ترجمة وتحرير: نون بوست
إن كلا من “الصحراء، والعصور القديمة، والشعاب المرجانية” موجودة في محمية “وادي الجمال” الطبيعة الواقعة في جنوب شرق مصر، إلا أن مشاكل هذه المنطقة لا تزال بمنأى عن اهتمام المسؤولين المصريين.
ها هو محمود يسير فوق بقايا الجدار المكون من عدة طبقات صخرية، قاصدا شرفة إحدى المباني الصغيرة الواقعة هناك. كان ذلك البدوي الذي ينتمي لقبيلة العبابدة يسير منحنيا بمهارة شديدة لدرجة أنه لم يسمح لجلبابه الأزرق بأن يلامس أية صخرة من تلك الصخور. أخذ محمود لحظات لكي يتحسس الحصى ذي الحواف المدببة، وفي تلك اللحظات لفت انتباه الزائر تلك الأنقاض التي احتوت على مناظر خلابة تأسر الفؤاد من اللحظة الأولى في وادي “أم كابو”.
في الواقع، يعتبر وادي أم كابو أحد الأودية التابعة لوادي الجمال، ويتشكل من مجموعة من الصخور الصلبة المطوية المنتشرة في جنوب شرق الصحراء الشرقية، التي تقع بين نهر النيل والبحر الأحمر. ويعتبر هذا الوادي من المحميات الطبيعية في مصر، ويقع على مساحة 6770 كيلومترا مربعا. وقد أطلقت عليه قبيلة العبابدة، التي تستوطن هذا المكان، اسم وادي الجمال لأنهم يجدون دائما الحيوانات التي فقدوها في هذا الوادي.
بالإضافة إلى ذلك، يزخر وادي الجمال بمجموعة متنوعة من النباتات، على غرار التمر الصحراوي وأشجار الأراك التي يستخدمها البدو من أجل تنظيف أسنانهم، فضلا عن نبات السنطاوية. وفي هذا الوادي، تتباعد الأشجار عن بعضها بصورة خلابة قبيل المنحدر الصخري الموجود هناك. كما تظهر أوراق تلك الأشجار في صورة متساوية ومسطحة من أعلاها إلى أسفلها، حيث يستطيع الجمل أن يمد رأسه ليصل إلى قمتها.
على عكس وادي الجمال، يعتبر وادي أم كابو قاحلا بصورة ملحوظة، ولا يوجد به إلا مجموعة من الأعشاب الصفراء التي تنمو في قاع الوادي. وعند سؤال محمد جاد “لماذا قام أحدهم ببناء منازل في هذه المنطقة؟” أجاب بكل بثقة وكأن الإجابة بديهية “إنهم الرومان”.
البلورات الخضراء الصغيرة، الزمرد في شكله الطبيعي العمودي سداسي الأضلاع
إن محمد جاد رجل في منتصف الستينات، يرتدي جلبابا ناصع البياض على الرغم من أنه ليس بدويا، وإنما كان والده يعمل صيادا في مدينة القصير. ويُذكر أن محمد درس علم الأحياء وتخصص في النباتات. وفي البداية، عمل محمد حارسا للمحمية، قبل أن يتقاعد منذ سنة بعد أن شغل منصب مدير محمية وادي الجمال.
في الحقيقة، لم يتول محمد حماية النباتات والحيوانات في المحمية فحسب، بل كان يشرف أيضا على بعض المواقع الأثرية العجيبة، من بينها “الورشة الرومانية”. وفي هذا الصدد، قال جاد إن “الرومان قاموا باستخراج الزمرد من هذه الصخور”. وخلال الحديث، همّ محمود بالوقوف وبسط يده مبتسماً، ثم واصل “هنا تقع البلورات الخضراء الصغيرة”. في الأثناء، كان جاد يمسك بقطعة من الزمرد التي اتخذت شكل عمود صغير سداسي الأضلاع. وبالطبع، كانت باهتة اللون ولا تتمتع بنفس جودة الأحجار المرصعة، لأن هذه القطعة كانت في أنقى صور الزمرد.
قديما، أطلق على سلسلة جبال الزمرد “Smaragdos oros“، وباللاتينية “Mons Smaragdus“، إلا أن بداية استخراج الأحجار الكريمة من هذه الجبال بدأت لاحقا في عهد البطالمة، وخاصة في عهد آخر ملكاتهم كليوبترا، واستمرت هذه العملية حتى العصر البيزنطي. وعلى بعد اثني كيلومتر في أقصى جنوب شرق وادي أم كابو، تستخرج صخور البيغماتيت التي تحتوي على الزمرد من المناجم لتتم معالجتها فيما بعد.
بحلول المساء، اصطحب محمود ومحمد جاد زائرهم إلى منتصف وادي ﺳﻳﻛﺎﻳت ليلقوا نظرة على هذه المناجم. وفي نهاية هذا الوادي، يوجد منحدر شديد يتكون من صخور ميكا-شست الرقيقة والمثقوبة لتتخذ شكلا يشبه الجبن السويسري. يعود تاريخ إنشاء الممرات المؤدية لهذه المناجم إلى العصور القديمة، وهي عبارة عن ثقوب شديدة الانحدار ومظلمة، ولا تسع إلا شخصا نحيلا للغاية. فضلا عن ذلك، إن أغلب هذه الثقوب غير مستكشفة وتعتبر غير آمنة تماما، ولا يوجد عليها حراسة.
بعد بضعة كيلومترات من هذا الوادي، قابلنا مرافقنا البدوي أمام أحد معبدي وادي سيكايت المنحوتين في الصخور، ويطلق عليه اسم “معبد سنسكيس”. لا تضاهي مهارة الذين نحتوا هذه المعابد نظرائهم في الأردن الذي نحتوا حدائق البتراء. ومن الممكن أن نتصور عمال هذه المناجم وهم يمسكون الإزميل حتى بعد الانتهاء من عملهم تكريما لآلهتهم “إيزيس”. وتؤكد نقوش جدران أحد المعابد الصغيرة أن إيزيس كانت زوجة سنسكيس.
مدخل المعبد الكبير في وادي سيكايت، حيث رمم مجموعة من علماء الآثار بقايا الأعمدة الصخرية سنة 2006
داخل المعبد
هذا الوادي خاص بالجمال
يكون وادي سيكايت في أبهى صوره في المساء
قديما، كان سنسكيس المنجم الرئيسي في جبال الزمرد في عصر البطالمة والرومان. ومازالت بعض الأبنية القديمة قائمة حتى الآن منذ ذلك العصر، ولا تزال تحتفظ بجدرانها المرتفعة، لتشكل مدينة كاملة في وسط الصحراء. لا يخفى على أحد أن وادي سيكايت أصبح في الوقت الحالي مهجورا. ويرى رعاة الأغنام والخراف من البدو الذين يقطنون وادي الجمال، أن الوادي أصبح واديا قاحلا لا يصلح للرعي.
في بعض الأحيان، يأتي السياح إلى هذا المكان ليلا بسيارات الدفع الرباعي من أجل مشاهدة الضوء وهو ينعكس على هذه الصخور في منظر خلاب. ويستطيع السائحون قضاء ليلة كاملة برفقة قبيلة العبابدة حتى صباح اليوم التالي، حيث يستمتعون بالطهي على نار المخيم وتناول القهوة والخبز العربي المعدان على الرماد الساخن. في هذا السياق، أعدت إدارة المحمية أماكن مخصصة للمخيمات المرخص لها. وعلى أي حال، من غير المرجح أن يستطيع الزائرون الاستمتاع بمنظر السماء المليئة بالنجوم في وادي سيكايت الصغير.
بعد ذلك، اتجه محمد جاد بسيارته من طراز “تويوتا بيك أب” جنوبا ليقف في مكان واسع من الأطلال. كانت الجدران شبة مهدمة، ويوجد قرابة فدان من الأرض مغطى ببقايا الفخار. ويستطيع الناظر إليها تمييز مقابض وفتحات هذه القوارير الفخارية التي تعود للعصر الروماني، والتي تعادل الزجاجات البلاستيكية في عصرنا الحالي.
بعد رحيلهم، ترك زائرو وادي “أبولونيوس” اليوناني، أكبر موقع أثري في الصحراء الشرقية في مصر، مليئا بالقمامة. والجدير بالذكر أن هذا الموقع قد أشير إليه في اللوحة البويتينغرية، التي تعد بمثابة أطلس يعود إلى أواخر العصر الروماني. كما أشارت اللوحة إلى الشارع الذي ربط بين وادي النيل ومدينة برنيس، التي تقع في أقصى جنوب البلاد وتعود إلى عصر الإمبراطورية الرومانية. كانت برنيس بمثابة بوابة الرومان إلى المحيط الهندي. وكانوا يطلقون منها سفنهم المحملة بالمنتجات اليدوية، والنبيذ المتوسطي باتجاه الهند، حيث كانت هذه السفن تعود محملة بكنوز جنوب شرق آسيا، وخاصة الفلفل الذي لا غنى عنه في المطبخ الروماني.
شكل الصخور في وادي سيكايت
كاب مرفوعة، أحد المناجم التي تعود للعصر الروماني
على مر العصور، اعتُبرت مدينة برنيس من بين الأماكن الكثيرة على البحر الأحمر، التي تستطيع السفن أن ترسو فيها. وفي الوقت الحاضر، اختفت أغلب هذه الأماكن بسبب انتشار الشعاب المرجانية على امتداد شواطئ البحر الأحمر. وعموما، تشكل الشعاب المرجانية بمنظرها الرائع جزءا هاما من محمية وادي الجمال الطبيعية. وتعد هذه الشعاب المرجانية بالإضافة إلى الشمس الساطعة والصحراء الخلابة السبب الرئيسي في بناء بعض الفنادق في هذا المكان.
في هذا الإطار، نذكر فندق “جورجونيا بيتش” الذي تديره مجموعة من الإيطاليين. وتقوم إدارة هذا الفندق بتنظيم متحف للشعاب المرجانية لنزلاء الفندق، حتى يتمكنوا ملاحظة التباين الكبير بين الألواح الصخرية الموجودة تحت الماء وصخور الجرانيت التي تحويها الصحراء. كما تعتبر هذه المنطقة غنية بالأحجار الكريمة، التي لم يسمح لأحد باستخراجها حتى الآن. وكل ما يستطيع الزوار فعله هو استئجار معدات الغوص من الفندق والإبحار لمسافة 100 متر في الماء ثم الغطس.
في هذه الطبيعة البحرية المرجانية، يستطيع الغطاسون رؤية اللون اللازوردي لسمك الببغاء، والأحمر الكاشف لسمك الهامور، بالإضافة إلى اللون الفضي المصقول لأسراب سمك الإسقمري المعروف، فضلا عن وجود أنواع مختلفة من المرجان؛ على غرار المرجان الناري والمرجان الجلدي. ومن الممكن أن ترى صدفات البطلينوس الأزرق العملاقة، الذي تضيء حوافه باللون البنفسجي الواضح.
في هذا السياق، أفاد الباحث المختص في علم الأحياء البحرية لدى قسم المحميات الطبيعية بالبحر الأحمر التابع بوزارة البيئة المصرية، إسلام محمد الصادق، بأن “صدفات البطلينوس الأزرق تعد من المؤشرات البيولوجية على نشاط الشعاب المرجانية”.
دلافين بيضاء المنقار تتجول أمام الشعب المرجانية
طائر بلشون الصخر يعشش على طول السواحل
تعيش السحلية بالقرب من وادي الجمال.
في شأن ذي صلة، يعد متحف الشعب المرجانية بفندق “جورجونيا بيتش” من ين الأماكن التي يمكن من خلالها رصد نمو وتنوع الشعب المرجانية. ومن جهته، يدعم هذا الفندق الإيطالي الباحثين المختصين في علم الأحياء البحرية عن طريق تزويدهم بزجاجات معبأة بالهواء المضغوط.
في هذا الصدد، صرح الصادق أنه “على بعد خمسمائة متر جنوبا، يوجد المرجان البحري، حيث يمكن للغواصين أن يشاهدوا الأطوم، وهو نوع من بقر البحر. في هذا المكان، يوجد قرابة 75 بالمائة من الشعاب المرجانية الحية، في حين لا تتجاوز نسبة هذه الشعاب المرجانية في كل من الغردقة وشرم الشيخ 50 بالمائة، بينما لا تضم بقية المدن سوى 30 بالمائة من هذه الشعاب”.
إلى جانب ذلك، يعتبر فندق “جورجونيا بيتش” إحدى المؤسسات الفندقية بجنوب مدينة مرسى علم. ويمتد هذا الفندق على مساحة 30 هكتارا، علما وأنه يضم ثلاثة مطاعم و350 غرفة مزدوجة يسهر على نظافتها عدد كبير من الموظفين. وفي هذا السياق، أورد الصادق أن “الفندق يمكن أن يستقبل أكثر عدد من النزلاء المميزين في حال كان موجودا في شمال مصر”. في سياق متصل، تابع هذا الخبير المختص في علم الأحياء البحرية أن “السياح الوافدين على جنوب مصر لا يقصدون المنطقة للمشاركة في الحفلات التي تنظمها النزل، بل يريدون التمتع بالشمس وجمال الطبيعة”.
الرمال الصفراء تغمر المياه، وهو ما أضفى لونا زاهيا على البحر الأحمر
يبدو أن السياح يعزفون عن زيارة مصر نتيجة تأثرهم بالأخبار المتعلقة بالعمليات الإرهابية التي تستهدف السياح، على غرار هجوم الغردقة الذي جد في شهر تموز/ يوليو الماضي وأسفر عن مقتل سائحتين ألمانيتين. حيال هذا الشأن، صرح ممثل فندق “جورجونيا بيتش” المنحدر من جنوب تيرول، يوهانس جيراردي، أنه “خلال أحلك الأوقات، كانت نصف غرف الفندق محجوزة، أما في الوقت الراهن فالفندق مكتظ بالنزلاء”. خلال هذه الفترة، يعرف فندق “جورجونيا بيتش” حالة استنفار قصوى. فعند مدخل الفندق، فتش الحراس سيارة الحارس السابق لمحمية وادي الجمال الطبيعية، محمد جاد. ومن جهته، تصرف جاد بهدوء أمام الحراس.
من ناحية أخرى، لا تزود مولدات الديزل الفندق بالطاقة على النحو المطلوب، خاصة وأن الطاقة الشمسية تستخدم في هذا النزل بهدف توفير المياه الساخنة. وفي هذا الإطار، أفاد ممثل النزل جيراردي بأنه “لا يمكن استخدام الطاقة الشمسية في هذا النزل لأسباب فنية. في الأثناء، سنعمل على توفير تكنولوجيا تخزين طاقة فعالة نظرا لأننا في حاجة لاستعمال الطاقة الشمسية أثناء الليل”. من هذا المنطلق، يعمل كل من جاد وجيراردي على توضيح أبرز المناطق التي تميز محمية وادي الجمال. وتجدر الإشارة إلى أن الفندق ينظم بصفة دورية مسابقات تجميع النفايات البلاستيكية على الشاطئ.
سياح بصدد تقضية ليلة ممتعة في ضيافة البدو
في الواقع، تسيطر قبيلة العبابدة على محمية وادي الجمال الطبيعية، حيث يسهر أفراد هذه القبيلة على راحة الزائرين. في المقابل، يرفض أفراد هذه القبيلة العمل في نزل جورجونيا، علما وأن أغلب موظفي هذا النزل من الرجال المنحدرين من دلتا النيل بشمال البلاد. وفي بعض الأحيان، يقصد بدو قبيلة العبابدة هذا المنتجع لبيع منتجاتهم المصنوعة باليد للسياح. وفي هذا الخصوص، صرح جاد أن “أهالي القاهرة والقصير يعتقدون أن أفراد قبيلة العبابدة كسولون نظرا لأنهم قليلو النشاط، لكن الحقيقة مخالفة لذلك تماما خاصة وأن أفراد هذه القبيلة يتأقلمون مع هذا الوسط، الذي يتميز بشح موارده الطبيعية”.
كما يعتقد جاد أن أفراد قبيلة العبابدة ليسوا أغبياء. في هذا السياق، حدثنا جاد عن أحد أفراد هذه القبيلة، يدعى محمود، ولعل ما يميز هذا الرجل معرفته الجيدة بأماكن تواجد قطع الزمرد في وادي أم كابو. وخلال السنوات الأخيرة، اتصل فريق من السياح السعوديين بمحمود لاستفساره عن مكان تواجد الغزلان. ونظرا لأن الصيد في هذه المحمية ممنوع، بادر هذا البدوي باقتياد السياح السعوديين إلى مركز حراسة المحمية.
المصدر: فرانكفورتر ألغيماينه تسايتونغ