مثل “أدب السيرة الذاتية النسائية” محور لقاء أدبي نظم بشارع الحبيب بورقيبة بتونس العاصمة، في إطار تظاهرة “تونس مدينة الآداب والكتاب”، بالتنسيق مع رابطة الكاتبات التونسيات، لقاء جمع شهادات العديد من المبدعات التونسيات من بينهن الناقدة الدكتورة حنان طريطر والكاتبة حنان جنان والشاعرة مليكة العمراني “الشاعرة المفرطة في إنسانيتها” والكاتبة حياة الرايس.
تمحور اللقاء الأدبي الذي كان مشبعًا بالشهادات انطلاقًا من الإنتاج الأدبي بمختلف تمظهراته، فالكاتبة حنان جنان، مثلًا، اعتمدت في شهادتها على روايتها “كتارسيس” (2015)، بينما ركزت الشاعرة مليكة العمراني على كتاباتها كمدونة أدبية على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، تحت عنوان “شاعرة مفرطة في إنسانياتها” من خلال مشاركتها المرأة أدبيًا وثقافيًا منذ 1994، فيما اعتبرت الناقدة جليلة طريطر أن “السيرة الذاتية تعد شكلًا أدبيًا يتحدث فيه الكاتب عن نفسه وتجربته الشخصية في الحياة، فيكون مؤلفًا وراويًا وشخصية ينقل إلى القارئ تطورات وتحولات الشخصية ومن خلالها تجربة إنسانية اجتماعية أو سياسية، وهي كإنتاج نسائي شكل مستحدث في تونس على عكس السيرة الذاتية الرجالية الأقدم تاريخيًا”.
بين المشرق وتونس
أشارت الناقدة التونسية الدكتورة جليلة طريطر إلى ازدهار أدب السيرة الذاتية في المشرق العربي ومصر منذ عشرينيات القرن الماضي اعتبارًا لتجارب لطيفة الزيات وهدى الشعراوي وفدوى طوقان، وصولًا إلى نوال السعداوي، اللاتي نحتن شخصيات أدت دورًا فاعلًا في الحراك الاجتماعي والسياسي من خلال نضالهن.
وفي المقابل تأخر الأدب التونسي في تناول مثل هذا الجنس الأدبي إلى نهاية القرن الماضي بإنتاجات السيرة الذاتية النسائية باللغة الفرنسية، وازدهرت هذه الإنتاجات التي تناولت في التسعينيات حياة ومسيرة مبدعات تونسيات، منهن عليا ببو وجليلة حفصية وعليا برناز بكار.
وكانت الدكتورة جليلة طريطر، أكدت في دراسة لها تحت عنوان “كتابة الهوية الأنثوية في السيرة الذاتية العربية الحديثة” نشرتها في مجلة الحياة الثقافية سبتمبر 2008، أن “أول ما يحدد برنامج كتابة الهوية الأنثوية عند الكاتبات اللاتي نهتم بالإحالة على سيرهن الذاتية في هذا المبحث، وهن خاصة فدوى طوقان (1917-2003)، ولطيفة الزيات (1923-1996)، ونوال السعداوي (1931)، نوعية الموقع أو المقام التعبيري الذي تستقيم ابتداءً منه مبررات نشأة المشروع السيرذاتي الأنثوي باعتباره مشروعًا جديرًا بالكتابة، قادرًا على تأصيل أبعاد الهوية الأنثوية في سياقها التاريخي والثقافي العربيين”.
الكاتبة حنان جنان: كتابة السيرة الذاتية نوع، قد يكون جريئًا، من الكتابة، خاصة إذا كانت الكاتبة امرأة شرقية.
قريبة من ذاتي إلى حد الالتصاق
انطلقت الكاتبة حنان جنان من تجربتها الأولى في كتابة السيرة الذاتية من خلال روايتها “كتارسيس” التي تروي فيها نضالات طالبة جامعية، تشبه في شخصيتها الكاتبة وتسرد تجربتها إلى حدود 14 من يناير 2011، وهو تاريخ الثورة التونسية، مؤكدة “كانت قريبة جدًا من ذاتي لدرجة الالتصاق أحيانًا، خاصة في البداية”، لتشير قائلة: “حاولت بعد ذلك تغذية هذا الخط الذاتي بخطوط أخرى، ولا أدري إن فعلتُ ذلك بقصد التخفي وراء شخصية البطلة أو لأن تجربتي الشخصية في الحياة لم تكن بذلك الثراء الذي احتوته أحداث الرواية”.
واعتبرت المبدعة حنان جنان أن “كتابة السيرة الذاتية نوع، قد يكون جريئًا، من الكتابة، خاصة إذا كانت الكاتبة امرأة شرقية، بل قد يكون مغريًا للقارئ العربي بالذات الذي لا يستطيع أن يمنع نفسه أحيانًا من استراق السمع لمعرفة ما يجري وراء الأبواب المغلقة”.
وتتساءل جنان: “في النهاية، ما الفيصل لتحديد كتابة السيرة الذاتية؟ هل اعتراف الكاتب صراحة بأنه ينوي الإفصاح عن خبايا حياته؟ وهل على القارئ أن يُحيل الكاتبَ أو أثَرَه على جهاز كشف الكذب لتبين الحقيقة من الخيال؟”.
وتجيب عن تساؤلاتها من خلال روايتها “كتارسيس” غير جازمة: “أعتقد أن الكتابة بصدق تصل إلى القارئ سواء أكان الكاتب يتكلم عن نفسه أو عن غيره، وهذا ما حاولت فعله في “كتارسيس”، (الراوية التي اخترتُ أن تكون بلا اسم وتتكلم بضمير الأنا)، كانت حنان جنان الحقيقية أحيانًا، وحنان جنان التي كنتُ أتمنى أن أكونها أحيانًا أخرى، ولكن تداخلت فيها شخصيات أخرى واقعية أو خيالية، لنَقُل إن “كتارسيس” نوع من المخيال الذاتي”.
لم تقف الكاتبة عند حد كتابة السيرة الذاتية، بل تجاوزت إلى الحديث عن أهمية كتابة السيرة الذاتية في إبراز الشخصية كفاعل اجتماعي وسياسي، مشيرة إلى أن هذا المشغل يتوقف على تجربة الكاتب وشخصيته الحقيقية، فلو كان فاعلًا، فعلًا في مجتمعه، فستكون سيرته الذاتية نوعًا من رصد أحداث تاريخية وسياسية وقراءة معمقة في خبايا مجتمعه وقضاياه الحارقة، أما إذا كانت تجربة الكاتب محدودة، فلا أتصور أنه سيجد فيها إغراءً أو إثارةً تجعله يقدمها للقارئ.
مليكة العمراني: مصطلح السيرة الذاتية غير غريب عني، فأنا بالأساس شاعرة، والشعر لا يخلو من السيرة الذاتية
تجربة طريفة على مواقع التواصل الاجتماعي
قدمت الشاعرة والكاتبة مليكة العمراني شهادة اعتبرتها “طريفة” خاصة وقد خاضتها على مواقع التواصل الاجتماعي، ولامست مدى التصاق متابعيها بها، ووقفت على مدى أهمية ما تدون، لا بالنسبة للمارين من هناك، بل لأصدقائها وزملائها.
وأشارت الشاعرة العمراني إلى أن تجربتها تتمثل في ركن يوميات “شاعرة مفرطة في إنسانيتها”، وفيه: “أرصد علاقتي كأديبة وشاعرة ومواطنة بالكتابة، وبما يدور في الوسط الثقافي، إذ أتحدث عن الراهن الثقافي، وعن الوضع العام، وأرصد من خلاله أهم انطباعاتي عما أعايشه يوميًا في بلدي تونس، وأتحدث عن خصوصيات وملامح تجربتي”.
تواصل مليكة العمراني كشف خفايا سيرتها الذاتية، تجربة تقول إنها: “تتمثل في أن مصطلح السيرة الذاتية غير غريب عني، فأنا بالأساس شاعرة، والشعر لا يخلو من السيرة الذاتية، ومن سرد هوية الذات الكاتبة تفاصيلها”، أما بخصوص علاقتها بهذا الجنس الأدبي فقالت: “يعود إلى اهتمامي الشخصي بمجال السيرة الذاتية العربية، وأهمية ما تكتبه المرأة المثقفة، وما يهمني كأديبة أن أعبر عن ذاتي وعن ذات وأوجاع وهموم المرأة المثقفة التي سمحت لها بعض الظروف الموضوعية بأن تمسك بالمشرط وتوجهه نحو الواقع والمجتمع، وتمكنت من التعبير عن خصوصيات الذات، دون خوف، وأن تكسر الممنوعات لتعري زيف الواقع ورداءته”.
يوميات شاعرة مفرطة في إنسانيتها
تتابع الأديبة مليكة العمراني الأحداث اليومية، التونسية والعربية، وتطلق من حين إلى آخر، تدوينات وخواطر على صفحتها الخاصة على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، يجد فيها متابعوها الدفء الذي يقربهم منها، في هذه الليالي الباردة، فهي تقول لهم: “مساء الخير، عسى أن تكونوا على أفضل حال، آثرت اليوم أن أتحدث عن العلاج بالفن، الموسيقى والمسرح ودروس التنمية البشرية والرياضات الروحية على غرار اليوجا، أفضل طريقة من طرق العلاج والتداوي، فهي تمكن من غسل الروح من أدرانها وهمومها وتمنح الذهن صفاء وقدرة على التحمل وتمنح الإنسان طريقة من طرق الراحة والإعلاء وضمان الراحة النفسية، وهذا يمكن أن تتوفر عليه الموسيقى الروحية والصوفية والسمفونيات العالمية وآلات العزف الوترية والنفخية، المسرح الذي يشتغل على حركة الجسد ويكون متوفرًا على نص جميل فيه سخرية أحيانًا.
كل هذه الفنون، إضافة إلى دروس التنمية البشرية التي تشحن الإنسان بالإيجابية، بإمكانها أن تعدل من مزاج الإنسان وتبعده عن الضغط والتوتر النفسي والعصبي”.
وتدون في موضع آخر، وفي شأن تثقيفي فتسأل: “ما العلاقة بين علم النفس والسياسة؟”، ثم تجيب: “سؤال تجدون الإجابة عنه عندما تطلعون على العدد 436 من مجلة عالم المعرفة بعنوان علم النفس السياسي، وهو في ترجمة إلى العربية، وتناول فيه كاتبه العلاقة بين علم النفس والسياسة، باعتبارها دراسة السلوك السياسي، كتاب آخر من مكتبتي أردت أن أحدثكم عنه، أرجو لكم مساءً سعيدًا مع القراءة عن السياسة وليس ممارسة السياسة التي أصبحت تتحكم في كل حواراتنا الخاصة والعامة وتتحكم في وعينا، مليكة العمراني”.
الباحثة منية قارة: الكتابات السير ذاتية النسائية تنوس بين أجناس مختلفة مدارها الذات الكاتبة في بعض محطات حياتها الحاسمة أو المتقلبة
الذات الثائرة وجراح الوطن
من جانبها، أكدت الباحثة والناقدة منية قارة بيبان أنه “رغم إقرار بعض الدارسين بندرة النصوص السيرذاتية في تونس وانحصارها في مدونة محدودة ظلت تستلهم “ظل الزعيم” الحبيب بورقيبة (شكري المبخوت: الزعيم وظلاله، 2016)، ورغم غياب العنصر النسائي في هذه المدونة، فإنه لا يمكن أن نغفل بروز صوت المرأة في ضرب من الكتابات الذاتية قد لا تكون استوفت شروط السيرة الذاتية كما أقرها المنظرون لها، بل نراها تنزع إلى استلهام السيرة الذاتية وتلتزم ببعض قوانينها أو تلتقي معها في تماس طريف”.
هذه الكتابات السير ذاتية النسائية، تشير الباحثة منيرة قارة بيبان، إلى أنها “تنوس بين أجناس مختلفة مدارها الذات الكاتبة في بعض محطات حياتها الحاسمة أو المتقلبة، وهي تشكل عبر ذلك فضاءها السيرذاتي الخاص مع تلوينات مختلفة تضعها أحيانًا على تخوم التخييل الذاتي أو الرواية السيرذاتية أو اليوميات”.
تؤكد ذات الباحثة أنه من هذه الكتابات يمكن تقديم مثالين هما “نزر مما…” لمسعودة بوبكر (2014) و”النجمة والكوكوت” لحفيظة قارة بيبان (2016) حيث يتنزل الكتابان في فضاء مرجعي متشابه تاريخيًا وهو تونس ما بعد ثورة 14 من يناير 2011، ويلتقيان في نزوع واضح إلى تقديم شهادة عن واقع اجتماعي وسياسي عرف رجات عديدة ومناخات متقلبة وغليانًا في الشارع”.
التطهر من جراح الواقع
تواصل الناقدة منية قارة بيبان غوصها في “نزر مما..” لمسعودة بوبكر، مشيرة إلى أن الشهادة عند هذه الكاتبة “تتجاوز تصوير الواقع الخارجي ومناخاته السياسية والاجتماعية المتقلبة وتفاعلها معه في مستوى المشاركة الحسية والفكرية، لتكون الكتابة أيضًا استجابة لأزمة الذات وقلقها في مناخ يسوده الغموض والتقلب ويهدده مجهول يتشكل عبر توجهات عقدية وسياسية تزرع الحيرة وتزلزل الكيان، لذا بدا الخطاب السيرذاتي عند مسعودة بوبكر في كتابها “نزر مما..” لا مجرد شهادة على العصر، بل ضربًا من التطهر من جراح الواقع، وبيان دفاع عن الذات المتهمة عبر إثبات مساندتها المعتصمين في المدن والمنسيين في أعماق الريف وسخطها على المتكالبين على السلطة والمنافقين وتنديدها بعجز السائس وأخطائه”.
أما في كتاب “النجمة والكوكوت”، فقد تشكل الفضاء السيرذاتي في جنس مختلف هو اليوميات، وبدا السيرذاتي في الكتاب أكثر وضوحًا وجرأة في البوح، إذ لم يتخف وراء التخييل كما في كتاب مسعودة بوبكر ولم يلتحف بقناع الرواية، بل رام تقديم شهادة “ليوميات البلاد ويوميات ذات تسكنها الثورة على الدوام وتطير بها الأحلام المستحيلة التي أصبحت ممكنة في وطن خربه استبداد الحكام (ص 11).
الرواية ليست بحثًا علميًا أو تأريخًا لفترة ما وإنما رؤية ذاتية لكل هذه التفاعلات
أهمية كتابة السيرة الذاتية
أشارت الكاتبة حنان جنان إلى أن أهمية الشخصية في الرواية بصورة عامة ووضعها في إطار سياسي أو اجتماعي أو سياق تاريخي معين، يتعلق أساسًا بإرادة الكاتب الذي يمكن أن نقول إنه إلهها أي خالقها، فالرواية ليست بحثًا علميًا أو تأريخًا لفترة ما وإنما رؤية ذاتية لكل هذه التفاعلات، مع الالتزام بقدر أدنى من الوفاء في نقل الأحداث الحقيقية.
وشددت على أنه كلما كان الكاتب مؤثرًا وفاعلًا في مجتمعه من خلال خوضه لتجارب سياسية أو اجتماعية، وكلما كان مرتبطًا أو شاهدًا على حراك سياسي معين، إلا وكانت كتابة السيرة الذاتية مساعدة على إبراز الشخصية وأهميتها في هذا الإطار، بل يمكن أن تكون الرواية (ومن ورائها الكاتب نفسه)، شهادة على عصر ما، في مكان ما، وبقطع النظر عن جنس الأدب الذي نكتبه، يمثل الصدق والجمالية المعيار الأساسي، متى ابتعد الكاتب نفسه عن الموضوعية المطلوبة فقط، في البحث العلمي.
الذات المقاومة للخيبات والانكسارات
اعتبرت الباحثة منية قارة بيبان أن الشهادة دافع أول للكتابة، لكنها تجاوزت البعد الاجتماعي، ولم تكن مجرد شهادة على وطن تغتال أحلامه، بل رسمت ملامح الذات المقاومة للخيبات والانكسارات عبر الفن مجسدًا في رسوم عديدة للفنان التشكيلي (حليم قارة بيبان) وعبر خطاب أدبي يغوص في أعماق الذات ويرسم حيرتها وخوفها على الوطن المحترق احتراق أبنائه ويطرح السؤال الحارق “ماذا فعلنا بالمدينة ؟ ماذا فعلنا بالوطن؟” (ص337).
بدا صوت الكاتبة في “النجمة والكوكوت” منددًا بالتراجع الثقافي المخيف بعد الثورة وإذلال الثقافة، رافضًا تخريب العقول والتواطؤ مع زارعي الألغام في قلب المدينة وعقول الشباب بعد زرعها في الجبال، وتفجير الأجساد في الساحات وتحويل الثورة إلى فتنة.
كتبت حفيظة قارة بيبان في “النجمة والكوكوت” شهادتها بل “صرختها ” على الورق حتى لا تشارك في الجريمة، ولتقود القارئ أيضًا إلى عوالم أخرى يعلو فيها صوت المحبة والجمال عبر الفنون المختلفة، لم تكن اليوميات في”النجمة والكوكوت” فضاءً سيرذاتيًا يرسم هموم الذات الفردية المرهقة والمتوترة بتوتر الواقع المرجعي فقط، بل رسمت أيضًا حلمها بوطن “نعتز به ونفخر”، وكانت صوت المرأة المتحدية للظلمات، وصوت الأرض الباحثة عن الخلاص حتى تغني “النجمة” في السماء.