتها كانت تعود إلى كبار الملّاك من سكان مدينة غزة.

مُسحت القرية عن بكرة أبيها، وعلى أنقاض بيوتها وأراضيها أقام الصهاينة بعد النكبة مستعمرة عين تسوريم عام 1949، وزراحيا عام 1950

زرع أهالي السوافير الشرقي الخضار والمقاثي وكل ما كانت تتطلبه مؤنة البيت، ومن أشهرها الخيار الألماني، ولم يتردد رجال ونساء السوافير الشرقي في حمل محاصيلهم ومنتوجاتهم إلى غزة جنوبًا ويافا شمالًا من أجل بيعها في أسواقها، غير أن سوق الفالوجة الأسبوعي كان أكثر ما عوّل عليه أهالي السوافير لتسويق منتوج خضارهم فيه، حيث كان يُقام السوق في كل يوم خميس.

ومنا هنا المثل المشهور في السوافير الشرقي “بجيبك خميس”، يُقال لكل من كان يتخلف في بيته أو أرضه عن عيون أهالي القرية، فكان سوق الخميس كفيلًا بأن يجمعه بالآخرين، لأن السوق كان جامعًا لأهالي القرى المحيطة بالفالوجة، ويعتبر مكان اجتماعهم وليس لتسويق محاصيلهم وأرزاقهم فقط.

الاحتلال والإحلال

احتلت عصابات من لواء غيفعاتي الصهيوني قرية السوافير الشرقي والسوافير الثلاث عمومًا، خلال عملية براك في ريف غزة. وعن تاريخ سقوط القرية، يذكر المؤرخ الإسرائيلي بني موريس أن السوافير سقطت بأيدي الصهاينة في يوم 18 مايو/ أيار 1948، بعد أيام من شنّ عملية براك في التاسع من الشهر نفسه.

غير أن رواية أخرى مصرية تفيد بأن السوافير اُحتلت يوم 25 يونيو/ حزيران 1948. ونحن نميل إلى الرواية المصرية، فبحسب رواية الحاج رمضان البحيصي الذي يتذكر يوم طرد أهل السوافير الشرقي من قريتهم، وكان عمره في حينه 12 عامًا، يروي كيف كان نزوحه مع أهله من القرية في نهاية شهر يونيو/ حزيران من عام النكبة، وذلك بعد أن نزح أهالي السوافير الثلاث على مراحل مختلفة في الشهر نفسه.

قصف الصهاينة بيوت السوافير الشرقي بطائراتهم، حتى أثناء خروجهم من القرية، فقُتل منهم الأطفال والنساء، شهداء عُجن لحمهم بدمائهم على أبواب بيوتهم في مشهدٍ ظلَّ الحاج البحيصي شاهدًا عليه وعلى يوم اقتلاعهم من السوافير، طوابير نازحة مغلوبة على أمرها إلى غزة جنوبًا.

لم يُبقِ الصهاينة من السوافير الشرقي ما يدل عليها من معالم وعوالم كانت تدبّ فيها الحياة قبل أن تدنسها أقدام وأيدي الغزاة، فقد مُسحت القرية عن بكرة أبيها، وعلى أنقاض بيوتها وأراضيها أقام الصهاينة بعد النكبة مستعمرة عين تسوريم عام 1949، وزراحيا عام 1950، ولاحقًا في عام 1954 أقام الصهاينة في الناحية الشرقية من أراضي القرية مستعمرة نير بنيم.