بدا واضحًا أن السياسة الخارجية الأمريكية منذ بداية عهد الرئيس الأمريكي الحاليّ دونالد ترامب تتسم بالتوتيرية للأزمات السياسية في منطقة الشرق الأوسط، بخلاف السياسة السابقة التي سارت عليها إدارة الرئيس السابق باراك أوباما التي ركزت على القوة الذكية في تحقيق مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، وعلى العوامل الناعمة في الحفاظ عليها عبر أدواتها الموجودة في المنطقة.
ويشكل التعامل مع القوة نقطة الخلاف بين الجمهوريين والديمقراطيين، في كيفية الحفاظ عليها وآليات تنميتها وطريقة استثمارها في القرار السياسي للحفاظ على مصالح الولايات المتحدة، فعملية صياغة السياسات لدى الإدارة الأمريكية كأي دولة تعتمد على مفهوم المصلحة الوطنية في تحديد وصياغة سياستها الخارجية.
وبما أن الحزب الجمهوري يستمد نظرياته السياسية في العلاقات الدولية من افتراضات المدرسة الواقعية، تكون الآليات الخشنة في الحفاظ على القوة العامل الأقوى والأبرز في وجه السياسة الخارجية خاصة في ظل نظام سياسي رئاسي يعطي الرئيس صلاحيات واسعة في صياغة السياسات الخارجية مع ربط المصلحة الوطنية المعرفة بالأمن القومي ذي البعد العسكري، مع وجود طاقم محيط بالرئيس ترامب يغلب عليه الوجه الصهيوني، إضافة إلى قناعات شخصية لدى ترامب أقرب للتوجهات اليمينية.
إدارة ترامب ستعمل خلال الفترة المقبلة على تفكيك التحالف أو التفاهم بين كل من تركيا وروسيا وإيران
كما أن السلوك السياسي للإدارة الأمريكية يقدم تصورًا عن مؤشرات الرؤية الأمريكية في التعامل مع الشرق الأوسط، ومن أبرز هذه الملامح خلال المرحلة المقبلة: التغذية على الخلافات الإقليمية وتفكيك التحالفات المنافسة ومحاصرة القوى الصاعدة في المنطقة وتصفية القضية الفلسطينية والاستثمار في التنظيمات الإرهابية ودعم مشروع التقسيم.
التغذية على الخلافات الإقليمية: تثبت التجارب أن السياسة الخارجية الأمريكية تتغذى على الخلافات الإقليمية سواء في الشرق الأوسط حيث تعدد الأزمات وكثرتها، أو في منطقة الشرق الأقصى حيث تتواصل تهديدات كوريا الشمالية للحلفاء المفترضين للولايات المتحدة، وفي الشرق الأوسط للأزمات الدائرة فيه سمات الحاجة للولايات المتحدة، وهو ما أعطاها فرصة الاعتراف بمدينة القدس عاصمة للاحتلال الاسرائيلي ونقل السفارة الأمريكية إليها.
فالفاعل في الأزمات يحتاج لواشنطن حتى يضمن فرص بقاء نظامه على قيد الحياة، والمفعول به هو أيضًا بحاجة للعناية الأمريكية في الحماية المفترضة، وسبب ذلك أن توازن القوى في المنطقة يميل إلى الولايات المتحدة وإن دخلت روسيا مؤخرًا، لكنها لم تصل بعد إلى مرحلة توازن القوى مع أمريكا في المنطقة، لاقتصار بناء قواعدها ووجودها في سوريا.
تعتبر تركيا من أقوى وأكثر الدول الصاعدة في المنطقة تأهيلاً في قيادة سياسة خارجية تجعل منها دولة مؤثرة في قضايا الإقليم، وهذا ما يزعج أمريكا لاختلافها مع بنية النظام التركي
تفكيك التحالفات أو التفاهمات القائمة
من الواضح أن إدارة ترامب ستعمل خلال الفترة المقبلة على تفكيك التحالف أو التفاهم بين كل من تركيا وروسيا وإيران، فيما يتعلق بحل الأزمة السورية الذي توصلت إليه الأطراف عبر اتفاق أستانة الذي أقر مناطق خفض التصعيد، وهدف واشنطن من ذلك إعادة ترتيب ميزان القوى بخصوص حجم القوة المهيمنة في سوريا، وأن يكون الحل هناك على طريقها ووفق نظرتها في توزيع القوة على أطراف الأزمة السورية، ولعل استهداف قاعدة حميميم الجوية الروسية في سوريا كانت ضمن مخطط لتفكيك التحالف الثلاثي: تركيا وروسيا وإيران.
محاصرة القوى الصاعدة
تعتبر تركيا من أقوى وأكثر الدول الصاعدة في المنطقة تأهيلاً في قيادة سياسة خارجية تجعل منها دولة مؤثرة في قضايا الإقليم، وهذا ما يزعج أمريكا لاختلافها مع بنية النظام التركي، وقد أثبتت تركيا من خلال عملية درع الفرات وعملية غصن الزيتون الحاليّة أنها دولة ذات سيادة وكرامة لا تساوم على قضايا أمنها القومي، مع تبني برنامج في السياسة الخارجية يتسم بالحيوية والنشاط، فضلاً عن استخدامها القوة الذكية التي تجمع بين القوة الخشنة والناعمة.
تواصل الولايات المتحدة الاستثمار في التنظيمات الإرهابية بما يخدم تصوراتها ومصالحها في المنطقة
فأمريكا لم تفتأ في مخططاتها بمحاصرة القوة التركية الصاعدة على مستوى الشرق الأوسط، فعملت على دعم المحاولة الانقلابية الفاشلة قبل عامين، ودعمت مشروع استفتاء انفصال إقليم كردستان العراق عن العراق، وكانت تركيا المستهدفة من وراء هذا المشروع لما يمثله هذا الكيان الناشئ من أخطار على الأمن القومي التركي، وما زالت المساعي الأمريكية في محاصرة تركيا متواصلة ولعل آخرها إعلانها نيتها بتأسيس ما يسمى بجيش الشمال من التنظيمات الإرهابية لضبط الحدود السورية التركية حسب زعمها، وأغلب تشكيلات هذا الجيش من تنظيم بي واي دي الإرهابي.
تصفية القضية الفلسطينية: يعتبر اعتراف ترامب بالقدس عاصمة للاحتلال الإسرائيلي ونقل السفارة الأمريكية إليها خطوة لم يجرؤ أي رئيس أمريكي سابق الإقدام عليها لما لها من تبعات كارثية على مستقبل المنطقة، ثم قيام الإدارة الأمريكية بتقليص الدعم لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا”، التي تعتبر شاهدًا قانونيًا على قضية اللاجئين الفلسطينيين وحقهم في العودة إلى ديارهم، وبهذه الحالة تكون الولايات المتحدة قد أخرجت ملف القدس من دائرة أي تسوية بشكل كامل، وبإلغاء الأونروا تكون قد اغتالت الشاهد القانوني، وبذلك يتم التخلص من أكثر ملفين حساسية في القضية الفلسطينية، وبالتالي تصفية القضية وترك اللاجئين لرحمة الدول المضيفة، وإغلاق ملف القدس بشكل كامل.
الاستثمار في التنظيمات الإرهابية ودعم مشروع التقسيم
تواصل الولايات المتحدة الاستثمار في التنظيمات الإرهابية بما يخدم تصوراتها ومصالحها في المنطقة، فتلك التنظيمات وفرت لواشنطن غطاءً لدعم مشاريعها في الشرق الأوسط، وتستخدمها بين الفترة والأخرى، وتنقل المليشيات الإرهابية من مكان لآخر حسب الوظيفة والمصلحة، بما يحقق هدفها في إعادة رسم الخريطة الجديدة للمنطقة وإحياء الصراع القومي والإثني بين سكان المنطقة حتى تستنزف أكثر ويلحق بها الدمار والخراب أكثر مما عليه الآن، والهدف من هذه السياسة تقسيم المقسم لأغراض تتعلق بتطلعات الجيوبولتيك الأمريكي لمنطقة الشرق الأوسط.